حول كتاب عزمي بشارة «في الإجابة عن سؤال: ما السلفيّة؟» (3/3)

 

يُخصّص الباحث شمس الدين الكيلانيّ الجزء الثالث والأخير من مراجعته لكتاب عزمي بشارة «في الإجابة عن سؤال: ما السلفيّة» الصادر عن المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات» (2018)، لمعالج السياق التاريخيّ، والاجتماعيّ، والسياسيّ لظهور «الوهّابيّة» في الجزيرة العربيّة على يد محمّد ابن عبد الوهّاب، وكيف ساعد تحالف ابن عبد الوهّاب مع محمّد ابن سعود على توسّع وانتشار الدعوة الوهّابيّة، وقاد إلى مأسستها داخل الدولة السعوديّة.

يستحضر الكيلاني مقارنة بشارة في كتابه ما بين الوهّابيّة نشأة وتطوّرًا تاريخيًّا، وما بين «داعش» الّتي يرى بشارة أنّ عدم تطوّر أيديولوجيّتها منعها من التحوّل إلى أو الخضوع لسلطة سياسيّة، على غرار «الوهّابيّة»، وذلك يعود بالأساس إلى أنّ «تنظيم الدولة» ليس دولة أصلًا، ولم يتحوّل إلى دولة نتيجة لعدائه لمنطق الدولة حتّى حين مارس السلطة في المناطق الّتي سيطر عليها.

 

***

 

ثالثًا: السلفيّة بين الصراع على الهويّة والتفاعل مع الحداثة

غير أنّ وراء هذا التجهّم العقديّ والانكفاء على الذات الّذي تدّعيه السلفيّة، في الخطاب والوعي، يكشف  بشارة ستر انخراط السلفيّين في التحديث، وتجرّعهم كأس سمّ الحداثة بوعي أو من دون وعي، ويكشف تلك المخاتلة الّتي يمارسها السلفيّون في تعاطيهم مع العلوم ونتاجات الحداثة؛ فالسلفيّون الجهاديّون، وغيرهم من السلفيّين "يقبلون العلوم (الغربيّة) أداتيًّا؛ أي بوصفها أدوات مفصولة عن القيم الّتي رافقت تكوّنها، وعن التنوير وتحكيم المنهج العلميّ في شؤون المجتمع والتاريخ، ومؤخّرًا نشأ عند الجهاديّين (أي تحت ضغط الحاجة - الضرورات) اهتمام بالدراسات الإستراتيجيّة وبعض مصطلحات العلوم السياسيّة" (ص117).

ويحاجج السلفيّون أصحاب الأصالة بالقول: "إنّ مشروعهم (الإحيائيّ) الإسلاميّ ما كان لينشأ أصلًا من دون مصطلحات ومفاهيم غربيّة معاصرة، إمّا مُضمَرة وضمنيّة كما في حالة فكرة الدولة، وفكرة الحاكميّة بوصفها ترجمة إسلاميّة مقلوبة لمفهوم السيادة أو صاحب السيادة في الدولة، وإمّا سافرة ومُعلنة: الجماهير، والإستراتيجيا، والحزب والولاء الحزبيّ الحركيّ، والأيدولوجيا، والبرنامج السياسيّ، ووسائل الاتّصال الحديثة" (ص 119). بل يذهب أبعد من ذلك في سجاله مع السلفيّين، على مذبح دعوتهم إلى الانكماش على الذات الّتي لا تجد منابعها وصورتها إلّا في (صورة السلف الحقّة)؛ فيذكّرهم بأنّ البنية التنظيميّة الإخوانيّة، وبنية التنظيمات الجهاديّة هي نفسها البنية التنظيميّة اللينينيّة، "وإنّ المركزيّة الديمقراطيّة والستالينيّة هي نفسها لدى تنظيم «الإخوان»... والمرشد العامّ متماثل بنيويًّا مع الأمين العامّ ... إنّ بنية الحركات الإسلاميّة التنظيميّة حديثة مئة في المئة" (ص 118). ثمّ يختم هذه المحاجّة بتأكيده، وبطريقة حاسمة، أنّ الظاهرة السلفيّة غاطسة في التحديث: "بهذا المعنى، نعُدّ الحركات السلفيّة كافّة إصلاحيّة كانت أو جهاديّة أو غير ذلك، حركات حديثة؛ بمعنى أنّها حركات أيديولوجيّة نشأت في العصر الحديث بآليّات التنظيم الحديث، ونتيجة ضغوط العالم الحديث نفسه ... لذلك؛ لا يمكن مثلًا فهم نصّ سيّد قطب من دون فهم اغتراب المثقّف الشرقيّ في الحضارة الغربيّة" (ص 120-121).

لكنّ بشارة لا يقبل بالفرضيّة الّتي تُعيد ولادة الحركات السلفيّة المعاصرة إلى أنّها الردّ أو الاحتجاج على الاجتياح الغربيّ، وعلى تشوّهات الحداثة فقط، فهو  أعطى، أيضًا، الاعتبار لسياقها التاريخيّ العميق في تقليد فكريّ من ثقافة مجتمعاتنا، "إنّ قضايا الحركات الإسلاميّة كلّها قضايا حديثة، لكنّها تُجيب بلغة الماضي" (ص 132)، ولا يوافق بشارة على الفكرة الرائجة في مجال الإعلام والثقافة، وهي "أنّ مجتمعاتنا شهدت (عودة) كثيفة للدين، إلّا بمعنى أنّها عودة بثوب «الأيديولوجيا السياسيّة الحديثة»؛ فالمقصود هو العودة إليه بوصفه أيديولوجيا سياسيّة" (ص 132).

 

رابعًا: السلفيّة الوهّابيّة وغيرها

يذكّرنا بشارة بأنّ "السلفيّة ارتبطت بوعينا المعاصر أكثر ما ارتبطت بتفسير السلفيّين الّذين غالبًا ما يسندون نسب آرائهم، وصولًا إلى الإمام أحمد بن حنبل، الّذي "أحيا عقيدة السلف وحارب دونها" [أبو زهرة، وتاريخ المذاهب، ص 177]، الّتي تجدّدت، بحسب رؤيتهم، في القرنين السابع والثامن الهجريّين/ الثالث عشر والرابع عشر الميلاديّين، على يد ابن تيمية الّذي تشدّد في إعادة إنتاج سلفيّة ابن حنبل، أضاف إليها... وخرّج بعض الأقوال عليها في ضوء قضايا عصره. ثمّ في الثامن عشر الميلاديّ، ظهرت في الجزيرة العربيّة إعادة صياغة جديدة للسلفيّة على يد محمّد ابن عبد الوهّاب، تُماهي بين الحنبليّة والسلفيّة، بينما لم يماهِ ابن تيمية بينهما. وانتشرت هذه الأفكار مع تبنّي المملكة العربيّة السعوديّة إيّاها بعد أن تحالف ابن عبد الوهّاب وأبناؤه مع آل سعود، ثمّ تمأسست الوهّابيّة في جهاز الدولة عبر «هيئة كبار العلماء» وموظّفيها المختلفين وتحكّمها بمناهج التعليم. وانتشرت تلك الأفكار أيضًا بواسطة المؤسّسات التبشيريّة الوهّابيّة، طردًا مع قدرات المملكة على التأثير؛ بفعل الريع النفطيّ والوزن المعنويّ الإستراتيجيّ للمملكة... بيد أنّ مصطلح السلفيّة قبل المدّ السلفيّ من الخليج... ارتبط في أذهاننا، في مصر وبلاد الشام، بالجمعيّات والحركات السلفيّة الدعويّة غير المتدخّلة مباشرة بالعمل السياسيّ... تُعلِّم الناس العبادات الإسلاميّة، وتعمل على نشر نمط تديُّن متزمّت، ونشرت ثقافة سلفيّة معادية للانفتاح والتجديد، ومنها الّذي يخلط السلفيّة بالتصوّف، ومنها من ارتضى الطاعة لأولي الأمر، وأعاد طباعة مؤلّفات أعلام السلفيّة، وقد هاجموا البدعة، ليس باعتبارها تخالف القرآن والسنّة بل أيضًا تعارض فهم السلف (ص 89 - 91).

"بشارة لا يقبل بالفرضيّة الّتي تعيد ولادة الحركات السلفيّة المعاصرة إلى أنّها الردّ أو الاحتجاج على الاجتياح الغربيّ، وعلى تشوّهات الحداثة فقط، فهو  أعطى، أيضًا، الاعتبار لسياقها التاريخيّ العميق في تقليد فكريّ من ثقافة مجتمعاتنا...

يذكّرنا بشارة أنّ ثمّة فرقًا بين ولادة حركة ابن عبد الوهّاب، الملتقية مع سعود ضمن فراغ ثقافيّ وحضاريّ مشهود، وبين ولادة الغزاليّ في زمن ازدهار الثقافة العربيّة الكلاسيكيّة، وولادة الحركة الإسلاميّة في زمن الحداثة أو في الردّ عليها؛ فيرى أنّ حركة ابن عبد الوهّاب "بدت أشبه بتأسيس دين جديد، عبر تخيُّل مطابقته مع الدين الإسلاميّ في أوّل ظهوره... ولقيت معارضة حتّى من أبيه القاضي الحنبليّ... واتّهمه أخوه بالجهل، لم تتوفّر فيه شروط الاجتهاد، وأنّ الأمور الّتي كفّر فيها ليست من الضرورة أن تكون شركًا" (ص 139). وقد استخدم أخوه في نقده نصوصًا لابن تيمية وابن القيّم، وبالمقابل فإنّ محمّد ابن عبد الوهّاب "كفّر وأباح دماء بعض الحنابلة المعاصرين".

ولقد انتشرت دعوة ابن عبد الوهّاب على هوامش الحداثة، في صحارى نجد، في نوع من إحياء الدين القويم بين القبائل... واستفادت من الحداثة والأدوات الّتي مدّتها بها الدولة السعوديّة، بعد أن خضعت لها بتصفية الإخوان الوهّابيّين (إخوان من أطاع الله)، كما استفادت من أزمات الحواضر العربيّة، بعد أن كانت متحفّظة حتّى على الراديو (ص 131).

يلاحظ بشارة أنّ المقارنات الّتي أجراها محمّد بن عبد الوهّاب بين أوضاعه في نجد، وما أحاط النبيّ من أوضاع، كانت تهدف إلى إبراز التماثل في الحالتين، فيرى بشارة في ذلك "علامة" على ما تنطوي عليه السلفيّة الحديثة من ادّعاء النبوّة (من دون أن تدّعيها صراحة أو علنًا)؛ فكانت تساوي بين المجتمع المسلم في عصرها والجاهليّة الّتي سبقت الدعوة الإسلاميّة"، لكنّ الفرق أنّ ابن عبد الوهّاب لن يعمل بموجب الآية "لا إكراه في الدين"؛ فالأمر عنده "ثمّة حاجة إلى فرضه"؛ أي فرض الدين باستخدام القوّة. ثمّ إنّ ابن عبد الوهّاب، ومن بعده تلامذته السلفيّون، ألغوا كلّ التوسّطات بين الله والناس "ليصادروها هم من الدين الشعبيّ ليحصروها في أيديهم". ويلخّص بشارة مظاهر ادّعاء النبوّة ضمنيًّا في ثلاثة مظاهر؛ فهم الواقع الحاضر: (1) بوصفه جاهليّة، (2) لم يتبيّن الرشد من الغيّ على الرغم من تبليغ النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، إذن، فثمّة حاجة إلى نبوّة جهاديّة، و(3) إلغاء كلّ الشفاعات والتوسّطات بين الله والناس؛ حتّى ينتهي إلى احتكار هذه الوساطة" (ص 154)، فيفرض ابن عبد الوهّاب (رسالته) بالقوّة، وكأنّه نبيّ، ويقيم تيّارًا أشبه بفرقة أو أخويّة دينيّة. ومكافحة الفرق الأخرى كالشيعة والصوفيّة والأشعريّة، واعتبار السلطان العثمانيّ كاذبًا، وتوسّع في مفهوم البدعة في العبادات والمعاملات، واللباس والهيئة، وكَرّهَ أتباعه باحترام الموتى والأموات؛ فقد اختلق الوهّابيّون بذلك بدعًا جديدة؛ قياسًا على ما تصوّروه لمحاكاة النبيّ، علمًا أنّ الأصوليّين والعلماء فرّقوا بين ما هو عائد إلى عادات العرب وأفعالهم، وطبع النبيّ الخاصّ به، وما لا يُعَدّ تشريعًا ووحيًا وما له صفة التشريع والوحي والسنّة.

 

الوهّابيّة بوصفها دينًا جديدًا

وقَبِلَ ابن عبد الوهّاب أن يبايع ابن سعود بالإمامة له ولأبنائه من بعده، وهي بيعة قبليّة بامتياز، تقبل الوراثة وتضمن استمرارها "أنا أبشّرك بالعزّ والتمكين... ملك البلاد والعباد... فأرجو أن تكون إمامًا يجتمع عليه المسلمون، وذرّيتك من بعدك أئمّة متعاقبون" (ص 157). ولقد تركت رسائل "عبد العزيز آل سعود إلى القبائل والقرى، قبل قتالها في بداية الدعوة، من الاختصار والإيجاز والمباشرة؛ ما جعلها تبدو كأنّها دعوة إلى دين جديد" (ص 161). لذا؛ يعتقد بشارة أنّه أخطأ مَن اعتقد أنّ الوهّابيّة تلتقي مع البروتستانتيّة بتأكيدها (النصّ) دون المرور بالمؤسّسة الدينيّة؛ فإنّ عودة الوهّابيّة إلى النصّ وحسب، لم تفتح الطريق إلى "إعمال العقل خارجه، وفهم الأشياء بقوانينها، بل إنّ عودتهم إلى ظاهر النصّ ضدّ التأويل برمّته كانت سلفيّة متزمّتة دينيّة، وجهتها الماضي (وهو ماضٍ منتقًى) وليس المستقبل؛ فهي لا تعود إلى الماضي لتنهض من جديد في ملاءمة الدين مع الحداثة، بل تعود إلى الماضي المتخيَّل لتعيد إحياءه" (ص 163)، كما أنّ بشارة لم يرَ فائدة من المماثلة بين المذهبين لمجرّد ذلك التشابه بينهما، "في سرعة التكفير والقسوة في فرض مظاهر الدين على العامّة والتمرّد على الكنيسة (أو المؤسّسة الدينيّة) الرسميّة" (ص 164).

كما رفض محاولة اعتبار الحنبليّة أصلًا نظريًّا-فقهيًّا للإسلام السياسيّ الحركيّ السنّيّ عند محمّد ابن عبد الوهّاب. ويُبرز الفرق بين  ابن تيمية وابن عبد الوهّاب؛ لأنّ عبد الوهّاب "ماهى بين الحنبليّة والسلفيّة، بينما لم يفعل ذلك ابن تيمية، وكان له آراء خالف فيها ابن حنبل، على الرغم من مركزيّة الأخير في فهمه السلفيّ الإحيائيّ" (ص 165). وخلافًا لما هو سائد، يؤكّد بشارة أنّ أوّل من أطلق مفهوم الجاهليّة على ذهنيّة جماعة بعينها، هو ابن عبد الوهّاب، وليس سيّد قطب أو المودوديّ. وقد بلغت مسائل الجاهليّة لدى ابن عبد الوهّاب أكثر من مئة مسألة (ص 171)، وتطوّر هذا المفهوم على يد المسلمين الهنود. ولقد أتاح استخدام هذا المفهوم ودمجه بمفهوم الحاكميّة بروز الحركات التكفيريّة. وأشار إلى أنّ الوهّابيّة أثّرت في نمط التديّن الشعبيّ باتّجاه أكثر تزمّتًا، لكنّها لم تقدّم نظريّة سياسيّة شموليّة ثوريّة كالّتي قدّمها سيّد قطب". ورأى أنّ ابن عبد الوهّاب ضاهى سيّد قطب في التكفير؛ فقد كفّر المجتمعات بأعيانها، كما في حالة البدو، وقاتلهم باعتبارهم مشركين، بينما اكتفى سيّد قطب بوصف الحالة الّتي توصف بها جماعة بالكفر، لكنّه ضاهى ابن عبد الوهّاب في راديكاليّته السياسيّة تجاه الحاكم – الطاغية (ص 176). وقد "أصبح الاستشهاد بنصوص ابن عبد الوهّاب وأساليبه - عند كُتّاب «تنظيم الدولة» -  أكثر رواجًا بينهم من نصوص سيّد قطب" (ص 178).

يؤكّد بشارة أنّ أوّل من أطلق مفهوم الجاهليّة على ذهنيّة جماعة بعينها، هو ابن عبد الوهّاب، وليس سيّد قطب أو المودوديّ. وقد بلغت مسائل الجاهليّة لدى ابن عبد الوهّاب أكثر من مئة مسألة...

ولقد غالى ابن عبد الوهّاب، تحت مظلّة توحيد الألوهيّة وتوحيد العبادة – حسب بشارة - في تجنّب إظهار التقدير والتبجيل للنبيّ وأصحابه، والأنبياء والأولياء، وتكريس الإجلال لله وحده؛ فلم يفرّق بين الإجلال الواجب للصالحين وبين العبادة، ومن جرّاء ذلك تميّز الوهّابيّون "بهدم الأضرحة وأنصبة القبور والمزارات"، "وأخيرًا ربطوا ذلك كلّه بطاعة وليّ الأمر بعد تمأسس الدعوة في الدولة"، وربطوا بين استكمال شروط التوحيد وتكفير الطاغوت؛ أي "أنّ عبادة الله لا تحصل إلّا بالكفر بالطاغوت ... فعلّق السلفيّون الجهاديّون أهمّيّة كبرى على رفض الطاغوت وتكفيره، وقصدوا به الأنظمة الحاكمة الّتي لا تطبّق شرع الله" (ص 180 - 182).

 

سيف «الوهّابيّة» وسيف «داعش»

وأشار بشارة إلى أنّ الوهّابيّة قد "انتشرت في نجد، لا عن اقتناع بالضرورة، فقد أمضى محمّد بن عبد الوهّاب وقتًا يثور عليه الناس، ويطردونه حتّى التقى محمّد ابن سعود، وهنا جاء دور السيف" (ص 192)، مستفيدًا من هشاشة التديّن البدويّ، واستخدام الغزو، وقد وزّع ابن عبد الوهّاب "الغنائم بالعدل طبقًا لأحكام الوهّابيّة: الخُمس لابن سعود، والباقي للجند: ثلث للمشاة وثلثان للخيّالة" (ص 195)، تخلَّل ذلك قسوة تشابه ما فعلته «داعش» في الرقّة والموصل، فيستعير بشارة وصف فؤاد إبراهيم لمشهد فتوحهم: "كان خطاب الفتح وغزو الديار الكافرة، هو مضخّة التحريض على سفك الدماء إلى حدّ السفه، ومصادرة ممتلكات الغير، وسبي النساء والذراري، وقطع الأشجار وطمر الآبار... هذا حال الطائف، وتربة مكّة المكرّمة، والمدينة المنوّرة، وحائل، والجنوب، والشمال، والشرق..." (ص 203)، ثمّ استفادت الوهّابيّة من بعض الظروف الاستثنائيّة  الّتي ساعدت على توطّد الوهّابيّة، حين "ساعدت السلطة والثروة النفطيّة النظام في السعوديّة في اقتناء مظاهر الحداثة وأدواتها واستخدامها، من دون إنتاجها (ص 164)؛ فما هي الوهّابيّة، في الأصل، كما يقول بشارة، إلّا "تيّار صغير ذو توجّه طهرانيّ تقشّفي في فهمه للدين، ولم يخرج من الجزيرة العربيّة إلّا إلى قبائل التخوم، وذلك غالبًا في إطار غزوات البدو الموسميّة على ريف العراق وبلاد الشام وحواضرها، لكنّها انتقلت دعويًّا بأساليب دعويّة منظّمة بفعل الثروة النفطيّة والحرب الباردة العربيّة" (ص 167)، وأيضًا للاستغلال الغربيّ لها ضدّ خصومه، في فترة رهان الغرب على توظيف الإسلام في محاربة السوفييت والشيوعيّة، وهذا ما يفسّر رعاية الوهّابيّة الرسميّة للجماعة الإسلاميّة بقيادة المودوديّ؛ فتحوّلت الوهّابيّة - حسب بشارة - إلى أيديولوجيّة عالميّة أثّرت في أنماط التديّن في بلدان عديدة، ثمّ انشقّت الوهّابيّة إلى جناح معتدل تابع للمؤسّسة الدينيّة السلطويّة، وسلفيّة وهّابيّة ذات بُعد حركيّ تدعو إلى العودة إلى أصول الوهّابيّة الراديكاليّة.

ولقد عملت السلفيّة الوهّابيّة في السعوديّة على تحويل نفسها إلى «مؤسّسة دينيّة» إثر الاتّفاق بين محمّد عبد الوهّاب وابن سعود، بأن استلم الأخير (الإمامة، وتولّى الأوّل قضايا الدين. لكن مع ترسُّخ بناء الدولة، كما يشير بشارة، "أصبحت المؤسّسة الدينيّة تابعًا متزمّتًا للدولة ... وتحوّلت إلى مَنْفَذٍ ومبرّر لنموذج الطاعة كأنّه أحد أركان الدين... وجرى مع الزمن تهميش المؤسّسة الدينيّة الوهّابيّة"، في حين أنّ الوهّابيّة أثناء صعودها استخدمت القبيلة والسيف والغزو، بدلًا من الدعوة السلميّة؛ للتوسّع والفتح وفتح الطريق أمام سلطة آل سعود، حينذاك كان "خصمها الرئيسيّ التديّن الشعبيّ السائد، والمتواشج مع غياب السلطة السياسيّة"، ثمّ مع الزمن "نشأ، في المملكة، الاقتصاد الريعيّ بفعل الثورة النفطيّة، وما لبثت الدعوة أن تطوّرت إلى مؤسّسة دينيّة متعايشة مع مظاهر الحداثة المشوّهة" (ص 98 - 100). وعلى هذا شكّلت الوهّابيّة والإصلاحيّة الإسلاميّة في المرحلة التاريخيّة نفسها، حسب بشارة، طرفَي نقيض. ثمّ يتحدّث عن الفرق بوضوح: "إنّ الفرق بين الإصلاح الدينيّ، على الرغم من العنصر السلفيّ الّذي يتضمّنه، والإسلام السلفيّ الحركيّ المعاصر، هو الفرق بين الإيمان بالتقدّم، والإيمان بأنّ البشريّة تتدهور وتتراجع عن عصر ذهبيّ خلّفته وراءها" (ص 101 - 102).

"الوهّابيّة، في الأصل، كما يقول بشارة، "تيّار صغير ذو توجّه طهرانيّ تقشّفي في فهمه للدين، ولم يخرج من الجزيرة العربيّة إلّا إلى قبائل التخوم، وذلك غالبًا في إطار غزوات البدو الموسميّة"...

ويذهب بشارة إلى أنّه لا يكفي "وصف المجتمعات بالجاهليّة"؛ كي يتحوّل التكفير من تكفير الحكّام إلى تكفير المجتمعات المسلمة مباشرة؛ فـهذه الفكرة تحوّلت إلى تكفير المجتمعات عند "انضمامها إلى الفكر الوهّابيّ  الّذي نظّر حقًّا لتكفير المجتمعات، وعدّ ما يجني من قتالها غنائم حرب، مع نواقض الإسلام العشرة" (ص 114). وذكّر بشارة بتحذير مأمون الهضيبي للإخوان: "أنّ لفظ (الحاكميّة) لم يرد لا في حديث ولا في أيّة آية من آيات الذكر الحكيم" (ص 114). وعلى هذا؛ تأخّر مشايخ الوهّابيّة عن زملائهم في المشرق في تقبُّلهم لاقتناء (أدوات العلم والحداثة)، فقد تقبّلت الحركات الإسلاميّة تكنولوجيّات الحداثة وبعضًا من مؤسّساتها، بما في ذلك سيّد قطب؛ أحد رموز تيّار الهويّة الإسلاميّة في مواجهة الغرب، في حين عانى الوهّابيّون في نجد على أنواعهم، وتعذّبوا ضميريًّا إلى أن أصدروا فتوى تبيح الراديو، بناء على طلب وليّ الأمر... وأخرى تبيح الدرّاجة الهوائيّة، وهكذا" (ص 118).

 

في الختام

لقد حاولنا في هذه الورقة استيضاح سرّ هذا النصّ الكثيف والزاخر بالأفكار والمعاني، إلى حدّ يصعب على القارئ أن يتغافل عن أيّ مقطع فيه، دون أن يتأمّله بجدّيّة وانتباه، أو يجد نفسه مطالَبًا بالاختيار بين الأسهل أو المفيد؛ أي بين نظرة سريعة يطلّ بها على النصّ بنظرة إجماليّة من علٍ، أو الدخول بين السطور والمقاطع؛ ليتفحّص، ويفكّك؛ ليفهم أكثر، فالنصّ يشبه الغابة الكثيفة، فكان علينا أن نختار بين التأمّل عن بُعد، أو الدخول إلى قلب الغابة لكشف أستار الأوراق والشجيرات، والينابيع، والطرق القصيرة والمنحنية، والصعود المفاجئ، والإطلالة السريعة على مشاهد لا تحتمل الغفلة؛ لنطلّ بالنهاية على المشهد برمّته دون إهمال المفردات، ومقاطع الجمل؛ فاخترنا الطريق الصعب لكن المفيد والممتع، فأخذت الورقة حقّها في الاستراحة مع النصّ حتّى ألفته، وخبرته. وتركت الورقة لنفسها حرّيّة التعامل مع النصّ، إلى فقرات وعناوين مرتبطة بالمعاني والموضوعات، ولم تتقيّد بتقسيمات الكتاب.

"«تنظيم الدولة» ليس دولة أصلًا، ولم يتحوّل إلى دولة، بل ظلّ تنظيمًا معاديًا لمنطق الدولة، حتّى حين مارس سلطة في المناطق الّتي سيطر عليها"...

بدا لنا الأمر مع النصّ، وكأنّ كاتبه لا وقت لديه يضيّعه في استرسال عقيم أو استطراد على سبيل التكرار، أو الإمعان في الشرح؛ فاتّسم نصّه بجمله القصيرة المعبّرة، وخلوّه من حشو الكلام، لكنّه لا يخلو من جمل اعتراضيّة، أو فقرات اعتراضيّة، يغوص من خلالها في المفاهيم والمقارنات بين أئمّة الفكر في القديم والمعاصر، فيعبُر بنا إلى خيارات استخدامهم  للنقل أو العقل، والسياق وأسباب النزول. يبدأ مع ابن تيمية، مرورًا بابن حزم والمعتزلة وابن رشد، وانتهاءً بعابد الجابري وعبد المجيد الشرفي. فمن تذكيره بما رواه ابن هشام من أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخذ برؤيا عبدالله ابن ثعلبة في منامه، في اتّخاذ الأذان وسيلة الدعوة إلى الصلاة، إلى القول: إنّ عبد الله ابن جحش كان أوّل من خصّص خُمس الغنيمة للرسول، جريًا على عادة القبائل، فنزلت آية الخُمس تثبيتًا لهذا. ويذكِّر قارئه بأنّ آيات الأحكام والتشريع هي الأقلّ عددًا، على خلاف آيات الإيمان والأخلاق (ص 62)، وأنّ الحقيقة كامنة في النصّ لدى السلفيّين؛ فلا يتبقّى لهم سوى شرح الأحكام الكامنة في النصّ. ومن المفيد الاستطراد في التفسير لضمّ العديد من نصوص الفقهاء المعتبرين، ويلاحظ أنّ نصّ محمّد ابن عبد الوهّاب صارت تحفّ به شروح يتلبّسها حذر شديد من الادّعاء بإضافة معانٍ جديدة بما يحمل ذلك من رعب تجاه التجديد؛ فيُظهر ذلك لبشارة المدى الّذي وصل إليه هذا الفكر من "تخثّر" وركود. (ص 65).

ثمّ إنّ السلفيّين الّذين يؤكّدون ميلهم إلى العودة إلى القرآن والسنّة، هم في حقيقة الأمر لا يعودون إلى المكان عينه، بل إلى متخيّلات للماضي وللسلف مختلفة تمامًا عن حقيقتها، وإن كانوا يستعملون النصوص ذاتها. وقدّم بشارة في ثنايا الكتاب ملاحظات خاطفة على مسائل إشكاليّة خطيرة تتعلّق بتاريخيّة تشكّل المذاهب، وبروز تسمياتها، ودور أبي حامد الغزاليّ، الّذي قال عنه "ممثّل الإسلام السنّيّ الوسطيّ تاريخيًّا، ويمكن الادّعاء بأنّه أفضل من يمثّل ما سبق أن عُدّ سابقًا من (عقيدة) أهل السنّة والجماعة الأشعريّة، على الرغم من نقده الكبير للتصلّب الاعتقاديّ لدى الأشاعرة" (ص 136)، ثمّ وقوفه عند الفروق بين فخر الدين الرازيّ والأشعريّ وابن تيمية، وسؤاله إن كانت تلك الفروق تستطيع أن تفسّر التباينات بين الدول المتعاقبة في الإسلام، والحركة الوهّابيّة و«الإخوان المسلمون»، وكان جوابه بالنفي عن هذا السؤال؛ لأنّ "نصوص الفقهاء لا تفسّر هذه الظواهر الاجتماعيّة السياسيّة الفكريّة المعقّدة، ولا تفسّر خلافات العلماء والفقهاء والصراع بين «تنظيم الدولة الإسلاميّة» و«أنصار السنّة» في العراق" (ص 137)، فلا نشكّ في أنّ هذه الأطروحات ستثير نقاشات ثريّة لدى المختصّين، بما فيها تلك المتعلّقة بتاريخيّة ظهور اصطلاح «أهل السنّة والجماعة»، ولا ننسى تدقيقاته على مفهوم «الجاهليّة» وصولًا إلى تفسير المسعوديّ الحضاريّ، الّذي يربط (الجاهليّة) بغياب الدولة والدين عن المجتمع، بينما يستخدمها المودوديّ بطريقة معاكسة، مجافية للحضارة (المقصود هنا ضدّ حضور أو اقتباس الحضارة الحديثة)، كما تعرّض للحوارات الصاخبة الّتي دارت على حافّة مفهوم «الإخوان المسلمون»، وفي ما إذا كانوا (جماعة من المسلمين - الهضيبي - مصطفى مشهور)، أو (جماعة المسلمين - سعيد حوى) فتصادر الأخيرة بذلك الإسلام وتحتكره. يقدّم بشارة تلك الملحوظات وغيرها، وينثرها على رصيف بحثه؛ فتبدو على تناثرها كمقدّمات لأبحاث معتبرة تستحقّ التأمّل والمتابعة.

ختم بشارة بحثه بجملة معبِّرة، لا تخلو من مقارنة تُظهر التقارب والتباعد بين الوهّابيّة و«داعش»، ومآلاتهما المتباينة: "... انتصرت البراغماتيّة في النهاية في الدولة السعوديّة الثالثة، كما أخضعت السلطة الدينيّة للسلطة السياسيّة. ولا غرابة في أنّه لم تتطوّر ديناميكيّة كهذه في حالة «تنظيم الدولة الإسلاميّة»، أكان هذا لناحية البراغماتيّة أم لاحترام التعهّدات والمواثيق الدوليّة؛ لأنّ «تنظيم الدولة» ليس دولة أصلًا، ولم يتحوّل إلى دولة، بل ظلّ تنظيمًا معاديًا لمنطق الدولة، حتّى حين مارس سلطة في المناطق الّتي سيطر عليها" (ص 208).

 


 

شمس الدين الكيلاني

 

 

باحث في «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات»، صدر له عن المركز ثلاثة كتب، وهي «تحوّلات في مواقف النخب السوريّة من لبنان 1920-2011»، وكتاب «مفكّرون عرب معاصرون: قراءة في تجربة بناء الدولة وحقوق الإنسان» (2016)، وآخرها كتاب «مدخل في الحياة السياسيّة السوريّة: من تأسيس الكيان إلى الثورة» (2017).