نقد العقل العربيّ والنهضة عند الجابري (2/3)

محمّد عابد الجابري (1935 - 2010)

 

 

كنّا قد أرهصنا في الجزء الأوّل من سلسلة مقالات «نقد العقل العربيّ والنهضة عند الجابري» لبدايات مشروع الجابري عمومًا، وأسباب رحلة حفريّاتة الّتي قام بها لاعتقاده بأنّ الإجابة عن سؤال النهضة وشروط تحقّقها مرتبط بالعقل العربيّ وتكوينه في المقام الأوّل. في هذا الجزء سوف نتعمّق في تشريحه للعقل العربيّ وكيف يفكّر الجابري باختلاف تكوين العقل العربيّ عن العقول الأخرى، الأمر الّذي يشكّل عائقًا لتحقيق النهضة والتقدّم.

 

عقلّ عربيّ.. بأيّ معنى؟

كان من الضروريّ البدء بمسألة العقل العربيّ من مشروع الجابري بوصفها المسألة الأولى المطروحة في كتابه الأوّل من مشروع النقد وهو «تكوين العقل العربيّ» (1988)، ذلك أنّها تمثّل مقارنة مبدأيّة توضّح الفكرة العامّة للمشروع وأسبابه الّتي سنبدأ باستعراض أهمّ نقاطها وتحليلها ثمّ نقدها.

يبدأ الجابري بسؤال "هل ثمّة عقل خاصّ بثقافة ما؟"، أي هل ثمّة جنسيّة ثقافيّة للفكر؟ إذ يرى أنّ المثقّف لا يُنْسَبُ إلى ثقافة ما إلّا إذا كان يفكّر داخلها، ولا يعني التفكير في قضاياها فحسب، بل التفكير من خلالها أيضًا. بناءً على ذلك لا يمكن اعتبار المستشرقين ممّن كتبوا عن قضايا الشرق مفكّرين شرقيّين، ولا يمكن اعتبار المفكّرين العرب الّذين يكتبون في القضايا الغربيّة مفكّرين غربيّين.

 

ماذا يعني التفكير من خلال ثقافة ما؟

تتألّف الثقافة كما يعرّفها الجابري من مختلف أنواع الإنتاج المادّيّ والروحيّ وأنماط السلوك الاجتماعيّ والأخلاقيّ على اختلافها في محيط جغرافيّ يتحدّد به شعب ما أو مجموعة من الشعوب، ويعني التفكير من خلال ثقافة ما التفكير من خلال منظومة مرجعيّة تتشكّل إحداثيّاتها الأساسيّة من محدّدات هذه الثقافة، ومن بينها الموروث الثقافيّ والموروث والمحيط الاجتماعيّ، إضافة إلى النظرة المستقبليّة.

تتألّف الثقافة كما يعرّفها الجابري من مختلف أنواع الإنتاج المادّيّ والروحيّ وأنماط السلوك الاجتماعيّ والأخلاقيّ على اختلافها في محيط جغرافيّ يتحدّد به شعب ما...

أمّا العقل العربيّ فهو الفكر بوصفه أداةً للإنتاج النظريّ صنعتها ثقافة معيّنة لها خصوصيّتها وهي الثقافة العربيّة، وتحمل هذه الثقافة تاريخ العرب الحضاريّ وتعكس واقعهم وتعبّر عن طموحاتهم مثلما تحمل عوائق تقدّمهم وأسباب تخلّفهم الراهن. هنا يمكن رؤية تمركز فكر الجابري حول العقل العربيّ بوصفه سببًا رئيسًا من أسباب النهضة، وبوصفه سببًا رئيسًا للتقدّم والتأخّر؛ فيبدأ بعمليّة تشريح طبيعة هذا العقل من خلال مقارنة بين ما يسمّى العقل النشط والعقل السائد، ويتساءل إلى أيّ نوع ينتمي العقل العربيّ. كما يعقد المقارنة بين العقل العربيّ والعقل اليونانيّ والغربيّ بوصفهم العقول الوحيدة - بحسب اعتقاده - القادرة على إنتاج الحضارة.

 

العقل النشط [المكوِّن] والعقل السائد [المكوَّن]

يميّز الفيلسوف الفرنسيّ أندريه لالند [André Lalande]  (1867 - 1963) في كتابه «العقل والمعايير [La raison et les norms]» (1948) بين العقل النشط والسائد، حيث يعرّف العقل النشط بأنّه النشاط الذهنيّ الّذي يقوم به الفكر عند الدراسة والبحث، والّذي يصوغ به المفاهيم ويقرّر المبادئ، أمّا العقل السائد فهو الّذي يعتمد على مجموعة من المبادئ والقواعد الثابتة في استدلاله. يرى الجابري استنادًا إلى تفريق لالند بأنّ العقل العربيّ ينتمى بشكل أكبر إلى العقل السائد، أي العقل المكوَّن، حيث يعتمد على الثقافة العربيّة والموروث كأساس لاكتساب المعرفة. إذ يقول، استنادًا إلى تشخيص لالند، في وصفه للعقل العربيّ "إنّ العقل المكوَّن ينزل منزلة المطلق من طرف أولئك الّذين لم يكتسبوا في مدرسة المؤرّخين أو الفلاسفة الروح النقديّة، أولئك الّذين يحكمهم العقل السائد الّذي أنتجه عقل أجدادهم الفاعل، عقل ثقافتهم الّتي يعتبرونها الثقافة الوحيدة والممكنة". من هنا يعتقد الجابري أنّ معرفة أسباب سبات العقل العربيّ ممكنة من خلال الإلمام بثقافته ثمّ دراستها واستبدالها بإنشاء وصياغة قواعد جديدة تحلّ محلّ القديمة، وذلك ما يمكن فعله من خلال نقد العقل السائد.

هنا نتساءل إن كان يمكن تبديل هذه القواعد عبر الفكر النظريّ وحده، أمّ أنّ ثمّة أسبابًا اقتصاديّة وسياسيّة وثورات علميّة تحرّك بوصلة هذا التغيير؟ في كلّ ما سبق من مقدّمة لم يكن ثمّة أيّ مشكلة إذا ما تجاوزنا مسألة إطلاق كلمة العقل على الفكر، والّتي أثارها بعض نقّاد الجابري، ومسألة إمكانيّة وصحّة تطبيق هذا المشروع لتحقيق نهضة الأمّة العربيّة، ولكنّ المقارنة التالية قد نتوقّف عندها قليلًا.


مقارنة بين العقل العربيّ والعقل اليونانيّ والغربيّ

يختار الجابري هذه العقول الثلاثة ليعقد مقارنة بينها بوصفها العقول الوحيدة الّتي أنتجت فكرها بعيدًا عن الخرافة، ولكن هل هذه المقولة دقيقة؟ لربّما نحتاج الاطّلاع على كلّ تلك الثقافات والمعارف لفحص تلك الفرضيّة والبتّ في صحّتها، وهو ما يستحيل فعله.

يعرّف لالند العقل النشط بأنّه النشاط الذهنيّ الّذي يقوم به الفكر عند الدراسة والبحث، والّذي يصوغ به المفاهيم ويقرّر المبادئ، أمّا العقل السائد فهو الّذي يعتمد على مجموعة من المبادئ والقواعد الثابتة في استدلاله...

يبدأ الجابري باقتباس للفيلسوف الفرنسيّ جورج غوسدروف [Georges Gusdorf]  (1912 – 2000) يقول فيه: "يتحدّد نظام كلّ ثقافة تبعًا للتصوّر الّذي تكوّنه لنفسها عن الله والإنسان والعالم، وللعلاقة الّتي تقيمها لهذه المستويات الثلاثة مع نظام الواقع".

يرى الجابري، في ضوء الاقتباس السابق، الثقافة اليونانيّة ثقافةً مجّدَت العقل الّذي كان فيها ينظّم كلّ شيء وعلّة جميع الأشياء، أمّا العلاقة بين الطبيعة والعقل اليونانيّ بوصف الأخير من ينظر إلى الطبيعة [العالم] بإدراك الإسباب؛ فالعقل من ينظّم الطبيعة ومن يدفع بعجلة التطوّر، ويكون الله وسيطًا لفهم هذه الطبيعة. كذلك كان العقل الغربيّ بحسب الجابري الّذي دوّن تفصيلات لفلسفات التنوير بالعقل بين ديكارت، كانط، هيجل، سبينوزا، وهيوم، خَلُصَ بها الجابري إلى أنّ العقل في الثقافة الغربيّة كان في المقام الأوّل أداةً تتبدّل وتتحوّل بحسب المعطيات ولم يكن يُفكَّرُ فيه بوصفه مجموعة من المبادئ كما يراه التصوّر الحديث. كذلك اعتقد أنّ العلاقة بين العقل والطبيعة عند العقل الغربيّ واليونانيّ علاقة متساوقة أو متناسقة، إذ يقول إنّ هذا العقل ثار على القديم وكان دائم البحث حول العلميّة والموضوعيّة والحقيقة.

يمكن اعتبار هذا التفكير في حدّ ذاته إجماليًّا وسريعًا وخاطفًا من فيلسوف يصف عصر التنوير؛ فهل كان فلاسفة التنوير، الّذين استخدمهم أمثلةً تعلو على المثال العربيّ، هل كانوا بالفعل يعبّرون عن عقل وعقلانيّة؟ أم كانت فلسفتهم مظهرًا آخر من مظاهر الدين المسيحيّ أُلْبِسَ لباس العقلانيّة، سواءً في الأخلاق العقلانيّة لكانط، أم بالاستدلال الديكارتيّ على وجود الإله؟

يقول الفيلسوف الألمانيّ فريدريك نيتشه [Friedrich Nietzsche] (1844 – 1900) في نقده الجنيالوجيّ للحداثة عن هذه العلميّة والعقلانيّة إنّها مسألة شكليّة، ويعتقد أنّها مجرّد لعبة لغويّة ماكرة لا تغيّر من الحقيقة شيئًا؛ حيث العقليّة الحداثيّة هي مجرّد وجه آخر من وجوه المسيحيّة المتعدّدة، فيقول في فصل «الحال الدينيّة» في كتابه «ما وراء الخير والشرّ  [بالألمانيّة: Jenseits von Gut und Böse: Vorspiel einer Philosophie der Zukunft] (1886)، يقول "ماذا تفعل يا ترى كلّ الفلسفة الحديثة أساسًا؟ منذ ديكارت – وليس لأنّه الأسبق بل الأحرى نكاية فيه – يقوم كلّ الفلاسفة باعتلاء أفهوم النفس القديم بذريعة نقد أفهوميّ المبدأ والخير، ويعني هذا: باعتداء على الشرط الأساسيّ للتعليم المسيحيّ؛ فالفلسفة الحديثة، بوصفها ربيبة في نظريّة المعرفة، هي مضادّة للمسيحيّة علنًا أو ضمنًا وإن لم تكن – نقول ذلك لآذان مرهفة – معارضة للدين البتّة. ذلك أنّ المرء كان يؤمن قديمًا بالنفس كما آمن بالنحو والمبتدأ [الذات]: وكان يقول "أنا"، شرط، و"أفكّر" خبر ومشروط، والفكر نشاط يجب أن يضاف إليه بالتفكير بالمبتدأ بوصفه السبب. وبعد ذلك جرّب المرء، بإصرار ومكر جديرين بالإعجاب، ما إذا كان بوسعه الخروج من هذه المصيدة؛ ماذا إذا كان العكس بالأحرى هو الصحيح؟ أي "أفكّر" شرط، و"أنا" مشروط، الأنا إذن تأليف يقوم به التفكير نفسه".

أي التفكير هو من يصنعك ولست أنت من تصنع التفكير، ولكنّك تبرّر كلّ ذلك بشكل عقلانيّ مرضي لك في النهاية. إذن كانت ثمّة إشكاليّة دومًا حول هذه العقلانيّة الغربيّة في الغرب، وأعتقد أنّ من الضروريّ ذكر ذلك أيضًا في المقاربة والمقارنة الّتي يدّعي الجابري أنّها لا تهدف إلى التمييز أو المقارنة بيننا وبينهم، إلّا أنّني أجد منحى الكتابة واضحًا وصارخًا في المقارنة والتقييم.

رأى الجابري أنّ العلاقة الأساسيّة في الثقافة العربيّة هي بين الإنسان والله، وأمّا الطبيعة فكانت وسيطًا لفهم الله وإدراك معجزاته...

عودة إلى العلاقة الثلاثيّة بين الله والإنسان والطبيعة، يرى الجابري كما أسلفنا الذكر أنّ العلاقة الأساسيّة في الثقافة اليونانيّة والغربيّة كانت بين الإنسان والطبيعة، وكان الله وسيطًا لفهمها، بينما رأى أنّ العلاقة الأساسيّة في الثقافة العربيّة هي بين الإنسان والله، وأمّا الطبيعة فكانت وسيطًا لفهم الله وإدراك معجزاته. ففي حين ارتبط مفهوم العقل في تلك الثقافتين بإدراك الأسباب؛ فمفهوم العقل العربيّ لدى الجابري ارتبط دومًا بالسلوك والأخلاقي، أي بالجانب القيميّ.

فماذا يعني العقل القيميّ؟ وكيف برهن الجابري على أنّ العقل العربيّ عقل قيميّ؟ وقد بَرْهَنَ الجابري في مستوًى آخر أنّ العقل العربيّ عقل ارتجاليّ وبَدَاهِيّ مقارنة بالعقول الأخرى، فهل كانت برهنته صحيحة؟ هذه الأسئلة ستُتَناول في الجزء الثالث من السلسلة الّذي سيتضمّن ردّ جورج طرابيشي في مشروع الأضخم مقابل مشروع الجابري وهو «نقد نقد العقل العربيّ».

 


مرجعيّة

- الشيخ، محمّد. نقد الحداثة في فكر نيتشه (بيروت: الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2008).

- الجابري، محمّد. تكوين العقل العربيّ (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1984).

- الجابري، محمّد. بنية العقل العربيّ (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1986).

- الجابري، محمّد. الخطاب العربيّ المعاصر (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1982).

- الإدريسي، حسين. محمّد عابد الجابري ومشروع نقد العقل العربيّ (بيروت: مركز حضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، 2010).

- نيتشه، فريدريك. ما وراء الخير والشرّ: تباشير فلسفة للمستقبل (بيروت: دار الفارابي، 2003).

- طرابيشي، جورج. نقد نقد العقل العربيّ [نظريّة العقل] (بيروت: دار الساقي، 1996).

 


 

إسلام كمال

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة وحاصلة على درجة الماجستير في «الفلسفة» من «معهد الدوحة للدراسات العليا». يصدر لها قريبًا كتاب «الجنسانيّة في الهزيمة والانتصار» عن «مركز دراسات ثقافات المتوسّط».