الاستشراق صهيونيًّا

مشهد للقدس من جبل الزيتون، 1847 | هربرت ساتلر

 

لا نستطيع فهم الوجود الصهيونيّ في فلسطين، دون استنطاق علاقة هذا الخطاب تاريخيًّا ومعرفيًّا وسياسيًّا بالمسألة اليهوديّة، والمسألة الشرقيّة، وماهيّة الخطاب الصهيونيّ الاستشراقيّ قديمًا وحديثًا. والسؤال البدهيّ هنا: ما الاستشراق الصهيونيّ؟ وما علاقته بديمومة الاحتلال الاستيطانيّ؟ يمكننا القول إنّ الاستشراق الصهيونيّ هو الخطاب السياسيّ والمعرفيّ والأيديولوجيّ الممنهج والمؤسّساتيّ، لدولة إسرائيل الاستعماريّة والاستيطانيّة، الّذي يختزل الفلسطينيّين والعرب باعتبارهم بشرًا متوحّشين، بربريّين، جهلة، قتلة، إرهابيّين، وذلك من خلال تأصيل سرديّتين مركزيّتين: 1- فلسطين أرض بلا شعب، صحراويّة جرداء، وقاحلة. 2- فلسطين قبل 1948، أرض بلا تاريخ ثقافيّ أو تعليميّ أو علميّ.

يبدو أنّ الاستشراق الصهيونيّ امتداد للاستشراق الأوروبّيّ، وشكل جوهرانيّ لخطاب التفوّق الأوروبّيّ، والعولمة، والرأسماليّة، والحداثة العلميّة.

قدّم سعيد في كتابه «الاستشراق» نظرة علمانويّة نقديّة للاستشراقَيْن الفرنسيّ والإنجليزيّ، نموذجَيْن جوهريَّيْن لما يسمّيه سعيد بـ «الشرق المتخيّل»، أو «الشرق المخترع»، الّذي صُوِّر باعتباره الآخر الغرائبيّ والبربريّ اللاعقلانيّ. يبدو أنّ الاستشراق الصهيونيّ امتداد للاستشراق الأوروبّيّ، وشكل جوهرانيّ لخطاب التفوّق الأوروبّيّ، والعولمة، والرأسماليّة، والحداثة العلميّة.

 

من لامارتاين إلى هاكابي

يغيب عن الكثيرين أنّ ما يُسمّى «الصراع العربيّ الإسرائيليّ – الصهيونيّ» منذ نكبة عام 1948، رغم تحوّلاته غير الثابتة، قد شكّل أرضيّة ما بعد استشراقيّة دائمة، جعلت من تصوّرات الغرب الكلاسيكيّة عن العرب المسلمين شكلًا أيديولوجيًّا ثابتًا في الوعي الغربيّ. كانت هزيمة 1967 التجلّي الأكثر عمقًا وتأثيرًا في تاريخ العرب الحديث؛ إذ تُرْجِمَ ببساطة على أنّه انتصار للعلم والتقدّم الغربيّ والصهيونيّ على العرب المسلمين المتخلّفين والبرابرة. كانت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) حدثًا تاريخيًّا أخرج «المارد الاستشراقيّ» من قمقمه، وصارت الحرب على الإرهاب جزءًا مفصليًّا من معركة خطاب الاستشراق الصهيونيّ ضدّ الفلسطينيّين والعرب المسلمين.

بقي الغرب الرسميّ متعاطفًا مع إسرائيل الحديثة، ومعاديًا للعرب المسلمين، بل إنّ الغرب الإمبرياليّ بقيادة أمريكا هو الداعم الأوّل للمشروع الصهيونيّ، ولا سيّما في ظلّ تواطؤ آلة الإعلام والأكاديميّة الغربيّة مع إسرائيل، وشيطنة الفلسطينيّين. ربّما كانت حادثة طرد ستيفين سلايطة من «جامعة ألينوي» الأميركيّة؛ بسبب مواقفه المناهضة لإسرائيل، مثالًا صادمًا لدى الكثيرين. لا ننسى أنّ الإعلام الرسميّ الأميركيّ شيطن الكثير من المفكّرين الجماهيريّين المناهضين للمشروع الصهيونيّ على رأسهم إدوارد سعيد، وكورنيل ويست، ونعوم تشومسكي، وجوزيف مسعد، وستيفين سلايطة وغيرهم.

قام حاكم ولاية آركنساس الأميركيّة الأسبق، مايكل هاكابي، بزيارة إسرائيل عام 2015، وبعد عودته من الزيارة صرّح بكلّ وقاحة: "لا يوجد شيء اسمه الفلسطينيّون". قبله بقرنين تقريبًا، زار المستشرق الفرنسيّ لامارتاين فلسطين، عام 1833 تحديدًا، وكتب كتابه الموسوم بـ «رحلة الشرق»، ورغم لقاءاته بالعديد من الفلّاحين وسكّان المدن والقرى أصحاب البلاد العرب، لكنّه كتب تقريرًا مقتضبًا للحكومة الفرنسيّة، يذكر فيه أنّ هذه الأراضي المقدّسة "أرض بلا شعب"!

 

كاليبان غير الأوروبّيّ

يذكّرنا إدوارد سعيد في مقاله «فكرة فلسطين»، أنّ المسألة الشرقيّة ممتدّة منذ القرن التاسع عشر، فقد اسْتُبْدِلَ الشرق بالمسألة الشرقيّة، رغم أنّ كليهما وجهان لعملة واحدة. وفي نفس القرن، استعمرت الدول الاستعماريّة الأوروبّيّة ما نسبته 85% من الكرة الأرضيّة، الّتي كان للشرق نصيب الأسد من هذه التركة الاستعماريّة المرعبة. فكلّ ما نعرفه عن رومانسيّة الشرق في الإرث الاستشراقيّ، قد سبقه مشكلات التعامل مع الشرق، ثمّ تبعه تراكم الصراعات الّتي خاضتها شعوب الشرق للحصول على الاستقلال (ص 3، 1978). لكن يبدو أنّ عبارة «المسألة الشرقيّة» قد أضافت عبئًا أيديولوجيًّا ولغويًّا جديدًا، وهو أنّ الشرق في ماهيّته وهويّته الجيوسياسيّة والثقافيّة، هو مسألة محفوفة بالمخاطر والغموض، والمشاكل الحضاريّة والثقافيّة الّتي تحتاج إلى تدخّل الغرب الاستعماريّ، في مهمّته الإمبرياليّة الكلاسيكيّة لإنقاذ الشرق المظلم من الجهل والتخلّف والاستبداد واستعباد المرأة؛ ممّا يفسّر استخدام شكسبير وهيغل وماري وولونستونكرافت ومونتيسكيو وماركس وغيرهم، مصطلح «استبداد الشرق» أو «طغيان الشرق».

نحن أمام أسطورة ما بعد حداثيّة تروّجها إسرائيل عن نفسها، لكنّها تستمدّ مادّتها الأولى والتأسيسيّة من ديمومة الخطاب الاستشراقيّ الصهيونيّ، الّذي لا يتوقّف عن تقديم نفسه بوصفه امتدادًا للحداثة الأوروبّيّة...

اتّكأ خطاب الاستعمار الاستيطانيّ الإسرائيليّ في فلسطين على سرديّة الاستشراق الأوروبّيّ الكلاسيكيّ، وذلك من خلال تعمية التاريخ الفلسطينيّ، واختطافه، ومحاولة تطهيره ثقافيًّا وتاريخيًّا وسياسيًّا، بل إنكاره أيضًا، باعتبار فلسطين أرضًا بلا شعب لشعب بلا أرض، وأنّه لا وجود أصلًا للفلسطينيّين، كما صرّحت جولدا مائير عام 1969. ظلّ الخطاب الصهيونيّ الاستيطانيّ متّكئًا على سرديّة مركزيّة، وهي أنّ دولة إسرائيل الصورة الديمقراطيّة والتقدّميّة والليبراليّة الوحيدة في الشرق الأوسط، الّتي استمدّت مركزيّتها من الليبراليّة الأوروبّيّة؛ فبقيت صورة الكيان الصهيونيّ محاكاة أيديولوجيّة لروما الجديدة المحاطة بالبرابرة (من العرب والفلسطينيّين)، بحسب جوزيف مسعد.

إذن، نحن أمام أسطورة ما بعد حداثيّة تروّجها إسرائيل عن نفسها، لكنّها تستمدّ مادّتها الأولى والتأسيسيّة من ديمومة الخطاب الاستشراقيّ الصهيونيّ، الّذي لا يتوقّف عن تقديم نفسه بوصفه امتدادًا للحداثة الأوروبّيّة، وترجمة للتقدّم والديمقراطيّة والليبراليّة والدولة المدنيّة. والدولة المدنيّة بالمفهوم الصهيونيّ تعرّف نفسها من خلال فعل الاختلاف والتناقض مع العرب المسلمين، بوصفهم الآخر المتخلّف، والآخر المتوحّش، على طريقة مسرحيّة العاصفة؛ إذ يرى بروسبيرو السيّد الأبيض شخصيّة كاليبان الآخر المسخ، علمًا أنّ كاليبان هو أحد سكّان الجزيرة الأصليّة، الّتي استولى عليها بروسبيرو الّذي انقلب عليه أخوه أنطونيو، فصار كاليبان استعارة كونيّة للآخر اللاأوروبّيّ، بوصفه اللاعقلانيّ، والشهوانيّ، والحيوانيّ، والمتوحّش، والمتخلّف.

 

اقتلاع

ولأنّ الاستشراق الصهيونيّ متشابك مع الاستشراق الأوروبّيّ والأميركيّ، فهو يوظّف المعرفة لخدمة السلطة والأيديولوجيّة، كما يذكّرنا ميشيل فوكو وإدوارد سعيد وألتوسير وغيرهم، فليس مستهجنًا مثلًا أنّ يهودا عميحاي قد شارك في الجيش البريطانيّ قبل النكبة، وكان جنديًّا في «الهاجاناة» في حرب 1948، وظلّت الاستعارة العسكريّة الاستشراقيّة ممتدّة في شعره حتّى وفاته.

والأكثر خطورة أنّ ثمّة ممارسات عسكرة ممنهجة نتج عنها تعاون معرفيّ وأيديولوجيّ معمّق بين مؤسّسات الأبحاث الاستشراقيّة الإسرائيليّة وبين أجهزة الجيش. صدرت سلسلة كاملة عن «وزارة الدفاع الإسرائيليّة»، الّتي شكّلت مشروعًا صهيونيًّا مؤدلجًا عن صورة الإسلام والعرب، شارك فيه نخبة من الباحثين، عمل بعضهم في مؤسّسات الجيش، قبل انتقالهم إلى العمل الأكاديميّ. يفسّر لنا هذا بالطبع لجوء الباحث والمؤرّخ إيلان بابيه لبريطانيا في التسعينات؛ بسبب أفكاره الراديكاليّة المعادية للصهيونيّة.

ولأنّ الاستشراق الصهيونيّ متشابك مع الاستشراق الأوروبّيّ والأميركيّ، فهو يوظّف المعرفة لخدمة السلطة والأيديولوجيّة، كما يذكّرنا ميشيل فوكو وإدوارد سعيد وألتوسير وغيرهم...

ومن الجدير بالذكر أيضًا العلاقة التاريخيّة الأيديولوجيّة بين «صندوق الاكتشاف الفلسطينيّ» الّذي أُسّس عام 1865، وبين الحركة الصهيونيّة الاستشراقيّة. تلخّصت وظيفة هذه المؤسّسة الصهيونيّة بإصدار نشرات دوريّة وخرائط استعماريّة تخطيطيّة، وتقارير مسح للأراضي الفلسطينيّة؛ إذ كان الضابط واطسون مسؤولًا مهمًّا لهذه المؤسّسة، الّتي ساهمت في تمهيد الطريق ‘معرفيًّا‘ لاحتلال فلسطين، واقتلاع الفلسطينيّين من أرضهم.

 

الأدب المتحايل: عوز وعميحاي

يؤكّد ناثان زاك أنّ الأدب الإسرائيليّ أصبح أدبًا يخلو من العالم المادّيّ والتاريخيّ؛ بمعنى أنّه أدب يرفض الوجود الفلسطينيّ التاريخيّ، ويتحايل على العالم من خلال أنسنة نفسه، ومن خلال تأصيل صورة الفلسطينيّ بوصفه الغائب الأبديّ، أو الإرهابيّ المتوحّش. وهذا الإسقاط ينسحب على عاموس عوز ويهودا عيمحاي، رغم اختلاف أسلوب كلٍّ منهما ورؤيته، لكنّها رؤية صهيونيّة كارهة للفلسطينيّين، وتستند على سرديّات محو الآخر وإبادته، واختطاف تاريخه وثقافته.

يذكّرنا المؤرّخ الفلسطينيّ نور مصالحة والمؤرّخ الإسرائيليّ إيلان بابيه، أنّ ميكانزمات المحو الثقافيّ الصهيونيّ تجلّت أيضًا في عَبْرَنَة الثقافة والجغرافيا الفلسطينيّة وصَهْيَنَتِها، وتحويل أسماء القرى والمدن والأمكنة لأسماء عبريّة، ما شكّل وجهًا بشعًا وممنهجًا للاحتلال الصهيونيّ الاستيطانيّ، وسياسات التطبيع الاستشراقيّ الثقافيّ.

تبدو لنا سرديّات الصهيونيّة الاستشراقيّة، ولا سيّما تلك الّتي يمثّلها بعض الكتّاب الصهاينة، شكلًا أيديولوجيًّا وإبستمولوجيًّا خطيرًا، يعيد بثّ الحياة في الاستشراق الغربيّ الكلاسيكيّ، ويمنحه تأويلًا تاريخيًّا وتخييليًّا ثابتًا وممنهجًا؛ فصورة الفلسطينيّين لدى عاموس عوز، الروائيّ الإسرائيليّ، تتمثّل برمزيّة العنف والقتل والإرهاب، ووصف الفلسطينيّين بأنّهم قنابل موقوتة تدبّ على الأرض، وتتحكّم بها أجندة خارجيّة، هي إيران الأصوليّة حسب وصفه. والمطّلِع على مشروع يهودا عميحاي الشعريّ، الّذي يُعَدّ من أهمّ شعراء إسرائيل، يدرك كيف أنّ قصائده عن القدس وفلسطين تكاد تخلو تمامًا من الفلسطينيّين، بل هي امتداد للسرديّات التوراتيّة القديمة المزيّفة، الّتي يحاول من خلالها عميحاي أن يقول، في غير موضع، إنّ فلسطين هي فعلًا أرض داود وأرض الميعاد، وأنّ الفلسطينيّين هم رمزيّة الغياب شعبًا وكيانًا وصيرورة.

نحن، إذن، أمام سرديّتين مركزيّتين: الذاكرة الاستعماريّة الاستيطانيّة، الّتي يمثّلها الكيان الصهيونيّ، والنسيان الممنهج الّذي يمارسه الكيان الصهيونيّ والداعمون له في الولايات المتّحدة والغرب والمنطقة العربيّة.

يذكّرنا المؤرّخ الفلسطينيّ نور مصالحة والمؤرّخ الإسرائيليّ إيلان بابيه، أنّ ميكانزمات المحو الثقافيّ الصهيونيّ تجلّت أيضًا في عَبْرَنَة الثقافة والجغرافيا الفلسطينيّة وصَهْيَنَتِها...

والمتتبّع لمشروع عميحاي الشعريّ منذ الخمسينات، يلمح تشبّث عميحاي بالهويّة الإسرائيليّة الوطنيّة، وانتماءه للدولة الإسرائيليّة باعتبارها دولة المواطنة وأرض الميعاد والسيادة. إنّ مشروع عميحاي الشعريّ والجماليّ متناقض أخلاقيًّا وتاريخيًّا مع واقع الاستعمار الصهيونيّ، وخاصّة عندما يعتبر عميحاي نفسه مواطن هذا العالم، على طريقة الفيلسوف سقراط؛ ما يمنح تشريعًا أيديولوجيًّا لممارسات الاستبداد والاستيطان المتوحّشة في فلسطين. لا يتورّع عميحاي من تسمية الفلسطينيّين كنظيره عاموس بـ «الأعداء»، في الوقت الّذي يؤنسن فيه محمود درويش، وسوزان أبو الهوى، وإميل حبيبي، وإلياس خوري، يؤنسنون اليهود، ويفرّقون بين المكوّن اليهوديّ والكيان الصهيونيّ.

ويذكّرنا رشيد الخالدي في كتابه الأخير «مئة عام من الحرب على فلسطين»، بأنّ الانتداب البريطانيّ قد شرّد وجرح وسجن 10% من الفلسطينيّين خلال قمع ثورة 1936-1939، وفي عام 1932 وصلت هجرة اليهود إلى فلسطين بسبب الجرائم النازيّة إلى 18%، وإلى نسبة 31% عام 1939. والقارئ المطّلع على الأدب والسرديّات الصهيونيّة يلاحظ اتّكاء هذه السرديّات على مصادر الاحتلال البريطانيّ والاستشراق الأوروبّيّ، وإعادة إنتاج الأساطير االتوراتيّة والعهد القديم والاستشراق الغربيّ، واستخدام «الهولوكوست» خطابًا للضحيّة الأبديّة؛ لتبرير وجود إسرائيل الّتي اخْتُرِعَت.

 

حرب الخطاب والثقافة

ظلّت عبارة الكاتب الإنجليزيّ الصهيونيّ إسرائيل زانغويل "فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" شبحًا يطارد السرديّات الفلسطينيّة، بل العالميّة أيضًا في صورتها المقاومة والحيويّة والسياسيّة والأيديولوجيّة، وصورة مركزيّة للخطاب الصهيونيّ والاستعمار الاستيطانيّ: بقاء دولة إسرائيل مرهون بديمومة المسألة الفلسطينيّة، ولعبة السلام، والوسطاء الأميركيّين والعرب، والاستشراق الصهيونيّ، والدعم الأميركيّ لفاشيّة إسرائيل، ونظام الأبرتهايد، والتوسّع الاستيطانيّ، والتغوّل الهمجيّ والاستبداديّ، ومحاصرة غزّة وتحويلها إلى أكبر سجن في العالم، ومحاولات الكيان الصهيونيّ المُمَنْهَجَة، ومن خلال الوسائل المؤسّساتيّة والقانونيّة، والأيديولوجيّة، والسرديّة؛ لخنق فضاء الفلسطينيّ الخاصّ والعامّ والسرديّ والتاريخيّ، داخل فلسطين وخارجها. ظلّت متلازمة «الهولوكوست» ذريعة للمشروع الصهيونيّ لتبرير احتلالهم لفلسطين، وظلّ خطاب معاداة الساميّة يطارد كلّ مَنْ يحاول نقد إسرائيل، ونزع الحصانة التاريخيّة والأخلاقيّة عنها.

هي حرب أيديولوجيّة وثقافيّة ووجوديّة وسرديّة إذن، وهل بدأت المعركة قبل نشوء أسطورة إسرائيل الديمقراطيّة، بوصفها ممثّل الغرب الليبراليّ ومن تجلّيات الحداثة الأوروبّيّة المتوحّشة، الّتي تعيد تفسير الشرق للغرب؟ بل هي كما يزعم الصهاينة والغرب الاستعماريّ الصورة الأكثر عقلانيّة في فلسطين، «أرض الميعاد» و«أرض يهودا» أو «أرض داود» - كما يزعمون - الّتي تسعى الصهيونيّة إلى اختراعها من جديد باسم العهد القديم والعهد الجديد، بل الرجوع أيضًا إلى التراث الإسلاميّ، ونبشه بأدوات المستشرق الغربيّ الكلاسيكيّ، وإعادة تأسيس كلّ الأساطير التوراتيّة، الّتي لم تصمد أمام حفريّات الكثير من المؤرّخين والمنظّرين، أمثال وليد الخالدي، وزئيف هرتسوغ، ونور مصالحة، وإيلان بابيه، ورشيد الخالدي، وعزمي بشارة، وفيليب مطر.

النكبة فعل تدميريّ مستمرّ، وليست حدثًا ينتمي إلى الماضي؛ فهي أقرب إلى كلّ ما يمكن أن نستخلصه من صدمة الاقتلاع والتشريد، ونظام الفصل العنصريّ، والمنفى ومخيّمات اللاجئين...

يبيّن زئيف هرتسوغ مثلًا أنّ الإسرائيليّين لم يسكنوا أرض مصر، ولم يخرجوا منها، ولم يحدث الغزو المزعوم، ولم يكن أصلًا ثمّة ذكر لإمبراطوريّة داود وسليمان أو حتّى مملكة داود، قبل نحو ألف عام.

النكبة فعل تدميريّ مستمرّ، وليست حدثًا ينتمي إلى الماضي؛ فهي أقرب إلى كلّ ما يمكن أن نستخلصه من صدمة الاقتلاع والتشريد، ونظام الفصل العنصريّ، والمنفى ومخيّمات اللاجئين، وحقّ العودة الّذي حوّله قادة «اتّفاقيّة أوسلو» إلى مسرحيّة تحاكي نصّ صامويل بيكيت «في انتظار جودو». لكنّ الشعب الفلسطينيّ يثبت قدرةً مستمرّةً على إيجاد الفضاء الحيويّ الخلّاق للمقاومة داخل فلسطين وخارجها.

.........

مرجعيّة

- كنفاني، غسّان، رجال في الشمس، ط 2 (الدار البيضاء، المركز الثقافيّ العربيّ، 1980).

- Khalidi, Rashid, The Hundred Year’s War on Palestine: A History of Settler Colonial Conquest and Resistance, 1st edition, (Britain, Profile Books Ltd, (2020).

- Masalha, Nur, Palestine: A Four Thousand Year History, 1st edition, ( Britain, Zed Books, (2018).

- Massad, Joseph, The Persistence of the Palestinian Question: Essays on Zionism and the Palestinians, first edition, (New York, Routledge (2006).

- Said, Edward, Orientalism, 5th edition, (London, Penguin, (2003).

- Said, Edward, “The Idea of Palestine in the West,” Middle East Research and information Project, No. 70 (1978). 3-11.

 

 


تيسير أبو عودة

 

 

 

باحث وشاعر فلسطينيّ يقيم في الأردنّ، متخصّص في الأدب المقارن ودراسات ما بعد الاستعمار.