حزن وسلام فصمت: عن تعادل أخلاقيّ مريح

جداريّة في ديرمواس، المنيا | مبادرة ديرمواس بالألوان

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

صرنا نشبه الأشياء

تختار الأشياء الطريق المريح، حتّى في الفيزياء، عندما يُجْبَر التيّار الكهربائيّ على الاختيار بين طريقين، سيلائم ثقله بشكل نسبيّ مع الطريق الّذي يتضمّن أقلّ كمّيّة من المقاومة، ويجتنب "صدمة الاختبار الأخلاقيّ" بالإجابة عن سؤال: أيّهما مريح أكثر؟ بمعنى: أيّهما الضامن لأقلّ ضرر يمكن أن يلحق بالدائرة الكهربائيّة؟ دون علاقة للخير والشرّ. على هذا الأساس تُبنى خيارات الأشياء. ونحن البشر، خاصّة العقلانيّين منّا، صرنا نشبه الأشياء كثيرًا، إلّا أنّ الراحة عندنا تذهب نحو تعويد القلب والمشاعر على تلك الصدمة - هذا يؤدّي إلى فقدان فاعليّتها في تحريك أخلاقنا وإرادتنا - وليس مجرّد الاطمئنان على المواءمة والتكيّف معها. وقد نضيف، كما يخبرنا عبد الوهاب المسيري، "الذكاء" و"السرعة الذاتيّة" مُعْطَيَيْن لآليّة التقييم، ومن ثَمّ الاختيار الأخلاقيّ والقيميّ.

"سرقوا دهشتي"، قال لي صديق، ورمقني رمقة صفراء، كأنّه يريد منّي، عبرها، التأكيد له أنّ مكان الدهشة ليس فارغًا، فيه شيءٌ ما وُلِدَ من جديد، سنكتشفه غدًا. هذا "الذهاب نحو الراحة" يلخّصه ممدوح عدوان في ما يلي: "نحن لا نتعوّد يا أبي، إلّا إذا مات شيء فينا، وتصوّر حجم ما مات فينا حتّى تعوّدنا على كلّ ما حولنا".

 

الاعتياد/ استيطان الصدمة

في كتابها الحواريّ "الفلسفة في زمن الإرهاب"، تحدّثنا جيوفانا بورادوري عن استيطان الصدمة في الذاكرة؛ آنذاك عادة ما يسعى الضحايا إلى أن يُطَمْئِنوا أنفسهم بأنّهم قادرون على تحمّل الصدمة الّتي يمكن أن تتكرّر. هذا الاستيطان بدأ قصّته معنا منذ قرن من الزمن. وبعد أن اكتسب جيل قد استنزفته الصدمات مناعة، بتنا نعتاد على ما يلي: صدمة، وحزن، وتضامن، وفزعة، ومن ثَمّ مطالبة بتحقيق عينيّ لهذه الحادثة أو تلك، ونكاد ننسى في خضمّ هذه الصدمات لارتفاع وتيرتها، البنى والنظم، الّتي تنتجها وتعيد إنتاجها.

حديثًا، أرسلت قلوبنا سلامها لبيروت. كم حَزِنّا، بصدق، على أجساد تتطاير أشلاء! إلّا أنّ الصدق لا يضمن الحقيقة، فإنّ نظرة من علياء السماء - حيث تسكن هذه الأشلاء الآن - إلى "سلام قلوبنا"، كافية لاستكشاف تعبيره عن "أخلاقنا الزائفة"...

حديثًا، أرسلت قلوبنا سلامها لبيروت. كم حَزِنّا، بصدق، على أجساد تتطاير أشلاء! إلّا أنّ الصدق لا يضمن الحقيقة، فإنّ نظرة من علياء السماء - حيث تسكن هذه الأشلاء الآن - إلى "سلام قلوبنا"، كافية لاستكشاف تعبيره عن "أخلاقنا الزائفة" بفعل الاستيطان، آنف الذكر. لا نحمل أكثر من السلام، من بعيد نلوّح بأيدينا، ونبعث عبره رسالة بسيطة مفادها: لا نريد الالتزام بأكثر منه. لأخلاقنا حدّ لا يتعدّاه. والألم الحقيقيّ سنشعر به لأجلنا نحن؛ فقد نُصاب بما أصابكم، وهذا عزاؤكم الوحيد. ومن ثَمّ، وبتعبير كانط، أيّ فعل آخر لا يقع ضمن الالتزام بالواجب الأخلاقيّ.

إنّه السلام ذاته، لحلب واليرموك وغزّة (يا أخي، ما أكثر مدننا ومخيّماتنا المنكوبة والمنسيّة!). وعلى الفرق الجوهريّ بين هذه "الانفجارات" كان السلام ذاته حاضرًا، وهذه قضيّة بعينها. أيضًا، يشبه السلام هذا سلامنا لجورج فلويد وإياد الحلّاق، أو لـ "طبيب الغلابة".

 

الغلابَة

في الثامن والعشرين من تمّوز (يوليو) 2020، توفّي طبيب في مصر اسمه محمّد عبد الغفار مشالي. قالت الحكاية إنّ ثمن الكشف الطبّيّ تحت عنايته كان زهيدًا، وأكثر من هذا، فقد كان مجّانًا بالفعل للفقراء و"الغلابة". وقالت رواية أخرى إنّ طبيبنا كان يشتري الدواء للغلابة لعدم قدرتهم على اقتنائه.

بعد موت مشالي، كانت أخلاقنا مختبئة وراء الحزن، متمسّكة بمرارة عدم الالتزام لأكثر من السلام، والتضامن والوجع؛ لقد رحل طبيب الغلابة، وهذا عبء أخلاقيّ كبير، نحن لن نهتمّ بعناء تكوين بديل له، وقد يصبح الغلابة من المتردّدين على عيادته دون طبيب، لا قدر واضحًا لهم بعد موته، لكنّنا حَزِنّا، وهذا "تعادل" مريح؛ لهذا يمكننا النهوض غدًا من الفراش لبدء اليوم بشكل روتينيّ، دون أن نسأل كيف صار الغلابة غلابة، ودون أن نأبه بعناء التفكير في هذه القصص الكثيرة، كفصل من رواية نعيشها في هذا العالم.

هؤلاء الغلابة لا نتذكّرهم إلّا بعد الموت، موتهم هنّ وهم، أو موت مَنْ يهتمّ بهنّ وبهم، كأنّنا نرفض هذه الحياة برمّتها، نرفض التفكير فيها. في التفكير خيالٌ ما قاسٍ؛ إذ عند تخيُّل لحظة يُهْدَم فيها هذا البؤس، يظهر اليأس مذكّرًا...

هؤلاء الغلابة لا نتذكّرهم إلّا بعد الموت، موتهم هنّ وهم، أو موت مَنْ يهتمّ بهنّ وبهم، كأنّنا نرفض هذه الحياة برمّتها، نرفض التفكير فيها. في التفكير خيالٌ ما قاسٍ؛ إذ عند تخيُّل لحظة يُهْدَم فيها هذا البؤس، يظهر اليأس مذكّرًا، بلحظات أضحت تجارب وذكريات لجيل حَلُمَ وفعَل من أجل التغيير، في يوم من الأيّام.

 

ستارٌ لخوفنا من المجهول

هنا كان خوفنا فَرِحًا بتفاعلنا الحزين فقط مع الصدمات. فرح لديمومته، الّتي تضمن تأجيل المواجهة والحسم مع الغد ولقاء المجهول، وتتحاشى المغامرة في سبيل تغيير وضعنا القائم، ولنحلُم قليلًا، في سبيل قلب هذا العالم، على بؤسه.

نحن نرضى بالتعادل، ولو المؤقّت. لقد رجونا العودة للحياة "الطبيعيّة" كما كانت قبل تفشّي فايروس كورونا، ولم نقل - ليس كمدرّب تنمية بشريّة كلاسيكيّ - لتكن أزمة كورونا بداية ما، أو محاولة لتغيير نظم توضّحت لنا آلة فعلها في ظلّ الأزمة؛ حتّى هنا كان الرجاء والتضامن مع الماضي سيّد المشهد، لا نُجِد غيره.

هذا الخوف من المجهول، الّذي يحاصر خيالنا عبر تهديده بالماضي، يستمرّ في الحضور على أشكال شتّى: هل ستزداد الأوضاع سوءًا؟ يسألني الصديق (صاحب الرمقة الصفراء) عشيّة تخيّلنا لفعل عمل ثوريّ. لكنّه - أي المجهول - فيه شيء يحثّ على الفعل، ويستشعر مرارة مشاهدة الصدمات تمرّ الواحدة تلو الأخرى دون فعل حقيقيّ، الرغبة؛ رغبتنا في تأكيد وجودنا في هذا العالم تستتر فيه وتخوض حربنا معه؛ إذ يجاهد هو في الحفاظ على توازن يضمن عدم الانزلاق نحو "أخلاق السادة" بكلمات نيتشه، عند إرادة الفعل. ما الّذي سيحصل لو أقدمنا على المجهول؟

هكذا تُكْتَم الإجابة عن السؤال الأخير، وتُترك الأحداث للسير وحدها تراكمًا، بينما نحن نترقّب، برفقة مجهولنا ورغبتنا، "ساعة الصفر".

 

الوضوح يكمن في تفاصيل اللوحة

هاتِ فَلْنُسَمِّ الأشياء بأسمائها: نحن ببساطة شعرنا بغيرة ما من صبايا بيروت وشبابها، أو من السود في الولايات المتّحدة، هنّ وهم في الشارع، يبعثون الأمل، ونحن لا نرى من هذا إلّا اليأس جالسًا في آخر النفق، ونغرق داخل غرفنا وبيوتنا، نلملم دروس ما خبرناه، كلٌّ على حدة، وفي أفضل الأحوال قد "نعبّر عن أنفسنا" في رفع شعارات "ضدّ القتل" دون أن نخدش القاتل، ونصرخ "نحن مقموعون" دون أن نزعج القامع في نومه، دون اصطدام مباشر بالدولة ومواجهة أجهزتها وهي تصول وتجول في حياتنا.

نحن يا صديقي، ما زلنا نرفض إدراك هشاشتنا، لكنّنا نستمرّ في الصراخ: ذراعاي مكبّلتان، وشغفي أُقْصِيَ، ومن ثَمّ اسْتُبْدِلَ به اليأس، لأعيش معه محاولًا ألّا أفقد معنى الحياة، واليأس يتقن هذا "التعايش"...

هؤلاء الشابات والشباب مثلنا، لكنّهم عبء يضرب معادلة تفوّق أخلاقيّ بيننا والمستعمِر، من خلال تأكيد مقاومتنا له، حتّى عبر "لملمة الدروس"؛ فالمظلوم يحظى بالشرعيّة الأخلاقيّة وليس الظالم. هذا تعادل جميل: أنتم الظلمة، ونحن أصحاب التفوّق الأخلاقيّ؛ لهذا حظي الموت في طنطا ومينيابولس واليرموك وبيروت، وباقي الصدمات، بحصّة الأسد من أخلاقنا ومشاعرنا وتفاعلنا، وحظيت الحياة بالفتات. لقد كان يشبهنا أكثر.

نحن يا صديقي، ما زلنا نرفض إدراك هشاشتنا، لكنّنا نستمرّ في الصراخ: ذراعاي مكبّلتان، وشغفي أُقْصِيَ، ومن ثَمّ اسْتُبْدِلَ به اليأس، لأعيش معه محاولًا ألّا أفقد معنى الحياة، واليأس يتقن هذا "التعايش". ثمّ إنّنا لا نجتهد كثيرًا في النبش وراء هذه الأكبال لاجتثاثها؛ فيصير الغضب حزنًا يتحدّث في العموميّات، دون أن يضع يده على تفاصيل اللوحة.

في هذه المصارَحة، وبكثير من الأسف، لا أحمل لكم تضامنًا يصبّ مباشرة في السياسة، ولا تضامنًا يتموضع في سلّم أولويّات نضالي السيّئ الذكر، أو حتّى أملًا كاذبًا، بل هو تضامن لذاته، يهدمها ويبني إرادة للفعل الحقيقيّ.

 

 

جمال مصطفى

 

 

من كفر كنّا في فلسطين. طالب فلسفة وفيزياء، عضو "جفرا - التجمّع الطلّابي في جامعة تل أبيب". يكتب المقالة السياسيّة والثقافيّة في منابر فلسطينيّة وعربيّة.