ماذاعَنِيَّة وماذالَوِيَّة... أن يغدو السؤال إجابة!

ميديا ستاندارد

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

"أخاف أن يصبح هذا الموت في مدينتي، مجرّد سوء حظّ: لماذا كانوا أسفل الطائرة في هذا التوقيت بالذات؟"[1]. بهذه الجملة الشعريّة سخر الشاعر الفلسطينيّ حمزة حسن من الموت العبثيّ في مدينته غزّة، بعد أن فقد كلّ الأجوبة الممكنة لتفسير الموت المكرور، حتّى بات نسقًا عاديًّا لا يستدعي الفجيعة. ولعدم وجود ما يُشْبِع سؤالات الموت، يمكن أن يغدو لوم الضحيّة جوابًا، وهي إجابة/ سؤال تلوم الميّت على موته. هذا التوصيف في عالم الشعر يمكن فهمه بيسر؛ إذ يؤدّي دوره الفنّيّ ببلاغة عالية، لكن أن نجد السؤالات قد صارت تتجوّل منتحلة هيئة الأجوبة في سياقات أخرى، أمر يتطلّب الوقوف عنده وتفتيش جيوبه؛ فكثيرًا ما نجد أمرًا يتكرّر، في سجالات السياسيّين أثناء الحملات الانتخابيّة، ولدى المحلّلين السياسيّين على شاشات التلفزة، وفي حوارات التاكسي والمقهى، وحتّى في المشاكسات البيتيّة الصغيرة! وعلى ذاك؛ فما علامة الاستفهام السحريّة هذه، الّتي تجيب عن كلّ شيء؟

 

ماذا لو كانت الماذاعَنِيَّة؟ ماذا عَنْ الماذالَوِيَّة؟

وقعت في الآونة الأخيرة أحداث جدليّة أثارت الكثير من النقاشات والسجالات، الّتي يُلاحَظ فيها، لغياب الحجّة المنطقيّة، استخدام أحد الطرفين تعبير: "ماذا عَنْ...؟" أو "ماذا لَوْ...؟" إجابةً عن سؤال مطروح، وكما هو واضح من السياق، فإنّ هذا التعبير يُشار إليه بمصطلحَي الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة، الّذي نحاول مَفْهَمَتَه على أنّه تكتيك خطابيّ ذو نمط استفهاميّ بلاغيّ، يُوَظَّف للردّ على سؤال أو دحض حجّة، وبذلك هو نوع من المغالَطات، وتحديدًا مغالطة غير ذات صلة بالموضوع (Irrelevant Fallacy)، أي أنّها خطأ في التفكير. ورغم شيوع هذا التكتيك، إلّا أنّه يظلّ ظاهرة سياسيّة واجتماعيّة وإعلاميّة محيّرة؛ فمع وضوح غرضها التضليليّ في مواقع عدّة، بتأدية دور يسعى إلى تشتيت السؤال الأساسيّ المطروح، إلّا أنّها تعبّر في بعض الحالات عن تساؤلات/ شكوك لها ما يستدعيها.

قد تكون الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة واحدة من محاولات الردّ على الحجج أو الأسئلة، عن طريق تغيير منحى الحوار، أو التوجّه إلى قضيّة أخرى لا صلة لها بالموضوع الأساسيّ، كما قد تكون أيضًا محاولة لجعل قضيّة جيّدة تظهر بصورة سيّئة...

إذن، قد تكون الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة واحدة من محاولات الردّ على الحجج أو الأسئلة، عن طريق تغيير منحى الحوار، أو التوجّه إلى قضيّة أخرى لا صلة لها بالموضوع الأساسيّ، كما قد تكون أيضًا محاولة لجعل قضيّة جيّدة تظهر بصورة سيّئة، من خلال مقارنتها بحالات مختلفة أفضل بمعيار صاحب السؤال الماذاعَنِيّ/ الماذالَوِيّ. ولا يتّسع المجال هنا للخوض في نقاشات قيميّة، في ما لو كان من الأخلاقيّ استخدام المنطق الماذاعَنِيّ/ الماذالَوِيّ وبأيّ حجّة، سواء لأسباب عاطفيّة أو أحكام مسبقة أو حتّى اختلافات أيديولوجيّة، كما لا تبدو مسألة التفكير في ما إذا كانت الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة سيّئة أو جيّدة، مفيدة أو ضارّة، ولا حتّى السؤال عن آثارها. إنّما الأهمّ تشخيص في ما لو كانت السجالات العامّة تنطوي على نوع من المغالَطات، باستدعائها أحداثًا وسياقات غير ذات صلة، عوضًا عن التفاعل الموضوعيّ مع الحدث/ السلوك/ الحالة بعينها، بمعزل عن توجيه الأحكام الأخلاقيّة لصاحب الرأي المغاير.

 

إدراك متأخّر لظاهرة قديمة

كان أوّل مَنْ أشاع استخدام مصطلح الماذاعَنِيَّة (Whataboutism) الكاتب إدوارد لوكاس في مقاله عبر صحيفة "The Economist" عام 2007، توصيفًا للتدريب الّذي تلقّاه مروّجو الدعايات ومُلْقو الخطابات السوفييت خلال الحرب الباردة، حين تعلّموا استخدام إجابة تكتيكيّة تواجه أيّ انتقادات للاتّحاد السوفييتيّ، فتبدأ هذه الإجابة بسؤال "ماذا عَنْ...؟". ويزعم لوكاس أنّ الماذاعَنِيَّة ليست بتكتيك سيّئ دومًا؛ إذ ينبغي وضعها في سياق تاريخيّ وجغرافيّ أحيانًا، كما يمكن أن يُنْظَر إلى الردّ الماذاعَنِيّ على أنّه ردّ فعل مناسب، إذا كان القصد الإشارة إلى نفاق الخصم فقط.

غالبًا ما يُسْتَدْعى خطاب الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة أثناء التراجيديّات والأزمات السياسيّة وحالات الطوارئ، الّتي تُسْهِم في انتشاره؛ ففي هذه الحالات، يهدف الخطاب المستدعي لـ "نظريّة المؤامرة" - بتبنّيه النهج الماذاعَنِيّ/ الماذالَوِيّ - إلى تفسير غير سائد للحدث، من خلال إحالة السبب إلى قيام المتآمرين بأعمال سرّيّة لتحقيق غايات غير قانونيّة، أو إجراميّة، أو شرّيرة. إنّ تفسيرات خطاب الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة في هذه الحالة، تُقَدِّم إجابة سهلة لإشكاليّات معقّدة؛ ففي سياق تنافُس النظام السياسيّ مع خصومه، يتغاضى الخطاب عن الاتّهامات الموجّهة للنظام، وفي المقابل يركّز الحجج حول القضايا الكبرى الّتي تثير مخاوف الجماهير، مثل وجود تهديد للأمن القوميّ، إضافة إلى انتقاء أحداث غير مترابطة، بقصد بناء سرديّة تمكّن الأنظمة على حشد مواليها، وشيطنة خصومها، وبالتالي إضعاف شرعيّتهم وتهميشهم.

بدأت موسكو باستخدام الماذاعَنِيَّة لانتقاد الولايات المتّحدة على تعذيبها المروّع للسجناء في سجنَي أبو غريب وغوانتانامو، رغم أنّ السلطات الروسيّة لا تقلّ وحشيّة عنها، إلى درجة أنّ الصحافيّين وناشطي حقوق الإنسان طبّقوا استعارات مثل "أبو غريب الروسيّة" تجاه السجون الروسيّة السيّئة السمعة. وقد وُظِّفَت الماذاعَنِيَّة بطريقة تبرّر استخدام العنف. تشير حنّة أرندت إلى أنّ حجج الأطراف المتقابلة في صراعات المصالح لا تكون ذات نزعة عقلانيّة أبدًا؛ فالعنف يحتاج إلى مبرّر على الدوام، وإنّ استخدام مثل هذه الحجج في السياقات اليوميّة، يؤدّي إلى صعود أيديولوجيّة عنصريّة تبرّر العنف، الّذي هو في طبيعته أداتيّ، أي وسيلة تتطلّب تبريرًا دائمًا[2].

أوّل مَنْ أشاع استخدام مصطلح الماذاعَنِيَّة (Whataboutism) الكاتب إدوارد لوكاس في مقاله عبر صحيفة "The Economist" عام 2007، توصيفًا للتدريب الّذي تلقّاه مروّجو الدعايات ومُلْقو الخطابات السوفييت خلال الحرب الباردة...

وتبني الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة سرديّة، حسب ما تقتضيه حاجة السلطة السياسيّة؛ فالسرديّة طريقة لصنع الوقائع وإعادة تخيّلها، سواء حقيقيّة كانت أو غير حقيقيّة، وهي الوسيلة الّتي يُشَكِّل من خلالها الإنسان وعيًا حول وجوده، وطريقة فهمه للعالم؛ وبذلك تكون السرديّة في جانب منها طريقة للتعبير عن النفس. وتنطوي الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة - كسرديّة - على محاولة للتخلّي عن المسؤوليّة، إضافة إلى إعادتها ترتيب الأولويّات والتفضيلات. ومن جانب آخر، فإنّ أحد أشكال تجلّي الأيديولوجيا هو الخطاب الماذاعَنِيّ/ الماذالَوِيّ؛ فالماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة مُنْتَج أيديولوجيّ ومنتِجة للأيديولوجيا في آن، وتعمل على احتكار عمليّة إنتاج المعنى والأفكار والقيَم خطابيًّا.

 

تأمّلات في وجوه التكتيك/ الخطاب

يمكن الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة أن تُسْتَخْدَم بهدف توجيه اللوم بعيدًا، والتنصّل من المسؤوليّة إزاء الإشكاليّة المطروحة. على سبيل المثال، تخلّل نقاش التحرّش الأخير عبر منصّات التواصل الاجتماعيّ أصواتٌ تلقي اللوم على المتحرّش أوّلًا، مع وصفه بالمريض والمتخلّف وغير السويّ أخلاقيًّا وعقليًّا ودينيًّا، وعلى الضحيّة ثانيًا لأسباب تتعلّق باللباس أو طريقة المشي أو أسلوب الحديث. وفي أحيان أخرى عُزِيَ اللوم إلى ثقافة المجتمع، مع الإشارة إلى مجتمعات أخرى كالغربيّة، تكاد حالات التحرّش تنعدم فيها، وهي مغالطَة دفاعيّة وهجوميّة في آن، وغير ذات صلة، إلى جانب أنّها تحوير عن المسألة محلّ النقاش، وتفرّع بمناقشة الدوافع والحيثيّات، رغم أهمّيّة التطرّق إلى ذلك عند تناول التحرّش ظاهرةً بطريقة علميّة. تُسْتَخْدَم الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة هنا عوضًا عن الحديث عن بشاعة الفعل والطريقة الصحيحة للتخلّص منه، وبدلًا من محاكمة السلوك في حدّ ذاته، بوصفه انتهاكًا لجسد الضحيّة.

قد تلفت الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة الانتباه أيضًا إلى موضوع شبيه في سياق آخر، وبشكل خاصّ في التفاعل مع "التريندات" العالميّة. هنا، تشتغل الماذاعَنِيَّة بطريقة إثارة العواطف، ومحاولة شحن الطرف الآخر، وفي بعض الحالات تكون من أجل إظهار تفوّق أخلاقيّ تجاه الآخر، الّذي يُصَوَّر على أنّه منحاز انتقائيًّا لقضيّة دون أخرى، وليس منحازًا بشكل شامل تجاه القضايا الإنسانيّة، على الرغم من أنّ استعارة قضيّة إنسانيّة أخرى قد لا تكون أمرًا شاملًا بل انتقائيًّا أيضًا.

لاقت قضيّة مقتل جورج فلويد في الولايات المتّحدة الأميركيّة مثلًا، وما تبعها من حركة "حياة السود مهمّة - Black Lives Matter " الاجتماعيّة، استخدامات واسعة للخطاب الماذاعَنِيّ/ الماذالَوِيّ؛ فكثير من هذه الاستخدامات وصل إلى حدّ استنكار التفاعل مع مقتل فلويد، بينما لم يُعِر العالم اهتمامًا بمقتل الملايين في العالم العربيّ وغيره بسبب الحروب والصراعات. وقارنت استخدامات أخرى بين مقتل فلويد ومقتل إياد حلّاق، الشابّ الفلسطينيّ الّذي اغتالته شرطة الاحتلال الإسرائيليّ. وفي الحديث حول العنصريّة تجاه ذوي البشرة السوداء في الولايات المتّحدة، علّق كثير من المتفاعلين قائلين: "ماذا عن العنصريّة في العالم العربيّ ضدّ المذاهب والأديان والأجناس والجنسيّات المختلفة؟".

الهدف الأكثر شيوعًا من وراء الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة فهو التضليل، وهو ما يمكن أن يُماهي الكذب والحقيقة في السياسة في كثير من الأحيان. تقول حنّة أرندت: "لا شكّ في أنّ الحقيقة والسياسة على علاقة سيّئة ببعضهما بعضًا؛ ولا أحد أبدًا، على حدّ علمي، اعتبر الصدق من الفضائل السياسيّة"...

وتُسْتَخْدَم الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة من باب السخرية أيضًا، بغضّ النظر عمّا يمكن أن يكون لها من آثار، فقد يمكن أن تكون تكتيكًا مبالَغًا فيه. في حالة الدعاية السوفييتيّة أثناء الحرب الباردة على سبيل المثال، وصل استخدامها إلى حدّ إثارة النكات، كأن يتّصل متّصل ببرنامج إذاعيّ ويسأل: "ما متوسّط ​​الأجر للعامل الأميركيّ؟"، فيأتيه الجواب: "هناك يعدمون الزنوج بلا محاكمات"، وهي عبارة - مع انهيار الاتّحاد السوفييتيّ في الثمانينات - أصبحت الأداة الأساسيّة في جهاز الدعاية السوفييتيّة.

أمّا الهدف الأكثر شيوعًا من وراء الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة فهو التضليل، وهو ما يمكن أن يُماهي الكذب والحقيقة في السياسة في كثير من الأحيان. تقول حنّة أرندت: "لا شكّ في أنّ الحقيقة والسياسة على علاقة سيّئة ببعضهما بعضًا؛ ولا أحد أبدًا، على حدّ علمي، اعتبر الصدق من الفضائل السياسيّة"[3]، حيث تُعَدّ الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة من أنواع الردود المتنصّلة بالنسبة إلى السياسيّين، خاصّة في الخطابات العامّة والصحافيّة، الّتي يوجّه إليهم خلالها أسئلة قد تكون محرِجة، أو اتّهاميّة، أو تتعلّق بأمور لا ينبغي الإفصاح عنها للعلن.

يُعَدّ بنيامين نتنياهو أحد أكثر الشخصيّات السياسيّة الّتي تُوَظِّف الماذاعَنِيَّة في خطاباتها، بطريقة يمكن نعتها بالساذجة؛ ففي رفضه لانتقاد موجّه إلى إسرائيل، باعتبارها دولة محتلّة، علّق بنيامين نتنياهو قائلًا: "لقد غزت الإمبراطوريّات شعوبًا واستبدلت بهم شعوبًا أخرى، ومع ذلك لا أحد يتحدّث عنها"[4]. وفي سلسلة من الخطابات والتصريحات العامّة إثر هجمات باريس عام 2015، دعا نتنياهو الولايات المتّحدة والمجتمع الدوليّ إلى النظر إلى الهجمات الفلسطينيّة بالسكاكين والسيّارات ضدّ الإسرائيليّين، بصفتها جزءًا من هجوم عالميّ يقوم به مسلمون متطرّفون ضدّ الديمقراطيّات الغربيّة، محاولًا طمس الخطوط الفاصلة بين الفلسطينيّين، الّذين يحملون أسلحتهم من السكاكين، ومسلّحي تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش)[5]. أمّا في تعليق له على حادثة مقتل الصحافيّ جمال خاشقجي، فقال نتنياهو: "إنّ ما حدث في قنصليّة إسطنبول كان فظيعًا، ويجب التعامل معه على النحو الواجب. ومع ذلك، أقول في نفس الوقت، إنّه من المهمّ جدًّا أن تظلّ السعوديّة مستقرّة من أجل استقرار المنطقة والعالم، أمّا إيران فهي التهديد الأكبر"[6].

وكذلك الأمر بالنسبة إلى الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب، فالماذاعَنِيَّة بالنسبة إليه إحدى الطرائق لتبرير سياساته المستهجَنة بشكل واسع. ففي أثناء إحدى مقابلاته على سبيل المثال، وصف المذيع الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين بأنّه "قاتل"، مستنكرًا استعداد ترامب للتعامل معه، فما كان من ترامب إلّا أن أجابه قائلًا: "يوجد العديد من القتلة، وهل دولتنا بريئة جدًّا؟".

في السياق السياسيّ، تنتشر الماذالَوِيَّة كذلك، الّتي تحمل نوعًا من الوعود الموهومة وبناءً لتوقّعات وآمال، وهي حَرْف للبوصلة، خاصّة إذا كانت موجّهة إلى هؤلاء الّذين يطالبون بتحسينات اقتصاديّة أو سياسيّة...

وفي السياق السياسيّ، تنتشر الماذالَوِيَّة كذلك، الّتي تحمل نوعًا من الوعود الموهومة وبناءً لتوقّعات وآمال، وهي حَرْف للبوصلة، خاصّة إذا كانت موجّهة إلى هؤلاء الّذين يطالبون بتحسينات اقتصاديّة أو سياسيّة. مثال على ذلك الخطاب الشعبويّ، الّذي غالبًا ما يكون موجّهًا للفئات المهمَّشة أو المتدنّية اقتصاديًّا؛ فبدلًا من الإجابة عن المطالب السياسيّة أو الاقتصاديّة، تُقابَل هذه المطالب بخطاب فيه شكل من الإرجاء، أو اعتبار هذه المطالب قضايا مؤجّلة يسبقها على سبيل المثال طرد المهاجرين أو بناء جدار، وهو ما يتسبّب في توجيه النقد، لا إلى النظام السياسيّ، بل إلى عوامل أخرى. وفي استخدام آخر للخطاب الماذالَوِيّ، نجد أنّه يهدف في المقام الأوّل إلى التباكي واليأس، عوضًا عن مواجهة الواقع بإيجاد بدائل فعّالة. ومن بين السجالات الّتي أثارها قرار تحويل "متحف آيا صوفيا" إلى مسجد في 10 تمّوز (يوليو) 2020، تلك الّتي تراوحت بين الاعتدال، والدفاع بشراسة، أو الانتقاد بتطرّف؛ إذ استدعت أصواتٌ حدثَ تحويل المساجد إلى كنائس في أوروبّا، ولا سيّما في إسبانيا بعد سقوط حكم المسلمين في الأندلس، وذلك باعتقادهم سيفضح سياسة "الكيل بمكيالين" تجاه المعالم الدينيّة، وهي مقايضة غير ذات صلة، لاختلاف السياقات والأزمنة والأطراف الّتي ينطوي عليها كلا الحدثَين الجللَين.

حتّى في أثناء تبادل الاتّهامات حول موضوع التطبيع، نجد وجودًا قويًّا للماذاعَنِيَّة، خاصّة في ظلّ موجات التطبيع الجارية حديثًا، وآخرها الترويج للتحالف الإماراتيّ – الإسرائيليّ تحت وصف "اتّفاق سلام"؛ فإذا ما وُجِّه انتقاد إلى أحد الأنظمة العربيّة لمحاولاتها تطبيع العلاقات بالكيان الصهيونيّ، يجيء الردّ بأنّ الفلسطينيّين أنفسهم باعوا قضيّتهم، فلماذا لا يُطَبِّع هذا النظام أو ذاك؟

 

أهمّيّة التمييز وإدراك المغالطات

كي لا نقع في شرك المماهاة بين الأهداف المرجوّة من وراء الخطابات، وحتّى لا يكون المفهوم اتّهاميًّا لمستخدمه، وتفاديًا لنقد النيّة من وراء استخدام سؤال "ماذا عَنْ؟"/ "ماذا لَوْ؟"، ينبغي تحديد الخطّ الفاصل بين "الماذا عَنْ" و"الماذاعَنِيَّة"/ "الماذا لَوْ" و"الماذالَوِيَّة".

إنّ توجيه النقد إلى الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة لا يعني حذف سؤال "ماذا عَنْ"/ "ماذا لَوْ" من قاموسنا. في الواقع، ما كان للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، وحتّى العلوم الطبيعيّة، لتقوم لها قائمة لولا سؤالَي "ماذا عَنْ" و"ماذا لَوْ"، وبدونهما ما تمكّنت البشريّة من تحليل الظواهر وتفكيك الأشياء؛ فالمناهج الكمّيّة بالتحديد قامت على فكرة "ماذا لَوْ؟"، بوضعها مجموعة من المتغيّرات ودراسة العلاقة بينها. "ماذا عَنْ؟" و"ماذا لَوْ؟" منطقان إمبريقيّان يُسْتَخْدَمان للتدليل، وتدعيم الفكرة المطروحة.

لذلك، من المهمّ محاولة رصد سمات ظاهرة "الماذاعَنِيَّة"/ "الماذالَوِيَّة" الخطابيّة أو تحديدها، بالفصل بينها وما دونها عند طرح سؤال "ماذا عَنْ؟"/ "ماذا لَوْ؟". إنّ ما يجعل التمييز مهمًّا، التحقّق إذا كان توجيه الحوار نحو اللامعنى يتقصّد التضليل وتشتيت الانتباه ليس إلّا، والدفاع لمجرّد الدفاع، دون دافع أو سبب من وراء هذا التحوير سوى التغاضي عن تقديم إجابة حقيقيّة أو مباشِرة عن السؤال/ الحجّة، بسبب حمولات أو تحيّزات أيدولوجيّة لدى المجيب؛ أي تحييد النقاش لمواضع أخرى لعدم وجود تبرير كافٍ من قِبَلِ المجيب، فلا تكون الإحالة بهدف التدليل بل لتحوير النقاش إلى منطقة أخرى. كما أنّه يتجلّى عندما ينطوي الخطاب على تحيّز أيديولوجيّ، ويُسْتَشَفّ ذلك من وجود موقف دفاعيّ وفق ما تمليه الأيديولوجيا المتّبعة. هنا يقع المجيب في فخّ الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة ويكون ماذاعَنِيًّا/ ماذالَوِيًّا. ولا يكون كذلك إذا استخدم "ماذا عَنْ؟" لغايات تدليليّة، أو إذا كان الموضوع المطروح يتقصّد التشكيك في قِيَم الشخص المطروح عليه هذا الموضوع أو أخلاقه؛ أي عندما تكون القضيّة المطروحة أصلًا متحيّزة، وإذا كان استخدام "ماذا عَنْ؟" يهدف إلى توجيه الحديث نحو التحيّز الأيديولوجيّ للقضيّة نفسها.

يمكن القول إنّ الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة عبارة عن تركيب منطقيّ، يكون لمتبنّيه غايات من وراء هذا الطرح، بينما "ماذا عَنْ؟"/ "ماذا لَوْ؟" مجرّد سؤال بدافع الفضول أو اكتشاف الدلالات، دون أيّ حمولات أيديولوجيّة أو بواعث تضليليّة...

وعلى ذاك، يمكن القول إنّ الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة عبارة عن تركيب منطقيّ، يكون لمتبنّيه غايات من وراء هذا الطرح، بينما "ماذا عَنْ؟"/ "ماذا لَوْ؟" مجرّد سؤال بدافع الفضول أو اكتشاف الدلالات، دون أيّ حمولات أيديولوجيّة أو بواعث تضليليّة.

في الواقع، ثمّة أهداف لتوظيف الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة في الخطابات المختلفة، ويمكن مختلف هذه الأهداف أن يجتمع أحدها مع الآخر في خطاب ماذاعَنِيّ/ ماذالَوِيّ واحد يؤدّي دورًا مزدوجًا. وإلى جانب أهمّيّة إدراك هذا النوع من المغالَطات، ينبغي كذلك تجنّبها وكشفها في المحاورات، وهو ما يتطلّب توخّي العقلانيّة والابتعاد عن الانجرار وراء الاستمالات والعواطف؛ فالعقلانيّة هي المفتاح لتفكيك الخطاب الماذاعَنِيّ/ الماذالَوِيّ؛ فالمسألة الماذاعَنِيَّة/ الماذالَوِيَّة تكمن نجاعتها في تمكّن مُسْتَخْدِمِها من توظيف خطابه لتشتيت الآخر.

..........

إحالات:

[1] حمزة حسن، القبّعات الّتي تنظر إليك (جدّة: دار إرفاء للنشر والتوزيع، 2019)، ص 123.

[2] حنّة أرندت، في العنف، ترجمة إبراهيم العريس (بيروت: دار الساقي، 2015)، ص 45، 70.

[3] Arendt, Hannah. Truth and Politics in Between Past and Future: Eight Exercises in Political Thought (London: Penguin Books, 1977), p. 227-264, 227.

[4] "Netanyahu compares Israel to settler colonialists," Middle East Monitor, 6/11/2018, accessed on 22/7/2020, at: https://bit.ly/2WLEH9w

[5] William Booth, “Netanyahu wants Palestinian violence linked to radical Islam,” Washington Post, 11/12/2015, accessed on 22/7/2020, at: https://wapo.st/2OM9nU0

[6] “Netanyahu: Events at Istanbul Consulate 'Horrendous,' but Saudi Stability Must Be Maintained,” HAARETZ, 2/11/2018, accessed on 22/7/2020, at: https://bit.ly/3eONqhz

 

 

يارا نصّار

 

 

باحثة فلسطينيّة مُقيمة في الدوحة. حاصلة على بكالوريوس الشؤون الدوليّة من جامعة قطر عام 2017، وماجستير العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة من معهد الدوحة للدراسات العليا عام 2020. تعمل باحثة في مركز دراسات الخليج، ومحرّرة" لمجلّة 28".