الكوميديا والصوابيّة السياسيّة... استحالة البيئة الاستبداديّة

من قناة «طحالب» على يوتيوب

 

في أعقاب الجدل الّذي طرأ حول فيلم «قضيّة رقم 23» (2017)، كان المخرج اللبنانيّ زياد الدويري قد أعلن نيّته، في مقابلة مع منصّة «Forward» الإعلاميّة، أنّ مشروعه السينمائيّ القادم سيقوم على نقد حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) وإظهارها بمظهر سلبيّ.

 قبل الدخول في أيّ أحكام أخلاقيّة مسبقة على أيّ فنّان، علينا فهم ما يحاول تحقيقه من خلال فنّه. وعلينا أن نعترف أنّه من حقّ أيّ فنّان، وخاصّة في المجال الكوميديّ، أن ينتقد أيّ حركة اجتماعيّة مهما تكن، وينتقد الصوابيّة السياسيّة الّتي تحميها من النقد. على سبيل المثال، ينتقد الكاتب محمّد الماغوط ببراعة بعض داعمي القضيّة الفلسطينيّة: "إنّ المتاجرين بقضيّة فلسطين، من شعراء وسياسيّين ومناضلين، جعلوني لا أكره ليمون يافا وبرتقال حيفا فقط، بل فيتامين C بأسره!".

تخطّى دويري عتبة الفنّ الناقد للصوابيّة السياسيّة نحو القضيّة الفلسطينيّة، ووصل إلى مرحلة «شيطنة» ما يريد تحليله ومقاربته. هذا النهج «المتطرّف» (...) ظاهرة آتية في سياق سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ أوسع...

لا تكمن المشكلة في رغبة دويري في أن يقارب ويفكّك حركة اجتماعيّة معيّنة؛ إذ إنّه يذهب بأبعد من ذلك كثيرًا عندما يقول: "لطالما نظرت إلى الحياة قليلًا في ظلال اللون الرماديّ، كما تعلمون أنّه لا يوجد خير مطلق، ولا شرّ مطلق في نهاية المطاف. لكنّني بدأت أتغيّر، أشعر بأنّ فيلمي التالي يجب أن يدور حول الخير المطلق والشرّ المطلق ]حركة المقاطعة[؛ ذلك أنّني أصبحت أكثر راديكاليّة. إنّه وقت مجنون في العالم، عالم ثنائيّ الاستقطاب، وأعتقد أنّه ربّما يوجد أبيض وأسود بعد كلّ شيء". 

هنا تخطّى دويري عتبة الفنّ الناقد للصوابيّة السياسيّة نحو القضيّة الفلسطينيّة، ووصل إلى مرحلة «شيطنة» ما يريد تحليله ومقاربته. هذا النهج «المتطرّف» الّذي اتّبعه دويري هو ظاهرة آتية في سياق سياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ أوسع في المنطقة العربيّة والعالم في السنوات الأخيرة.
 

ما الكوميديا الناقدة للصوابيّة السياسيّة؟

تُعَرَّف «الصوابيّة السياسيّة» بأنّها مجموعة من القواعد والسياسات والإجراءات اللغويّة والممارساتيّة المطبّقة؛ من أجل ضمان عدم التأثير سلبًا، أو إقصاء جماعة معيّنة في المجتمع. إنّ الصوابيّة السياسيّة منظومة اجتماعيّة - اقتصاديّة، تعطي هدف عدم الإقصاء الهويّاتيّ (الأفقيّ) الأولويّة القصوى، حتّى على هدف عدم الإقصاء الطبقيّ (العموديّ)، وهي منظومة أخلاقيّة تبشيريّة تشبه في بنيتها المنظومات الأخلاقيّة الدينيّة، وإن كانت علمانيّة الأصل، بل تحلّ مكانها أحيانًا، خاصّة في منظومة المعاملات (من غير قدرتها على استبدال منظومة العبادات)؛ ذلك لأنّها تهدف إلى تغيير لغة الناس وتوحيدها؛ أي تغيير فكرهم وتوحيده في عدد كبير من القضايا، وضمّ أكبر عدد من «المؤمنين»، تحت مظلّة أيديولوجيّة موحّدة.

هذه الخصائص الأساسيّة لدى الفكر الصوابيّ سياسيًّا، عرّضته للنقد «الحميد» الفنّيّ والثقافيّ والأكاديميّ، خاصّة في مجال التحليل الطبقيّ، والنقد الخبيث من الحركات الاجتماعيّة الدينيّة واليمنيّة، كما سنرى لاحقًا. إلّا أنّ النقد الفنّيّ الكوميديّ للصوابيّة السياسيّة يملك من الخصائص الثقافيّة والاجتماعيّة ما يجعله مميّزًا عن غيره من أشكال النقد.

تطوّر في القرن السابق النقد الكوميديّ للمنظومات الأخلاقيّة والعقائديّة في الغرب، في ذات الوقت الّذي تطوّرت فيه الكوميديا ذاتها، وخاصّة الكوميديا الواقفة (Standup comedy)، حتّى وصل إلى نقد المنظومات الأخلاقيّة الموجودة في حقبة العولمة.

 ظهرت مؤخّرًا أشكال أكثر جدّيّة واحترافيّة من هذه الأعمال، مثل مجلّة «شبكة الحدود» للأخبار الساخرة، وقناة «طحالب» الكرتونيّة على يوتيوب...

ثمّة العديد من الأمثلة على الأعمال الّتي تتناول السخرية من المنظومة الاجتماعيّة - السياسيّة، الأميركيّة المعاصرة، بما يشمل صوابيّتها السياسيّة، إلّا أنّ مسلسل الكرتون «South Park»، المقدّم من قِبَل المخرجَين تراي باركر ومات ستون، يُعَدّ الأكثر بدهيّة وشعبيّة في هذا المجال؛ إذ إنّ المسلسل واظَبَ، لأكثر من عقدين، على انتقاد الحزبين الجمهوريّ والديمقراطيّ ومنظومتهما الفكريّة في ذات الوقت، وقد أدخل في الموسم التاسع عشر منه شخصيّة مدير المدرسة «PC Principle»، الّذي جاء إلى بلدة «South Park»؛ من أجل القضاء على اللغة والممارسة غير الصائبة سياسيًّا.  

أمّا في المجال الثقافيّ العربيّ، فإنّ هذا النوع من الأعمال غير شائع. مع ذلك، ظهرت جيوب في الحيّز الرقميّ تمارس هذه السخرية من خلال «الميمات» (Memes) على وسائل التواصل الاجتماعيّ، وقد ظهرت مؤخّرًا أشكال أكثر جدّيّة واحترافيّة من هذه الأعمال، مثل مجلّة «شبكة الحدود» للأخبار الساخرة، وقناة «طحالب» الكرتونيّة على يوتيوب، الّتي تناولت بالنقد والتحليل الساخر والفلسفيّ مواضيع مهمّة محميّة بالصوابيّة السياسيّة، مثل الإلحاد والحرّيّة والجندريّة والنسويّة.
 

هل من مبرّر لهذه الفكاهة؟

ثمّة فوائد عدّة من النقد الكوميديّ للصوابيّة السياسيّة. في البداية، يشكّل هذا النقد نوعًا من «التضامن الضمنيّ» مع الجماعات الّتي تحميها الصوابيّة السياسيّة أو تتظاهر بحمايتها؛ إذ إنّ هذا الخطاب الكوميديّ يستبدل بالإقصاء الاجتماعيّ الفكاهة، ويعترف بوجود الجماعات الهويّاتيّة ويستدخلها إلى النقاش، ويجادلها ويستخدم النكتة من أجل كسر الحاجز معها. يشير إلى مثل تلك الأهمّيّة المفكّر السلوفينيّ سلافوي جيجك الّذي يقول إنّ الكوميديا والسخرية من أفضل وسائل التضامن والقضاء على الإقصاء في المجتمع، حيث إنّه أشار، على سبيل المثال، إلى أنّ تبادل النكات العنصريّة والذكوريّة والصور النمطيّة، كان أداة أساسيّة لخلق التقارب والتصالح بين الجماعات الإثنيّة المختلفة، في الاتّحاد اليوغوسلافيّ سابقًا.

أمّا الفائدة الثانية لهذه الكوميديا فتكمن في استخدام النكتة؛ لنزع القداسة عن الحركات الاجتماعيّة الّتي تستخدم خطاب الصوابيّة السياسيّة، وإظهار نقصها الإنسانيّ وقدرتها على الوقوع في الأخطاء. وتأتي هذه الأهمّيّة في سياق كُسِرَ فيه احتكار الكتابة والصحافة، وبروز ظواهر مثل «المؤثّرين» الرقميّين وصناعة المدوّنات، وإبداء الرأي على وسائل التواصل الاجتماعيّ، وانتشار المنصّات الصحافيّة الإلكترونيّة الاحترافيّة وغير الاحترافيّة؛ ممّا زاد احتماليّة الخطأ وعدم الدقّة والاستغلال والانتفاع والمبالغة في الطابع التبشيريّ والطهرانيّ البعيد عن الواقع، لدى استخدام خطاب الصوابيّة السياسيّة.

أصبحت الفكاهة الساخرة من الصوابيّة السياسيّة شبه مستحيلة، في عصر بروز اليمين البديل في الغرب، وإن كان هذا النوع الكوميديّ غير شائع وصعبًا، قبل حقبة الانتفاضات العربيّة، فقد أصبح مستحيلًا بعدها...

وأمّا الفائدة الثالثة فتكمن في كشف الموقع الطبقيّ للمتحدّث باسم الصوابيّة السياسيّة، واحتمال ارتباطه بالسلطة وبطبقة رأس المال في النظام الاقتصاديّ والاجتماعيّ النيوليبراليّ، أو بالأحرى كشف استحواذ الطبقة البرجوازيّة ومثقّفها التنويريّ على تلك القضايا الاجتماعيّة، وذلك من منطق المفكّر مهدي عامل، القائم على نقد النقد الاجتماعيّ، محافظًا كان أو متحرّرًا، إذا كان آتيًا من موقع الطبقة البرجوازيّة. وهنا فقد انتهج مسلسل «South Park» نقد استحواذ الحزب الجمهوريّ على الخطاب التقليديّ المحافظ، واستحواذ الحزب الديمقراطيّ على الخطاب التقدّميّ في الولايات المتّحدة.
 

الاستقطاب السياسيّ وموت الكوميديا

يقول كاتب كوميديا الرعب جايسون بارجين، إنّ حدث انتخاب ترامب، أدّى إلى استحالة الكوميديا المحافظة الناقدة للصوابيّة السياسيّة في الثقافة الأميركيّة المعاصرة. لا يشتكي بارجين - الّذي ترعرع في ولاية محافظة حمراء قبل أن أصبح ليبراليًّا - كما يشتكي الكثيرون من السياسيّين والصحافيّين والمبدعين الّذين يدّعون أنّ الصوابيّة السياسيّة ضيّقت الخناق على حرّيّة الرأي والتعبير، بل هو يقول إنّ النكتة الناقدة للصوابيّة السياسيّة أصبحت، من الناحية التقنيّة والفنّيّة، معطوبة في عصر ما بعد ترامب، ذلك لأنّه وظّف السخط الشعبيّ على العولمة والنيوليبراليّة من جهة، وعلى سياسات الصوابيّة السياسيّة من جهة أخرى؛ لدعم حملته الانتخابيّة، وقد أدّى ذلك إلى حالة متطرّفة من الاستقطاب السياسيّ والاجتماعيّ، لم تَعُدْ فيها مثل تلك الفكاهة مقبولة.

لقد أصبحت الفكاهة الساخرة من الصوابيّة السياسيّة شبه مستحيلة، في عصر بروز اليمين البديل في الغرب، وإن كان هذا النوع الكوميديّ غير شائع وصعبًا، قبل حقبة الانتفاضات العربيّة، فقد أصبح مستحيلًا بعدها وبعد بروز ثنائيّة الاستبداد والتطرّف في المنطقة؛ إذ إنّ هذه الكوميديا تتطلّب قدرًا من الاستقلاليّة الفكريّة والحنكة العالية والمرونة، والمقدرة على الاحتفاظ بمساحة صحّيّة من الأطراف المتنازعة حول المسائل السياسيّة والاجتماعيّة في المجتمع، بما يشمل امتلاك قدر من الرؤية النقديّة تجاه السلطة والفكر المحافظ والمؤسّسة الدينيّة. إنّ كلّ ذلك غير وارد في سياق استقطابيّ أو استبداديّ أو استعماريّ تموت فيه مساحات النقاش والحوار المشتركة؛ إذ يسهل في هذا السياق، على السلطة والقوى الاجتماعيّة المحافظة، تحويل الفكاهة الساخرة من الصوابيّة السياسيّة إلى أداة لقمع المهمّشين والحركات الاجتماعيّة المعارضة وشيطنتهم.

ويتطلّب أيضًا هذا النوع من الفكاهة دراية في كتابة الكوميديا والقصّة والرواية والكتابة الصحافيّة، ومعرفة في العلوم الإنسانيّة، وهذا غير وارد في ظلّ عدم وجود ضوابط في الحيّز الرقميّ كما ذكرنا؛ ممّا يؤدّي إلى ظهور السخط المبالغ فيه والمتطرّف تجاه الصوابيّة السياسيّة، ويؤدّي إلى تحويل السخرية تجاه المتحدّث باسم الضحيّة، إلى سخط وملاحقة للضحيّة ذاتها.

وفي هذا السياق تظهر النكتة الرديئة العنصريّة والذكوريّة والإباديّة العدميّة، الّتي يقولها صاحبها فقط؛ من أجل قولها تحدّيًا لمنافسيه، بل يؤدّي ذلك إلى عدم الاكتراث بالحساسيّة تجاه السياق، الّتي ينبغي اتّباعها عند ممارسة الكوميديا الساخرة من الصوابيّة السياسيّة؛ فعلى سبيل المثال، مع أنّ مسلسل «طحالب» قارب العديد من المواضيع الشائكة باهتمام وحذر شديدين، إلّا أنّ كاتبيه قد أخطؤوا خطأً كبيرًا عندما وصفوا اليهود بـ «الخنازير»، في الحلقة الّتي أُعِدَّتْ دعمًا للحراك الفلسطينيّ في أيّار (مايو) الماضي، على نحو قد يفيد أعداء القضيّة. 

إنّ رداءة أعمال «تشارلي إيبدو» تجاه الإسلام (...) يرجع إلى تجاهل المجلّة للسياق السياسيّ المتعلّق بتاريخ الاستعمار الفرنسيّ، والسياق الاجتماعيّ - الاقتصاديّ المتعلّق بالهجرة شبه القسريّة من جنوب المتوسّط إلى شماله...

من هنا، يمكن فهم فشل هذا النوع من السخرية في مجتمع صودرت فيه السياسة، أو مجتمع يتآكله الاستقطاب. إنّ رداءة أعمال «تشارلي إيبدو» تجاه الإسلام (وهو خليط من الخطاب المعادي للدين والمعادي للصوابيّة السياسيّة في ذات الوقت)، يرجع إلى تجاهل المجلّة للسياق السياسيّ المتعلّق بتاريخ الاستعمار الفرنسيّ، والسياق الاجتماعيّ - الاقتصاديّ المتعلّق بالهجرة شبه القسريّة من جنوب المتوسّط إلى شماله. وأمّا بالنسبة إلى زياد دويري، الّذي اتّبع ذات التقليد الفرنكوفونيّ الصادم في أعماله، فمن المستحيل أن ينجح مشروعه الساخر من حركة المقاطعة؛ لأنّه لن يتعامل بسلاسة مع مسألة استمرار حالة الاستقطاب والطائفيّة في المجتمع اللبنانيّ، واستمرار المعاناة الفلسطينيّة في الشتات والداخل.

 


 

فخري الصرداوي

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من «جامعة ديوستو» في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.