الفضيلة الغائبة: الثقة المفقودة في المجتمع الفلسطينيّ

 

هل فكّرت يومًا أو سألت نفسك سؤالًا جوهريًّا مثل "هل أثق بأفراد المجتمع ككلّ؟"، هل لو أضعتُ مبلغًا ماليًّا على كرسيّ ما سأعود وأجده مكانه؟ أو عند الشرطة؟ أو "هل لو اتّصلت شركة الكهرباء لسؤالك عن رقم العداد الحاليّ ستخبرهم الحقيقة؟ كلّ هذه الأسئلة تعبّر عن نسبة الثقة في المجتمع، ونسبة من سيقولون أنّهم يثقون أنّ المبلغ الماليّ الذّي فقدوه يمكن استعادته، لكنّ ذلك يقودنا لأسئلة أوسع.

هل ثمّة مجتمعات تكون فيها الثقة بين الغرباء أعلى من غيرها؟ هل ثمّة مجتمعات تكون فيها الثقة مهشّمة؟ ربّما يتساءل المرء عن أساس هذه الثقة وممّا تنبع، وهل هي جزء من ثقافة أو هل يلعب الدين دورًا في تكوينها، أم أنّها فضيلة يمكن أن تنمو وتتطوّر حسب الظروف والبئيتين الاجتماعيّة والسياسيّة. تلك أسئلة نادرًا ما تُطرح في المجتمع الفلسطينيّ، وخصوصًا في ظلّ تغيّرات الظروف السياسيّة والاجتماعيّة في فلسطين والمنطقة عمومًا. ربّما تكون الإجابات معقّدة وليست سهلة، فموضوع الثقة المجتمعيّة، وهو نوع من الثقة يختلف عن الثقة بالمؤسّسات، له دور أساسيّ في تكوين رأس المال الاجتماعيّ الّذي يلعب دورًا أساسيًّا في تقدّم المجتمعات سياسيًّا واقتصاديًّا. وكلّما ارتفع رأس المال الاجتماعيّ ارتفعت قدرة المجتمع على مواجهة التحدّيات السياسيّة، والاقتصاديّة، والمجتمعيّة. فعندما تهدأ البنادق، لا يمكن القول أنّ الحرب انتهت طالما أنّ طريق بناء الإنسان لم يبدأ، وخصوصًا في بناء الثقة المجتمعيّة بين أفراد المجتمع ككلّ، وليس بين أفراد زعماء الحرب والطوائف.

 

«الثقة في المجتمعات المقسّمة – الفضيلة الغائبة»

لقد كان السؤال الافتتاحيّ لكتاب «الثقة في المجتمعات المقسمة – Trust in Divided Societies: State, Institutions, Governance in Lebanon, Syria and Palestine» هو كيف أنّ الثقة في المجتمعات المقسمة تتفاوت نسبتها بالرغم من تشابه ظروف الصراعات في بعض الأحيان، وتماهي تعدّد العرقيّات القاطنة في تلك المجتمعات. وفي قراءة الأدبيّات المرجعيّة حول موضوع الثقة المجتمعيّة ورأس المال الاجتماعيّ، فإنّ ثمّة نظرة ثقافويّة حول مجتمعات العالم الجنوبيّ، حيث يعتقد الباحثون الغربيّون أنّ فقدان الثقة في المجتمعات المقسّمة، أو مجتمعات ما بعد الحروب والصراعات، يعود إلى جذور ثقافيّة ليس أكثر. وثمّة وجهة نظر في تلك الرؤية، ولكنّ حصر انعدام الثقة في الثقافة دونًا عن عوامل أخرى يُعطي انطباعًا بأنّ الثقافات غير الغربيّة هي ثقافات هامشيّة عنيفة وخالية من الفضائل، على العكس من الثقافات الغربيّة. فأغلب الدراسات الّتي أولت اهتمامًا للمجتمعات الغربيّة وخصوصًا تلك المقسّمة كما في بلجيكا، وإيرلندا، والولايات المتحدة الأميركيّة، وجدت أنّ الظروف المؤسّساتيّة هي الّتي تحدّد مستوى الثقة المجتمعيّة وليس الثقافة أو تعدّد الأعراق (كما بين السود والبيض في أميركا)، أو التاريخ.

"«الثقة العامّة»، أو «الثقة المجتمعيّة»، هي الثقة الممنوحة بين الأشخاص الّذين لا تربطهم أيّ صلة مسبقة، ويمكن قياس ذلك بسؤال أنفسنا "هل نثق بأفراد المجتمع ككلّ؟"...

فكان وجود أدبيّات مرجعيّة علميّة حول الثقة في المجتمعات المقسّمة خارج إطار المركزيّة الأوروبيّة ضروريّ لوضع فقدان الثقة في مجتمعات خاضت حروبًا، وصراعات، وأزمات كبيرة في إطار نظريّة المؤسّسات، حيث يحاجج الكتاب بأنّ المؤسّسات تلعب الدور الأكثر أهمّيّة في بناء الثقة وكذلك في عمليّة تدميرها.

و«الثقة العامّة»، أو «الثقة المجتمعيّة»، هي الثقة الممنوحة بين الأشخاص الّذين لا تربطهم أيّ صلة مسبقة، ويمكن قياس ذلك بسؤال أنفسنا "هل نثق بأفراد المجتمع ككلّ؟". وليس ثمّة تعريف واحد أو متّفق عليه بين الباحثين للثقة، ولكن ثمّة توافق أنّه مفهوم متعدّد الصور ومعقّد حيث تترابط فيه المؤسّسات، والتاريخ، والظروف السياسيّة، والمجتمعيّة، والاقتصاديّة. وكلّما أضيف عامل جديد من العوامل السابقة كلّما كانت عمليّة إدارة الثقة أصعب وأكثر تعقيدًا.

فالثقّة وقوّتها في المجتمع تحدّد وتسهّل النسق الاجتماعيّ والتواصل بين أفراد المجتمع، وهذا التواصل، والتنسيق، ومعرفة ما يدور في المجتمع ككلّ يوفّر مناخًا مناسبًا لبناء تصوّرات مجتمعيّة عمّا يريده أفراده من شكل للنظام السياسيّ ومن المجتمع ككلّ. وثمّة جماعتين من الباحثين في علم الاجتماع السياسيّ والعلوم السياسيّة؛ مَنْ يحاجج بأنّ الثقافة، والتاريخ، وحجم الانخراط الطوعيّ في المؤسّسات والمجتمع المدنيّ هو منبع الثقة، ومَنْ يعتقد أنّ المؤسّسات وتركيباتها هي مَنْ تحدّد حجم الثقة المجتمعيّة في أيّ مجتمع.

 

الثقة فلسطينيًّا ما بعد الانقسام

يعاني المجتمع الفلسطينيّ كغيره من المجتمعات من أمراض وهزّات سياسيّة، لكن ثمّة شرطيّة إضافيّة؛ فالانقسام الفلسطينيّ الّذي بدأ عام 2007، إضافة إلى وجود الاحتلال الإسرائيليّ بوصفه بنية استعماريّة كولونياليّة اشتغلت على شرذمة الشعب الفلسطينيّ؛ هذا كلّه لا يؤثّر فقط على مستوى الثقة، وإنّما يخلق طبقات جديدة في المجتمع الفلسطينيّ، ويقسّم الشعب لجماعات مختلفة بتسميات متعدّدة تعزّز من حجم اللا ثقة وتزعزع الشعور بالمستقبل الواحد.

حسب الباروميتر العربيّ، وهي الشبكة الّتي تقيس الاتّجاهات والقيم الاجتماعيّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة للمواطنين العاديّين في الوطن العربيّ، وحسب استطلاعات الرأي الّتي تقيس الثقة في المجتمع الفلسطينيّ؛ فإنّ اللا ثقة في المجتمع الفلسطينيّ في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة ما بين عاميّ 2018 و2019 كانت في أعلى مستوياتها. فنسبة من قالوا بأنّهم لا يثقون بالآخرين، أو بأنّ عليهم الحرص عند التعامل مع الآخرين وصلت إلى 84%، في حين أنّ من أجابوا بأنّهم يثقون بالآخرين لم تتجاوز الـ14%. وثمّة انحدار كبير في الثقة المجتمعيّة في فلسطين مقارنة بالأعوام السابقة؛ ففي العام 2016 كانت نسبة من يثقون بأقرانهم في المجتمع الفلسطينيّ تصل إلى 19%، في حين كانت نسبة من لا يثقون 81%، أي بفارق أربع درجات مئويّة. وعودة إلى عام 2007، وتحديدًا قبل بداية الانقسام الفلسطينيّ، كانت نسبة من يثقون ببعضهم البعض في المجتمع تراوح الأربعين بالمئة، في حين كانت نسبة من لا يثقون بأقرانهم 60 بالمئة.

"لا يمكن تفسير الزيادة الكبيرة في عدم الثقة فلسطينيًّا من خلال نظريّة الثقة الثقافويّة، بل المؤسّساتيّة الّتي هي أكثر قربًا لتفسير الواقع الفلسطينيّ"...

لا يمكن تفسير الزيادة الكبيرة في عدم الثقة فلسطينيًّا من خلال نظريّة الثقة الثقافويّة، بل المؤسّساتيّة الّتي هي أكثر قربًا لتفسير الواقع الفلسطينيّ. لكنّ ذلك لا يعني أنّ الاحتلال لا يتحمّل أيّ مسؤوليّة، بل أنّ ثمّة عوامل أخرى تؤثّر على مستوى الثقة منها الّتي أوجدها الاحتلال مثل المؤسّسات الّتي توفّر الخدمات للمواطنين، إضافة إلى الانقسام الفلسطينيّ. فكتاب «الفضيلة الغائبة» يحاجج بأنّ الانقسام أدّى إلى تراجع مستوى الثقة، وعزّز الخوف المجتمعيّ، وعمل على توفير بيئة غير مناسبة للمشاركة السياسيّة، وغيَّب العدالة القضائيّة، إضافة إلى التغيير الكبير في أولويات الشباب الفلسطينيّ، والمحاباة، والفساد المنتشر في ظلّ وجود سلطتين فلسطينيّتين وغياب استراتيجيّة وطنيّة كاملة.

لقد حاولت في جزء من الكتاب دراسة أثر الانقسام على الثقة المجتمعيّة، بادئًا بعدد من الدراسات مثل دراسات إبراهيم إبراش، الّتي حاول فيها دراسة تبعات الانقسام السياسيّ بشكل واسع. إضافة إلى دراسة سابقة حول تأثير الانقسام على مفهوم الديمقراطيّة، وتقرير «مركز شؤون المرأة» الّذي وثّق تأثير الانقسام على العلاقات الأسريّة في قطاع غزّة، حيث استنتج التقرير بأنّ الانقسام أثّر على العلاقات الأسريّة والعنف ضدّ المرأة، كما أثّر على زيادة نسب الطلاق.

وفي دراسة أخرى للباحث عودة عوض، يستنتج الباحث أنّ العلاقات المجتمعيّة قد تأثّر بسبب الانقسام، وخصوصًا بين العائلات الّتي فقدت أحد أعضائها. وفي دراسة لريتّا جقمان عن رأس المال الاجتماعيّ، وَجَدَتْ أنّ الشباب يعانون من مستوى متدنّي من رأس المال الاجتماعيّ نتيجة شعورهم بالتهميش وفقدان الثقة في القيادة السياسيّة. وفي عام 2007 وجد جميل هلال بأنّ ثمّة مستويات متدنّية من الثقة بين الأحزاب السياسيّة والمؤسّسات الرسميّة وبين المواطنين في الضفّة المحتلّة.

 

الفساد أساسًا للّا ثقة

إنّ محاججة «الفضيلة الغائبة» الرئيسيّة هي أنّ الفساد المؤسّساتيّ واللامساواة هما المسبّبان الرئيسيّان لانخفاض مستوى الثقة، والّتي تسبّب الانقسام في تعزيزها وأضاف متغيّرًا شديد الحساسيّة يؤثّر وأثّر على حياة المواطنين بشكل عامّ، والشباب بشكل خاصّ.

"إنّ محاججة «الفضيلة الغائبة» الرئيسيّة هي أنّ الفساد المؤسّساتيّ واللامساواة هما المسبّبان الرئيسيّان لانخفاض مستوى الثقة، والّتي تسبّب الانقسام في تعزيزها"...

ولفحص تلك الفرضيّة، استخدم الفصل المتعلّق بالحالة الفلسطينيّة أربعة استبيانات صدرت ما بين عاميّ 2018-2007، وفي كلّ واحد منها تمّ سؤال ما لا يقلّ عن ألف شخص عن توجّهاتهم، وقيمهم الاجتماعيّة، والسياسيّة، ممّا مكّن من فحص الفرضيّة إمبيريقيًّا على مدار سنوات الانقسام. وكانت النتائج مطابقة للفرضيّة بأنّ الثقة المتدنّية في القضاء الفلسطينيّ، ونظام المحاكم المرتبط بالأحزاب السياسيّة مثل «حركة حماس» في قطاع غزّة و«حركة فتح» في الضفّة الغربيّة، إضافة إلى الفساد، وتردّي جودة الخدمات العامّة والمساواة في تقديمها، وفقدان الأمن والإحساس به، وانتهاكات حقوق الإنسان الّتي تشمل الاعتداءات الجسديّة والاعتقالات السياسيّة، وغياب النشاطات المجتمعيّة خارج إطار التعليم الرسميّ؛ هذه العوامل بمجملها هي الّتي تؤثّر بشكل أو بآخر وترتبط إحصائيًّا بشكل مباشر مع مستوى الثقة المجتمعيّة.

في حين تدلّل النتائج على مستويات عالية من الثقة المجتمعيّة بين الأفراد الّذين عبّروا عن رضاهم عن النظام القانونيّ والمحاكم، وعن الأداء الحكوميّ في كلّ من الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، خاصّة في خلق فرص العمل. وذلك ما يمكن تفسيره بانتماء هذه المجموعات إلى الحزبين الحاكمين، وهي المجموعات نفسها الّتي قالت بأنّها تلقّت خدمات عبر الواسطة أو يعرفون شخصًا من عائلاتهم حصل على هذه الخدمات.

 

غياب الثقة وولادة «المجتمع الهجين»

أوجد غياب الثقة ما يسمّى بـ «المجتمع الهجين» الّذي نشأ نتيجة الانقسام السياسيّ في فلسطين. كما تعزّز النتائج فرضيّة العلاقة ما بين الثقة والانقسام السياسيّ الّذي أوجد اختلافًا في المؤسّسات والآليّات البيروقراطيّة الموازية لها. إذ تؤكّد المحاججة الرئيسيّة أنّ الثقة تقوم على الشعور المعرفيّ بتهديد السلامة الشخصيّة داخل المجتمع، وفقدان الثقة في النظام القانونيّ، والمحاكم، والأحزاب السياسيّة، والنظام السياسيّ عمومًا، ممّا يؤدّي لمزيد من عدم الثقة داخل المجتمع.

ومع كلّ حدث مُشكِّل للرأي العام، يتحوّل المجتمع الفلسطينيّ إلى مجتمع هجين فكريًّا بالمعنى السلبيّ، الأمر الّذي يمكن قياسه عبر المتابعة العامّة لوسائل التواصل الاجتماعيّ الّتي أصبحت معبِّرة عن الرأي العامّ ومحرّكًا له فلسطينيًّا. وعلى الرغم من عدم وجود نظريّة علميّة محدّدة لفهم المجتمع الهجين، فإنّ جوناثان روزفورد وهومي حبيب في تعريفهما للهجينيّة، والمشتقّ من سياسة المفاوضة في المجتمع متعدّد الثقافات، يعتقدان أنّ الهجينيّة ترتبط بالمجتمع عندما تتشكّل حالة جديدة تشمل تحالفات وتغيّرات تجعل الشخص يعيد التفكير في المبادئ العامّة السائدة، وربّما تغييرها بما يتلاءم مع الموقف بشكل لحظيّ لتيلاءم مع الموقف الآنيّ. وتشتغل سياسة المفاوضة في خدمة مصالح بعض الجماعات المهيمنة في المجتمع، أو تلك الّتي تحاول فرض هيمنتها أو المحافظة على قوّتها.

يمكن مناقشة مفهوم «الهجينيّة» من منظور التحليل النفسيّ، بحيث يتمّ تحديد الهجينيّة من خلال عمليّة تحديد الآخر أو العنصر الآخر، وهو الّذي يخلق حالة من التضادّ أو التقلّب نتيجة تدخّل عامل خارجيّ أو عامل الأخرويّة. وتكمن أهّميّة الهجينيّة في تأثيرها في الظاهر من المشاعر، والآراء، والممارسات، ذلك أنّها تعمل على جمع بعض الخطابات والمشاعر المختلفة – غير الأصليّة – وتُظهِرها ككتلة واحدة. وفي المجتمع الهجين تكمن قوّة الآراء في أنّها جديدة وسبّاقة، كما أنّ عمليّة التهجين تقود إلى شيء جديد ومختلف، وهو ما يُفسِحُ المجال أمام جولة جديدة من المراوغة والمفاوضة بشأن التمثيل، والشرعيّة والمعنى.

"المجتمع الهجين يتميّز بتغيّر آراء أفراده، أو قبولهم بمتناقضات فكريّة بحسب الرأي العام للنظام السائد، أو للقوى المسيطرة، أو الجهة الّتي يستفيد منها الفرد"...

كذلك لا تقتصر أهمّيّة الهجينيّة على التغيّر في المواقف، أو ما ينجم عنها من مفاوضات غير مرئيّة في المجال العامّ، وخصوصًا في وسائل التواصل الاجتماعيّ، وإنّما باعتبارها المجال الجديد أو ما يُسمّيه روزفيلد «المجال الثالث». وهو المجال الّذي يؤدّي إلى خلق وإيجاد مواقف جديدة، مهمّشًا الماضي الّذي أَوْجَدَهُ ومُنشِئًا هيكليّة جديدة من السلطة، ومُشكِّلًا  لمبادرات سياسيّة أو مجتمعيّة، أو آراء جديدة لم تكن موجودة أو لها علاقة بمسبّبات وجوده. وما هو أكثر أهمّيّة هو أنّ «المجال الثالث» لا يكون مفهومًا بصورة كافية لكي يكون ممكنًا تنقيحه بصورة سليمة، إمّا لسرعة تشكّله وإمّا لسرعة تشكّل الهيكليّات، والآراء، والمبادرات الجديدة الّتي لا يمكن معالجتها، وتنقيحها، ومناقشتها.

 

«المجتمع الهجين» ما بعد الانقسام

يتبيّن عند إسقاط مهوم هومي حبيب على الشرطيّة الفلسطينيّة أنّ المجتمع الهجين يتميّز بتغيّر آراء أفراده، أو قبولهم بمتناقضات فكريّة بحسب الرأي العام للنظام السائد، أو للقوى المسيطرة، أو الجهة الّتي يستفيد منها الفرد؛ إذ يقبل الفرد أو مجموع الأفراد بمتناقضات على فترات زمنيّة قصيرة أو بعيدة الأجل مراعاة لمصلحة فرديّة أو حزبيّة. كما يمتدّ تأثير المجتمع الهجين أبعد من ذلك يشمل التأثير في الرأي العامّ، وتحويره من خلال إعادة تشتيته في اتّجاه مواضيع جانبيّة يستفيد منها طرف ما على حساب طرف آخر، أو على حساب المجتمع ككلّ. أيّ أنّ ثمّة تهجينًا وتحويرًا لبعض الأفكار والقيم من أجل تحقيق مصالح فرديّة أو حزبيّة، وذلك يعني تحويل الهجوم الفكريّ، أو الثقافيّ، أو الرأي العام عن القضيّة الأساسيّة الّتي قد تؤدّي إلى إدانة طرف ما، وتوجيه الرأي العامّ، والنقد الفكريّ في اتّجاه قضايا ثانوية قد يكون تأثيرها ضئيلًا في النظام.

المجتمع الهجين يتميّز بتغيّر آراء أفراده، أو قبولهم بمتناقضات فكريّة بحسب الرأي العام للنظام السائد، أو للقوى المسيطرة، أو الجهة الّتي يستفيد منها الفرد

وعادة ما يتمّ اللجوء إلى تحويل القضايا السياسيّة الكبرى الّتي تدين النظام إلى قضايا دينيّة أو أخرى تتعلّق بالعادات والتقاليد، والّتي يمكن من خلالها حشد الأفراد بسهولة وتشكيل انقلاب على صعيد النقد والجهد الفكريّين اللّذين كانا موجّهين، ربّما بفرق ثوان أو دقائق، ضدّ النظام وممارسات. فضلًا عن آليّات التأثير في الرأي العامّ الّتي يمكن أن تكون مركزيّة أو غير مركزيّة، ويقوم بها أفراد بعينهم في إطار النظام أو الحزب الحاكم.

إنّ هذا النوع من المجتمعات، أو أيّ مجتمع يمكن وصفه بالمجتمع الهجين فكريًّا، هو مجتمع خطر على التكوين الفكريّ، وعلى تشكيل الرأي العام، ويؤثّر في ميكانيزمات المحاسبة، والشفافية، وحرّيّة الرأي، والاختلاف مع النظام، وبالتالي يحوّل النظر عن قضايا التعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان. ويمكن أن ينطبق هذا التعريف على مجتمعات كثيرة بما فيها المجتمعات الغربيّة المقسّمة، لكن في الحالة الفلسيطينيّة أصبح هذا الموضوع طاغيًا على معظم القضايا.

 


 

عبد الهادي عجلة

 

 

باحث وأكاديميّ فلسطينيّ حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسيّة من «جامعة ميلانو»، ومؤسّس مشارك في «أكاديميّة الشباب الفلسطينيّة»، وزميل في «معهد دراسات ما بعد الحروب» في البوسنة والهرسك، وباحث مشارك في «معهد أنواع الديمقراطيّة» في «جامعة جوثينبرغ».