حول كتاب عزمي بشارة «في الإجابة عن سؤال: ما السلفيّة؟» (1/3)

غلاف كتاب «في الإجابة عن سؤال: ما السلفيّة؟» لعزمي بشارة

 

يقدّم شمس الدين الكيلاني في هذه المقالة مراجعة لكتاب عزمي بشارة، «في الإجابة عن سؤال: ما السلفيّة؟» الصادر عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات» (2018). في القسم الأوّل يضع الكيلاني الكتاب في سياق انشغالات بشارة الفكريّة السابقة والحاليّة، وكذلك الإشارة إلى موقع سؤال السلفيّة من مسائل الدين والعلمانيّة، وسؤال المثقّف والسلطة، والديمقراطيّة، والحداثة، وهي الأسئلة الّتي شغلت بشارة في أعمال فكريّة سابقة مثل «الدين والعلمانية» (المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2012-2014)، و«المسألة العربيّة: مقدّمة لبيان ديمقراطي عربي» (مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2007).

لا يتّبع الكيلاني في مراجعته للكتاب نمط التقسيم ذاته الوارد في الكتاب، فيبدأ في القسم الثاني من المقالة، بمراجعة المنهجيّة التاريخيّة الّتي جمعت بين الاجتماعيّ – السياسيّ، والفرديّ، والأنثروبولوجيّ، لتحليل ظاهرة السلفيّة ونشوئها.

***

 

سؤال السلفيّة عند عزمي بشارة

يبسط الدكتور عزمي بشارة، في فاتحة كتابه عن سؤال السلفيّة، الإشكالات الّتي تحيط باستخدام مفهوم «السلفيّة»، وتداوله في مجال النقاش والكتابة، فقد أحاطه الباحثون بالتبسيط المُخلّ أو بالتواتر الفارغ، لذا؛ وجد نفسه بشكل مبكّر في مواجهة مهمّة غاية في التعقيد، تفرض عليه فكّ عقد هذا المفهوم، فمنذ أن شرع قبل سنوات في تحقيق كتاب تراثيّ؛ أي قبل نشره كتابه الموسوعيّ «الدين والعلمانيّة في سياق تاريخيّ»، الّذي يمكن عدُّه بحثًا معمّقًا في نشوء الحداثة في سياقها التاريخيّ، من خلال الممارسة الفعليّة وفي تطوّر الفكر، ويصلح أن يكون درسًا بيداغوجيًّا عن الحداثة كما حدثت بالفعل في التاريخ الأوروبّيّ والغربيّ عمومًا[1]. ولقد لازم بشارة هذا الاهتمام بمفهوم السلفيّة في سياق اهتمامه الكبير بالتجربة السياسيّة والحضاريّة الإسلاميّة، وهو ما تجلّى في فاتحة مؤلّفاته، وفي صدرها «المسألة العربيّة»، ثمّ تحوّل هذا الموضوع (السلفيّة) إلى رأس الأسئلة الّتي داهمته؛ من خلال تفكُّره في المسألة الإسلاميّة عمومًا، وفي حركة الإسلام السياسيّ (في كلّ تفاصيلها: «الإخوان المسلمين»، و«السلفيّة الجهاديّة»، و«تنظيم القاعدة» مع عدوّها الحميم: «تنظيم داعش»)، والّتي بَرَزَ دورها المتعاظم (السلبيّ والإيجابيّ) في ثورات الربيع العربيّ الّتي لا تزال أسئلتها تلوح في الأفق؛ فلقد  تزايد اهتمامه المُلحّ بـ«المسألة السياسيّة الإسلاميّة» في قلب سؤاله الأوسع والأشمل، والأكثر مصيريّة، الّذي يتمحور حول ثورات الربيع العربيّ، الّتي على مآلاتها يتوقّف مسار المستقبل العربيّ برمّته.

السلفيّة أصلًا ليست واحدة، فلا نستطيع رؤيتها إلّا بتعدّدها. فلا يمكن، حسب بشارة، الركون إلى تعريفها الشائع، الّذي يمكن تلخيصه بمعنى "العودة إلى الكتاب والسنّة، ونبذ البدع والمُحدَثات...".

 فكانت «السلفيّة» من الموضوعات الّتي طرحها التاريخ الراهن، ولقد عالج بشارة موضوعات هذا التاريخ الفوّار بالأحداث والأفكار والرجال الباحثين عن التغيير والمصير، ليس من زاوية نظر المثقّف التقنيّ (كاتب التقارير "الموضوعيّة" لمن يستفيد)، دون اكتراث بمصائر البشر، ولا من وجهة نظر متعالية لمشهد موارٍ بالحركة، متأمّلًا المشهد من علٍ، ينتظر خفوت الأصوات ليقول: كنّا قد نبّهنا! على طريقة المثقّفين المتحذلقين في زمن التراجع، ولم يكتب من موقع المعادي للجموع المليونيّة الّتي طالبت بالحرّيّة والعدل، فهو لم يتردّد في إعلان ليس تضامنه الفعّال معها فحسب، بل جَهَرَ بانتسابه إليها، فكتب العديد من الكتب عن الثورات العربيّة من موقع الالتزام بقضاياها والتعلّق بمصيرها. فمن كتابه عن الثورة التونسيّة إلى كتابه عن الثورة المصريّة، والثورتين السوريّة والليبيّة، وعشرات الدراسات واللقاءات، فاحتلّت حركات الإسلام السياسيّ أبوابًا وفصولًا في هذه الكتب والدراسات، بما فيها الحركات السلفيّة. لقد وضع نفسه دون تردّد في قلب هذه الجموع من خلال فكره؛ فعاين كلّ المسائل الّتي أثارها ذلك الحدث التاريخيّ العظيم؛ وذلك للبحث عن أفضل الطرق للنجاح وتجنُّب العثرات، والكشف دون هوادة عن الأخطاء إن وجدت. ووقف دائمًا مع الجمهور في طموحاته نحو الحرّيّة وضدّ أنظمة القمع، وأَظْهَرَ من البداية خطورة الدور المدمّر (المضادّ للثورة)، الّذي قام به «تنظيم الدولة» (داعش) وأمثاله في مجريات الأحداث؛ فأتت دراسته النقديّة  للسلفيّة ولـ «داعش» في مجرى محاولة فهم مغزى ما جرى، ولاستخلاص الدروس المستفادة لمستقبل الحركة الديمقراطيّة العربيّة؛ فشكّلت في حدّ ذاتها حصيلة خبرته الفكريّة والبحثيّة مع الربيع العربيّ الكبير.

وقد تَواقَتَ انشغاله بالإجابة عن سؤال السلفيّة، مع شروعه في الوقت نفسه بالإشراف وتحرير دراسة عن تنظيم «داعش»، صدرت في كتاب جماعيّ في جزأين لـ «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات»، احتلّت دراسته الجزء الأوّل وحَبَّة العقد فيه، وكان إصداره عقب إصدار كتابه هذا عن السلفيّة، واختار - كما صرّح بذلك - أن ينشر بحثه عن السلفيّة في عمل مستقلّ عن كتابه عن «داعش»؛ كي لا يظنّ البعض أنّه - أي بشارة - يرى في السلفيّة الحاضنةَ الطبيعيّة والمنطقيّة لولادة تنظيم «داعش»؛ فرغم الصلات المفهوميّة بين «داعش» والسلفيّة، فإنّ تحوّلات السلفيّة ليست منوطة بمسار واحد نحو «داعش»، بل إنّ تاريخها يُنبّئ بمسارات وأطوار وأشكال متعدّدة؛ فهو يرى أنّ مصطلح السلفيّة ليس بسيطًا يحتمل جوابًا جاهزًا واحدًا، بل هو "مصطلح أكثر إثارة للأسئلة النقديّة ... والتعمّق فيه وتفكيكه ما زالا مفيدَين". وهو مصطلح له تاريخ وسياق تاريخيّ، أجرى عليه الزمن وعلى دلالاته تحوّلات. والسلفيّة أصلًا ليست واحدة، فلا نستطيع رؤيتها إلّا بتعدّدها. فلا يمكن، حسب بشارة، الركون إلى تعريفها الشائع، الّذي يمكن تلخيصه بمعنى "العودة إلى الكتاب والسنّة، ونبذ البدع والمُحدَثات"[1]. هذا الهاجس بضرورة البحث في السلفيّة، والسؤال الدقيق عنها، لم يغادرا تفكير المؤلّف، ولا سيّما "أنّ الموضوع صار راهنًا، مرّة أخرى، بعد صعود «تنظيم الدولة الإسلاميّة» (داعش)، مثلما حصل في مرحلة صعود «القاعدة» بعد حوادث11 سبتمبر". (المصدر نفسه، ص 10).

 

 ليس هناك - حسب بشارة - من عامل فكريّ واحد وراء نشوء فكرة أو تجدُّدها، وليس هناك من خطّ فكريّ واحد يمتدّ من ابن حنبل إلى «داعش»، مرورًا بابن تيمية ثمّ محمّد عبد الوهّاب، يتمّ توليد حلقاته من داخله...

 

فصول الكتاب 

يتألّف الكتاب من مقدّمة للمؤلّف وأربعة فصول؛ بهدف البحث عن معنى السلفيّة، ودورها التاريخيّ، ووظيفتها الاجتماعيّة في سياق الحركة الاجتماعيّة ولعبة المصالح. يتضمّن الفصل الأوّل دراسة معمّقة لمعاني السلفيّة، وعلاقة هذا المفهوم بمفهوم الأصوليّة، وبنقد التعريفات الّتي تزيد الظاهرة غموضًا، ولا تكشف عن فحواها ودلالاتها التاريخيّة والاجتماعيّة، فيحاول أن يُميط اللثام عن التعارض بين المفهومين السلفيّة والأصوليّة، الّذي روّجه بعض المستشرقين، والاختلاف في دلالاتهما. ويبحث في الفصل الثاني عن مفهوم "التكفير"، وتاريخيّة ظهور هذا المفهوم في دائرة الفتنة، فيعود إلى كيفيّة استخدامه من الخوارج والمرجئة والعديد من الفقهاء. ويتوقّف عند فتاوى ابن تيمية، وتمييزه بين التكفير المطلق والتكفير المعيَّن. يتناول في الفصل الثالث السلفيّة والحركات الإسلاميّة، يَعْقِدُ فيه نوعًا من المقارنة بين السلفيّة وغيرها من الحركات، مشدّدًا على مقولته القائلة إنّ السلفيّة والحركات الإسلاميّة هي بنت الحداثة، في ما يخصِّص الفصل الرابع بشكل خاصّ لمقاربة الحركة الوهّابيّة، والمقارنة بينها وبين الحركات الإسلاميّة الجهاديّة، وخاصّة «تنظيم الدولة» (داعش). غير أنّ بشارة ترك أبواب فصول مشرعة على بعضها؛ فكثير من الموضوعات والمفاهيم والأفكار تجدها متداخلة بين هذه الفصول. لذا؛ عملنا على تقسيم موضوعات الورقة إلى عناوين مختلفة، متوخّين من ذلك التقسيم تسهيل عمليّة البحث في تلافيف الكتاب وأروقته، ولنعبِّد الطريق لتعرُّف موضوعاته وأفكاره المختلفة.

 

 منهجيّة تاريخيّة تجمع الاجتماعيّ - السياسيّ بالفرديّ والأنثربولوجيّ 

يضع بشارة نفسه خارج دائرة المنهجيّة التفسيريّة الخطّيّة التوليديّة لتاريخ الفكر والمُعتقَد؛ ليضع قُرّاءه في قلب التاريخ وسياقاته، وداخل شبكة تأثيراته المتشابكة والمعقّدة، والمتلاحمة بموشور العلاقات الاجتماعيّة والأنثروبولوجيّة؛ فلا تبدو لبشارة العودة إلى السلف الصالح مجرّد ردّ فعل على الحداثة فحسب، فهي أيضًا جزء من آليّات الحفاظ على الذات في الأزمات الكبرى. هذا حال ابن تيمية بعد سقوط الخلافة العبّاسيّة، ويماثل ذلك ما أعقب انهيار الإمبراطوريّة العثمانيّة من آثار (ص 102)؛ فليس هناك - حسب بشارة - من عامل فكريّ واحد وراء نشوء فكرة أو تجدُّدها، وليس هناك من خطّ فكريّ واحد يمتدّ من ابن حنبل إلى «داعش»، مرورًا بابن تيمية ثمّ محمّد عبد الوهّاب، يتمّ توليد حلقاته من داخله؛ فلا يوافق بشارة مَن أرّخ لحركات الإسلام السياسيّ المصريّة، "بدءًا بابن تيمية مرورًا بسيّد قطب، وكأنّ ثمّة خطًّا أصوليًّا كهذا في الإسلام له تاريخ قائم بذاته، وصولًا إلى تنظيم «القاعدة»" (ص 105). وهو ينتقد بقوّةٍ خبراء وباحثين وكتبة تقارير فسّروا ظاهرة «تنظيم القاعدة» بالعودة بالسلسلة الفكريّة إلى الوراء: "سحَب الباحثون الخيط كي يمرّ بالوهّابيّة"، ورأوا أنّ ابن لادن يستوحي أفكاره "من تقليد طويل ذي صلة بعدم التسامح المفرط داخل أحد تيّارات الإسلام، منذ ابن تيمية ..." (ص 106). ولا يكفي عنده الوقوف في نقطة في التاريخ لتفسير الوقائع الفكريّة السياسيّة، كتفسير ظواهر الحركات الإسلاميّة السياسيّة الراهنة بالعودة إلى المحطّة الأفغانيّة، أو إلى نقطة أبعد فحسب.

لا يمكن فهم العودة الحديثة إلى الأصول الدينيّة، وإلى السلف المتخيَّل، دون ما طرحته المرحلة الاستعماريّة من تداعٍ وترابط للتقدّم والحداثة...

فبالإضافة إلى عوامل أخرى اجتماعيّة فكريّة تاريخيّة، فإنّ "البروفايل" الشخصيّ لمنفّذي تفجيرات 11 سبتمبر/ أيلول في الولايات المتّحدة، يضعنا "أمام نمط من الإنسان الحديث أو المعرَّض للحداثة ثقافيًّا واجتماعيًّا؛ فتديُّنه أيديولوجيّ. إنّه تحديد للهويّة في هذا العالم، بل في مواجهة هذا العالم، وتشبه عمليّة بحث الفرد المستلب أو المغترب عن معنًى، أكثر ممّا يشبه التديُّن التقليديّ بوظائفه المتوارثة" (ص 107). هنا تبدو ثقافة العصر وصورته عن العالم لها الذراع الطولى أو الهيمنة؛ فإنّ بشارة ينطلق من فرضيّة مهمّة، وهي أنّ الوعي بالماضي لا بدّ من أن يمرّ بموشور تبعات العصر الحديث واقعًا وفكرًا، قضاياه ومشكلاته، أسئلته وغايته، ورؤيته إلى العالم. وفي المحصّلة، فإنّ "الحاضر" هو نظّارتنا الّتي نرى من خلالها التراث والسلف والإسلام والماضي. "الحاضر" سندنا ومرجعيّتنا ونقطة انطلاقنا لمعرفة كلّ محتويات الماضي، وليس هناك من تخيُّل أو من سلوك اجتماعيّ أو تفكير جدّيّ، يمكن أن يعبّر عن نفسه دون أن يكون لمفاهيم العصر السائدة بصماتها عليه؛ فلا يمكن تجاهل الصدع الكبير الّذي أحدثه اختراق قطار العصر والحداثة في بلادنا؛ فيكتب بشارة في نصّ طويل معبّرًا: "وقع كسر بين إحيائيّة الإصلاحيّين وابن تيمية. إنّه كسر نوعيّ في التدفّق التاريخيّ فرضته المدنيّة الحديثة، يُميّز حتّى سلفيًّا مثل رشيد رضا من ابن تيمية، وهذا الكسر لا يُفسّر إلّا بدخول الوطن العربيّ مرحلة الاستعمار والحداثة ... ولا يمكن فهم العودة الحديثة إلى الأصول الدينيّة، وإلى السلف المتخيَّل، دون ما طرحته المرحلة الاستعماريّة من تداعٍ وترابط للتقدّم والحداثة" (ص 130). مع تشديده من جهة أخرى على القول إنّه "لا تصحّ في رأينا كتابة تاريخ الأفكار، منعزلًا عن السياق التاريخيّ والبنية الاجتماعيّة والدور السياسيّ في الحقبة المقصودة" (ص 124). ولا غنى عنده "عن التفسير الاجتماعيّ والسياسيّ والخلفيّة الفكريّة والنفسيّة للفاعلين الاجتماعيّين - السياسيّين، ودور الصراع السياسيّ حتّى في شرح الفرق في التفسير بين مفكّر وآخر، وبين نصّ وآخر، وإلّا بقينا أمام تواصل واستمراريّة لا تتميّز فيها أيّة ظاهرة" (ص 137).

 

جينولوجيا «تنظيم الدولة»

يذهب بشارة أبعد في تعقّب العوامل وصولًا إلى العوامل الشخصيّة، فلكلّ فرد منظَّم داخل تنظيم سياسيّ - اجتماعيّ مثل «القاعدة» دوافعه ومقاصده، فـ"لا ينطبق الحكم العامّ على جميع الأفراد الّذين انجذبوا إلى القاعدة ... منهم من انجذب إليها بوصفها حركة تحارب الأمريكان ... وظلّ الجهاديّون في كثير من الحالات متجذّرين اجتماعيًّا في قبائلهم. ونجد ذوي انتماء إسلاميّ وعالميّ يحرّكهم ... كما نعثر على عوامل اجتماعيّة طائفيّة ... ودوافع اقتصاديّة". ويُلاحظ أنّه بموازاة التاريخ الاجتماعيّ "ثمّة تاريخ أشدّ عينيّة يتعلّق بسير نخبة القادة"، المنبت الاجتماعيّ، السجن، ربّما بعضهم لا ينحدر من أصول فقيرة أو ريفيّة، ويرتفع في السلّم الاجتماعيّ كحال عبود الزمر وعبد السلام فرج، ودور "التجربة الشخصيّة الكثيفة في التعرّض لظلم أو إذلال السجن" أيضًا، والتفاعلات الشخصيّة في السجون (ص 107 - 110). وينبّه بشارة في هذا السياق إلى حقيقة "أنّ جينولوجيا «تنظيم الدولة» (داعش)، وتعقُّب أصوله الفكريّة لا يعني أنّ هذه الأصول أنتجته، فهو ليس مجرّد فكرة أو نصّ، إنّه ظاهرة اجتماعيّة هي نتاج الظرف التاريخيّ - الاجتماعيّ والسياسيّ، لكنّه مثل كلّ الحركات الاجتماعيّة يدّعي تجذير نفسه في الماضي التاريخيّ، معتبرًا نفسه أصيلًا" (ص 84).

جينولوجيا «تنظيم الدولة» (داعش)، وتعقُّب أصوله الفكريّة لا يعني أنّ هذه الأصول أنتجته، فهو ليس مجرّد فكرة أو نصّ، إنّه ظاهرة اجتماعيّة هي نتاج الظرف التاريخيّ - الاجتماعيّ والسياسيّ...

لم يترك بشارة قارئه بلا علامات إرشاديّة، بل دلّه على الطريق الّذي سلكه في بحثه، فهو لا يرى جدوى من الاستغراق في المفاهيم، وملاحقة التفسيرات في الكتب، خارج مرجعيّاتها في التاريخ والاجتماع والسياسة، بل اختار أن يقود قارئه نحو عباب تاريخ الاجتماع السياسيّ التحليليّ النقديّ؛ ليمنح مفهوم السلفيّة تاريخه الحقيقيّ، بعيدًا عن تجريده من معانيه المختزنة بالتجربة الإنسانيّة للبشر، في تاريخهم المعرَّض للتحوّل والتبدّل والقابل للانعطاف. هذا التحوّل والانعطاف الّذي يمنح للمفهوم دلالاته المتجدّدة، وهو ما جعل من السلفيّة سلفيّات تأخذ معانيها من تاريخها الأرضيّ المعيش، وليست مفهومًا مجرّدًا جوهرانيًّا عصيًّا على التبدُّل؛ فعَمِلَ بشارة بدأب وإصرار على تتبُّع الظاهرة السلفيّة في تحوّلاتها وتبدّلاتها في أثوابها التاريخيّة المزركشة، وفي تنوّع صورها، واستجاباتها لصور ممارسة المسلمين لحياتهم المعيشة في أزمانهم المتعاقبة، ولممارستهم أيضًا لدينهم وتديّنهم؛ فيكتب في صدر الكتاب "أنّ من غير الممكن اشتقاق تنظيم «داعش» من الإسلام بـ(أل) التعريف"، وهذا ينطبق لديه على السلفيّة الّتي لا يمكن أن نخلق مماهاة بينها وبين الإسلام، إذ "لا يمكن فهم التنظيمات المذكورة والظواهر المختلفة الّتي ترافقها، من دون فهم السياق الاجتماعيّ الثقافيّ الّذي تكوّنت وصعدت فيه، والصراع بينها وبين النظم السياسيّة في الدول الإسلاميّة ذاتها، وليس بين الإسلام والغرب"، وهو صراع يعبّر، في حقيقته، عن أزمة تعيشها دولنا، وهويّتنا، وذاكرتنا التاريخيّة، حول الاندماج والتحديث، وغيرها من المسائل.

 


إحالات

[1] صدر كتاب «الدين والعلمانيّة في سياق تاريخيّ»  في ثلاثة أجزاء، عن المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، ما بين العامين 2012 و 2014.

[2]  عزمي بشارة، في الإجابة عن سؤال: ما السلفيّة؟ (الدوحة، بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص 9.

 


 

شمس الدين الكيلاني

 

 

باحث في «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات»، صدر له عن المركز ثلاثة كتب، وهي «تحوّلات في مواقف النخب السوريّة من لبنان 1920-2011»، وكتاب «مفكّرون عرب معاصرون: قراءة في تجربة بناء الدولة وحقوق الإنسان» (2016)، وآخرها كتاب «مدخل في الحياة السياسيّة السوريّة: من تأسيس الكيان إلى الثورة» (2017).