نقد العقل العربيّ والنهضة عند الجابري (1/3)

محمّد عابد الجابري (1935 - 2010)


 

عرفت الساحة العربيّة المعاصرة حراكًا فكريًّا شديدًا منتصف القرن الماضي، وقد اتّسم ذلك الحراك في بلورة عدد من المفكّرين والباحثين لأطروحات فكريّة على هيئة مشروع أو مشاريع فكريّة تهدف إلى دراسة كيفيّة تحقيق شروط النهضة للأمّة العربيّة. ورغم تعدّد مناهج أصحابها واختلافاتهم الفكريّة، إلّا أنّ جلّهم كان يناقش مسألتين أساسيّتين في المشروع النهضويّ لا غنى عنهم؛ وهما التراث والحاضر، في محاولة لاستخراج مكمن المعضلة في تأخّر الأمّة العربيّة عن غيرها من الأمم في العصر الحديث في الفكر، الفلسفة، الحضارة، والاقتصاد.

 أمّا محمّد عابد الجابري (1935 - 2010)،  فقد كانت إجابته حول هذه المعضلة تتمحور كلّها حول «العقل العربيّ» كسبب رئيسيّ في تقدّم وتأخّر الأمّة العربيّة، وفي سبيل التعرّف على هذا العقل ومواطن ضعفه وقوّته، أقدم الجابري على حفريّات إبستمولوجيّة في التراث العربيّ ومساهمته في تكوين العقل العربيّ على هذا النحو، وقد أرهص لمشروعه في كتابيه «نحن والتراث» الصادر عام 1980، و«الخطاب العربيّ المعاصر» عام 1982، واللّذين لا ينفكّان عن مشروعه في سلسلة نقد العقل العربيّ والّتي تمثّلت في أربعة كتب، وهم بالترتيب الزمنيّ: «تكوين العقل العربيّ» (1984)، «بنية العقل العربيّ» (1986)، «العقل السياسيّ العربيّ» (1990)، «العقل الأخلاقيّ العربيّ» (2001).

أقدم الجابري على حفريّات إبستمولوجيّة في التراث العربيّ ومساهمته في تكوين العقل العربيّ على هذا النحو، وأرهص لمشروعه في كتابيه «نحن والتراث» (1980)، و«الخطاب العربيّ المعاصر» (1982)...

وقد ركّز الباحثون والنقاد على كلّ من الجزء الأوّل والثاني من هذه السلسة باعتبارهما الأكثر مركزيّة في دراسة العقل العربيّ وتشكّلاته المحوريّة الّتي تعدّ ركائز مشروع الجابريّ والمنطلقات الأساسيّة لفهم العقليّة العربيّة، والّذي سيتمّ تناول قضيّتين منها في هذا البحث. كما سيهتمّ البحث بالمشروع المنهجيّ الإبستمولوجيّ الّذي عُنيَ الجابري به في نقد معاصريه، والّذي وصفه بعقلنة النتاج الفكريّ العربيّ المعاصر، أي وضعه تحت ميزان العقلانيّة، وهو ما يركّز عليه في كتابه «الخطاب العربيّ المعاصر».

أثار مشروع الجابري وما زال يثير الكثير من الانتقادات والجدل في العالم العربيّ، ولعلّ أشهرها وأسبقها انتقادات تلامذة الجابري نفسه مثل كمال عبد اللطيف، سالم يافوت وطه عبد الرحمن، إضافة لنقد فيصل درّاج، حسن حنفي ووجيه كوثراني للعقلانيّة ومشروع النهضة لدى الجابري. أمّا المشروع النقديّ الأشهر في مجابهة مشروع الجابري كان لطرابيشي وهو «نقد نقد العقل العربيّ»، وقد تعرّض الأخير كذلك للنقد، فيمكن القول إنّ مشروع الجابري وصل لمرحلة «نقد نقد النقد».

هذا فضًلا عن محاولات أخرى كثيرة تنهض جميعها على التأثّر الإيجابيّ بمشروع الجابري بغضّ النظر عن جوانب قصوره، وكلّ ذلك يقودنا إلى فضيلة الحوار الّتي حرّكها الجابري في عصره، والّتي لم ينكرها عليه أحد من تابعيه أو منتقديه من المفكّرين، فقد كان ما فعله الجابري أشبه بإلقاء حجر كبير في بركة الفكر العربيّ المعاصر.

فما هو العقل العربيّ؟ هل ثمّة عقل لثقافة ما يختلف عن ثقافة أخرى؟ ما الفرق بين العقل النشط والعقل السائد؟ وما هو توصيف العقل العربيّ بالنسبة للعقول الأخرى – اليونانيّ والأوروبيّ- من وجهة نظر الجابري؟ وهل يعدّ العقل والعقلانيّة في خطاب الفكر العربيّ المعاصر كافيان لتحقيق مشروع النهضة؟ 
 

العقلانيّة والنهضة في مشروع الجابري

تمّ الإرهاص لمشروع الجابري حول العقل والعقلانيّة في كتابه المنشور عام 1982 «الخطاب العربيّ المعاصر» كما أسلفنا الذكر، وقد اختلفت الأراء وتباينت حول مسألة العقلانيّة وربطها بالمشروع النهضويّ كما يقدّمها الجابري من قبل العديد من المفكّرين. وسنبدأ بالحدث عن هذه المسألة لدى الجابري من حيث:

 

الخطاب، المنهج، العقلانيّة

يرى الجابري أنّ المشروع العربيّ النهضويّ اهتمّ بمسائل عدّة على مستوى الاقتصاد، أو الميدان الاجتماعيّ، أو الحياة الثقافيّة، أو أهداف الوحدة، ولكنّه غفل عن الميدان الأهمّ وهو العقل العربيّ؛ فالنهضويّين بنظر الجابري لم يتصوّروا النهضة تصوّرًا صحيحًا، حتّى مع ربطهم إيّاها من التحرّر من سيطرة الأجنبيّ أو بالوحدة القوميّة، فلا بدّ من الاهتمام بإعداد الفكر القادر على حمل رسالة النهضة وإنجازها، والعيب في هذه الفكرة بحسب الجابري يكمن أنّه لم يستطع نقد نفسه بنفسه كما يجب. فقد أغفلوا نقد العقل وانقسموا إلى من يتصوّرون النهضة بعقود من الماضي، ومن يتصوّرونها من خلال مفاهيم أنتجها غير حاضرهم ولم يبذلوا المجهود الكافي لتعريفها وتَبْيِئَتِهَا – وستُناقضُ هذه النقطة لاحقًا في نقد نقد الجابري – وقد تحوّل مشروع أو مفهوم الثورة أوائل الستّينات إلى نهضة، ولكنّها نهضة غير مجدية، مُقَلِّدَة، وليست مستنبطة من الواقع.

يعرّف الجابري الفكر على أنّه مجموعة من النصوص والنصوص هي خطاب، رسالة من الكاتب إلى القارئ، والخطاب هو بناء من الأفكار يحمل وجهة نظر مصوغة ببناء استدلاليّ...

يعرّف الجابري الفكر على أنّه مجموعة من النصوص والنصوص هي خطاب، رسالة من الكاتب إلى القارئ، والخطاب هو بناء من الأفكار يحمل وجهة نظر مصوغة ببناء استدلاليّ، أي بشكل مقدّمات ونتائج، ومهمّة الكاتب والّتي تميّزه عن غيره هي عمليّة البناء لهذا الخطاب، في إبراز جوانب والسكوت عن أخرى، أو من تقديم أو تأخير. ويعرض الجابري أنواع القراءات من قراءة استنساخيّة ذات بعد واحد، تخلو من الوعي وهي في الأغلب المدرسيّة، والقراءة التأويليّة الّتي لا تتوقّف عند حدود المباشرة، والقراءة التشخصية وهي ما يقترحها الجابري للعقل العربيّ المعاصر، والّتي ترمي إلى تشخيص عيوب الخطاب، أي نقصه، وكشف ما سُتِرَ فيه أو ما حَمَلَ من متناقضات، ولا يهتمّ الجابري بما يحتويه النصّ من مضمون أيدولوجيّ أو محتوى معرفيّ، بل هو مَعْنِيّ باستخراج مواطن اللّا عقل عن طريق سياق تفكيكيّ لإبراز ضعفه وكشف تناقضاته، ومن هنا يُعَرّفُ الجابري منهجه في هذا النقد وهو النقد الإبستمولوجيّ العقلانيّ.

من هذا المنطلق يبدأ الكاتب بتفكيك خطابات الفكر العربيّ على أنواعها السياسيّة، القوميّة والفلسفيّة عبر طرح مسائل الأصالة، المعاصرة، الدين، الدولة، الديموقراطيّة، الاشتراكيّة، تحرير فلسطين، تأصيل للفلسفة وفلسفة عربيّة معاصرة ... إلخ، وتفكيكها بشكل تفصيليّ لكشف مواطن الضعف فيها، نحو الاتّجاه من العقلانيّة إلى تحقيق مشروع النهضة. وكان من أهمّ استنتاجاته تلك أنّه على اختلاف المناهج الفكريّة العربيّة من تاريخيّة، أو سلفيّة ليبراليّة، أو اشتراكيّة، فهي خارجة من عقليّة واحدة لا عقلانيّة فيها.

 

بين فيصل درّاج وكوثراني والجابري

 نَقَدَ درّاج مشروع الجابري هذا حول العقل كحلّ للأزمة العربيّة بشكل لاذع وشديد اللهجة واصفًا إيّاه بالسذاجة أو الطفولة الفكريّة، خاصّة في ما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة، ورأى أنّ ما أنتجه هو مجرّد ترجمة لعقل غائب يَدَعُ الواقع كما هو، أو ترجمة لعقل زائف يقترح شيئًا ويصل إلى غيره لأنّه لا يعرف الواقع الفعليّ، ولا يستطيع السيطرة عليه. وقد أخذ الجابري على طريقته بالمفهوم الألتوسيريّ لـ «مادّيّة الأيدولوجيا» الّذي يربط بين الأيدولوجيا وإعادة الإنتاج الاجتماعيّ، إذ أنّ للأفكار قوّة مادّيّة قادرة ضمن شروط محدّدة على ’تثبيت الواقع‘ وإعادة إنتاجه كما كان. وذلك بالضبط السؤال الّذي نسأله حول جدوى هذه العقلانيّة النظريّة وكفايتها لتحقيق مشروع النهضة، فإن كان الجابري يتحدّث عن المسكوت عنه وضرورة تعريته، فإنّ المسكوت عنه في كتابه هو العلاقة بين النظريّة والممارسة، كما الشروط التاريخيّة لهذه العلاقة، ذلك أنّ النهضة لا تستقيم بالعلم وحده، فهي تتطوّر في تجاربها المختلفة، والسؤال كيف يمكن إقامة علاقة مطابقة بين العقل وبين الممارسة السياسيّة؟ هذا هو المهمّ.

نقد درّاج بشكل تفصيليّ عدّ مسائل في خطاب الجابري؛ منها تهميشه للأيديولوجيّات المختلفة ومساواته بينها، واعتبر اختزاله للفكر العربيّ بأحكام مطلقة سريعة لا معقولًا، غليظًا وفظًّا...

ونقد درّاج بشكل تفصيليّ عدّ مسائل في خطاب الجابري؛ منها تهميشه للأيديولوجيّات المختلفة ومساواته بينها، واعتبر اختزاله للفكر العربيّ بأحكام مطلقة سريعة لا معقولًا، غليظًا وفظًّا. وكذلك انتقد اتّكائه على منهج يجمع بين الشكلانيّة والسجال، وعمله على تفكيك منهجيّ لا يقود إلى شيء مستلهمًا إيّاه من سياق فلسفيّ فرنسيّ، في إشارة إلى الفيلسوف الفرنسيّ ألتوسير، ولكن بشكل مشوّه. وأيضًا عدم اعترافه بالتجديد لمن سبقه، ونسبهِ للعلميّة، العقلانيّة والتجديد لنفسه كما فعل أدونيس، كما وجد خطابه تغلب عليه العاطفة الوجدانيّة الّتي اتّسمت بالهزيمة والنفس التربويّ التحريضيّ عوضًا عن النفس الفكريّ.

أمّا كوثراني فقد ركّز في ورقته على منطلق نقد الجابري الإبستمولوجيّ، والّذي ساوى فيه، أي الجابري، بين خطابات عربيّة تنتمي لأيديولوجيّات مختلفة، بل وأزمنة مختلفة، وذلك ما عدّه الكوثرانيّ عائدًا إلى المرجعيّات الأصليّة لهذا المنهج بين البنيويّة والتاريخيّة، أي إلى الأصل الفرنسيّ الخاصّ بألتوسير وفوكو. وهنا يتساءل الكوثرانيّ عمّا إذا توافرت الشروط المعرفيّة والمنهجيّة لذلك الاستخدام، حيث رأى أنّ الجابري لم يوفّق في ذلك، ولم تتحقّق الشروط اللازمة لتبنّيه للبنيويّة كما فعل فوكو في حفريّاته، بل كان عمله تقليدًا مشوّهًا.  

كانت هذه المقالة بمثابة مقدّمة لمشروع الجابري وسؤال النهضة لديه، وفي حين اعتَبَر الجابري أنّ المشكلة الحقيقيّة تكمن في تكوين العقل العربيّ وأساليب تفكيره بوصفها شروطًا للنهضة، اعتبر البعض تفسيره ساذجًا وعاطفيًّا منفصلًا عن الواقع، بل ومُشوِّها للمنهج الناسخ عنه. في المقالة اللاحقة سنعرض بدايات تشريح الجابري للعقل العربيّ وانتقاداته له، والردود على تلك التفسيرات والمنطلقات، من خلال عناوين تتناول معنى العقل العربيّ والتفكير ضمن ثقافة ما.

 


  مرجعيّة

الجابري، محمّد. تكوين العقل العربيّ. بيروت: مركز دراسات الوحدة، 1984.

الجابري، محمّد. بنية العقل العربيّ. بيروت: مركز دراسات الوحدة، 1986.

الجابري، محمّد. الخطاب العربيّ المعاصر. بيروت : مركز دراسات الوحدة، 1982.

الإدريسي، حسين. محمّد عابد الجابري ومشروع نقد العقل العربيّ. بيروت: مركز حضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، 2010.

درّاج، فيصل وآخرون. العقلانية والنهضة في مشروع محمّد عابد الجابري. بيروت: مركز دراسات الوحدة، 2012.

طرابيشي، جورج. نقد نقد العقل العربيّ ( نظريّة العقل). بيروت: دار الساقي. 1996.

بن سليمان، صادق. «مفكّرون عاشوا ليكتبوا واغتربوا ليجددوا». مجلّة أنسنة للبحوث والدراسات. العدد 5. (2012).

جمال الدين، قوعيش. «المشروع العربيّ عند جورج طرابيشي: نقد نقد العقل العربيّ أنموذجًا». أوراق فلسفيّة. العدد 52 (2016).

درّاج، فيصل. «الفكر العربيّ: الماضي، الحاضر، الآفاق». مجلّة العلوم الاجتماعيّة. العدد 4. (1998)

 


 

إسلام كمال

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة وحاصلة على درجة الماجستير في «الفلسفة» من «معهد الدوحة للدراسات العليا». يصدر لها قريبًا كتاب «الجنسانيّة في الهزيمة والانتصار» عن «مركز دراسات ثقافات المتوسّط».