الصمت وفائض الكتابة في المدينة

مدينة القاهرة

 

انضممت مؤخّرًا إلى مجموعة بحثيّة مكوّنة من عدد من الباحثين والباحثات المهتمّين بموضوع المدينة. لهذه المجموعة لقاء شهريّ لقراءة ونقاش مجموعة قراءات ومساهمات أكاديميّة وترتيب مشاريع بحثيّة فرديّة ومشتركة، عن موضوع الدراسة الأساسيّ وهو: المدينة. صحيح أنّ أغلب من في المجموعة هم أكاديميّون/ أكاديميّات يعملون في جامعات أمريكيّة وأوربيّة بدرجة أقلّ، ماعداي أنا وباحثتين اثنتين عربًا -  وذلك أمر مؤسف عربيًّا في ظلّ فقداننا كعرب لمدننا وأماكننا على يد أنظمتنا العربيّة، وقوى أجنبيّة واحتلال إسرائيليّ - إلّا أنّ القاعدة الأساسيّة - وليست الوحيدة - لدى هذا الجمع الصغير - 15 شخص - هي ألّا نتناول أيّ مدينة أمريكيّة أو أوروبيّة. فتوزّعت مدننا بين المنطقة العربيّة وآسيا، فكانت دمشق والقاهرة وبغداد وإسطنبول ومدن أخرى في أوزباكستان وأفغانستان والهند وكازاخستان وغيرها. الأساسيّ في كلّ تلك المقاربات هو تداخل الحقول بين الأركيولوجيا والتاريخ والفنون والأدب والعمارة وغيرها، وهو ما يعطي زخمًا وتنوّعًا للتجربة، إذ تكاد تشبه تلك المجموعة مدينة ما بذاتها في تنوّعها وتعدّدها.

لعلّ الخروج من المركزيّة الأوروبيّة في البحث والدراسة ساهم في تأمّل موقعنا في هذا الجزء من العالم من هذه المدن، الأوروبيّة والأمريكيّة، ليس فقط على مستوى المخيال وسعينا إلى مطابقته أو/ و مخالفته، لكن أيضًا بمنطق التمدّن الأوروبيّ والأمريكيّ المتغلغل من خلال دعاية العولمة، وموقعه الحداثيّ. القاعدة الثانية في المجموعة: اختيار مدينة ذات تاريخ، وليست مدينة حديثة تاريخيًّا.

إحدى القراءات المختارة للقاء شهر شباط (فبراير) 2022، كانت كتاب « The Dawn of Everything: A new History of Humanity» (2021) للمؤلّفين ديفيد غريبر وديفيد وينغرو. كان الفصل الثامن من الكتاب مثيرًا بعنوان: «مدن متخيّلة»، يتطرّق فيه المؤلّفان إلى تاريخ بناء وعمران المدن من دون ملوك في أوراسيا ومنطقة الصين وأوكرانيا وحضارة بلاد الرافدين وبلاد السند، والحاجة التدريجيّة المتراكمة لسكّان المدن لسلطة تدير شؤونهم العامّة أو المشتركة، بالتوازي مع فقدانهم التدريجيّ لخيالهم المدينيّ. ذلك أنّ ثنائيّاتنا التصنيفيّة الحديثة في التعامل مع المدينة هي نتاج عصر التنوير، وليست أنماط إدراك للمدينة وللسلوك المدينيّ ما قبل الحداثة، ومثال ذلك: ثنائيّة ’العامّ – الخاصّ‘.

 

المدن تبدأ في العقل

يبدأ الفصل بعبارة مثيرة: "المدن تبدأ في العقل"[1].

كما يشير لويس ممفورد إلى المقابر بوصفها الصور الأولى للمدينة، كذلك يتّفق الكاتبين، لكنّهما يسحبان الفكرة إلى موضع يختلف عن مآلات ممفورد، وعليها الكثير من النقد والتساؤلات. فهما يشيران إلى الموت باعتباره الناظم الأساسيّ في حالة المقابر للعلاقة بين كلّ هؤلاء الموتى، وهو موضع السلطة ومخيالها الرئيسيّ، والأهمّ أن لا وجود مادّيّ له، بل هو يحدث دومًا خارج المادّة، وعليه يكون الصورة الرمزيّة والفعليّة – على الجسد والمكان – للسلطة.

الكيانات الاجتماعيّة الكبرى هي دومًا، بشكل ما، متخيّلة (...) ثمّة فارق بين ارتباط أحدنا بأصدقائه، أو عائلته أو جيرانه (...) مقابل ارتباطنا بالإمبراطوريّات والأمم والشعوب والمدن الكبيرة؛ فتلك هي ظواهر كبرى في عقلنا...

يتساءل الكاتبان: "ماذا لو كان كلّ الّذين فقدناهم موجودون في مكان واحد؟ ماذا سيكون هذا المكان؟ تلك ’الجموع الخفيّة‘... كانوا بشكل ما أوّل نموذج للمدن، حتّى لو كان فقط في الخيال"[2]. يؤسّس المؤلّفان في هذا الفصل من خلال هذا المدخل إلى مقاربة مسألة الحجم كمعيار للعلاقة مع فكرة المدينة؛ فيقولان: "الكيانات الاجتماعيّة الكبرى هي دومًا، بشكل ما، متخيّلة. أو بكلمات أخرى: ثمّة فارق بين ارتباط أحدنا بأصدقائه، أو عائلته أو جيرانه، والناس والأماكن الّتي نعرفها بشكل مباشر في مقابل ارتباطنا بالإمبراطوريّات والأمم والشعوب والمدن الكبيرة؛ فتلك هي ظواهر كبرى في عقلنا، أو هي كذلك في أغلب الوقت. حتّى أنّ جزءًا كبيرًا من النظريّة الاجتماعيّة يمكننا النظر إليه باعتباره محاولتنا الجادّة لتحديد هذان الجانبان من خبرتنا الإنسانيّة"[3].

منذ أن كنّا نعيش في الغالب جزءًا كبيرًا من تاريخنا التطوّريّ – بالمعنى الداروينيّ – بوصفنا كائنات متطوّرة داخل مجموعات صغيرة – من عشرات كحدّ أقصى – فإنّنا إذن مصمّمون للعمل في جماعات صغيرة. حتّى أنّ من ينجح منّا في العمل ضمنّ/ في تكتّلات كبيرة، ينظر إليه بوصفه استثناءً للقاعدة. إنّ الحاجة إلى القدرات النفسيّة لضبط هذا الموقع تفوق طاقة الغالبيّة العظمى، ومن هنا ظهر طرح الحاجة إلى مخطّطين عمرانيّين وعمّال اجتماعيّين وأجهزة الدولة الضبطيّة الشرطيّة وغيرها لضبط العلاقة بين الأفراد والجماعات الكبرى.

ثمّة مقاربة هامّة هنا؛ إذ يشير مؤلّفا الكتاب أعلاه إلى أنّنا "إذا وضعنا مجموعة كبيرة من البشر في مكان واحد، فهم على الأغلب سيميلون إلى استحداث شكل من أشكال الكتابة أو ما شابه، إلى جانب أجهزة الإدارة والتخزين والتوزيع وغيرها"[4].

من هنا تبدأ المداخلة الفعليّة لهذه المادّة؛ إذ يؤسّس لنا الربط بين عدّة ظواهر مثل الأغورافوبيا والصمت من ناحية، في علاقتهما مع الكتابة كممارسة ثقافيّة، وما يمكننا وصفه بـ’ضوضاء الكتابة‘ من ناحية أخرى، وهنا نعني ’الكتابة‘ بالمنطق المادّيّ والدولاتيّ معًا، وليس الكتابة بالمعنى الثقافيّ فقط.

 

المدينة بين الكتابة والشفاهة

في سياق الإشارة إلى منطق الكتابة وتنظيم المجتمع، يطرح ماكس فيبر تأسيساته النظريّة عن صيرورة العقلنة في المجتمعات – خارج المجال الاقتصاديّ المنشغل بالحساب والعقلانيّة كما يدّعي – وفي أساسها، أي نظريّات العقلنة، فكرة خلق حلول جديدة للمعضلات الاجتماعيّة، شريطة أن تكون حلولًا لها "معايير مفرطة في كونيّتها (Universality)"، وأن تتعلّق بتكوين دولة قانونيّة عقلانيّة – ولعلّ مقاربته تلك تتعلّق بالأصل بالتأسيس لسوسيولوجيا سياسيّة أكثر منها قادرة على فهم التكوين الاجتماعيّ البدئيّ - إذ يربط فيبر الرأسماليّة بعلاقة مفترضة مع ’البروتستانتيّة التقشّفيّة‘[5].

إنّ محاولتنا لفهم التطوّر الاجتماعيّ المستند إلى فكرة الكتابة لا بدّ من اصطدامها بنموذج فيبر عن البروتستانتيّة، لكن إذا ما مدّدنا أدوات فيبر التحليليّة على طولها، لأمكننا تحدّي هذا الطرح في ما يتعلّق بالإسلام والبوذيّة والمدن الّتي نشأت في ظلّ تلك الأديان وحضاراتها، بوصفها أديانًا شكّلت الكتابة جزءًا أو محورًا أساسيًّا من تحوّلها الاجتماعيّ – إذ ثمّة أطروحات تربط بين ما سُمِّيَ حروب الفتنة والانتقال من النصّ الشفاهيّ الاجتماعيّ للقرآن إلى النصّ الكتابيّ، من خلال محاولة الخليفة الرابع عثمان ابن عفّان تحويل النصّ القرآني بشفاهيّته الاجتماعيّة إلى نصّ مكتوب، بوصف الكتابة ممارسة تفترض سلطويّة ما.  

إن نظرنا إلى النسق الاجتماعيّ بوصفه مجموعة العلاقات المنظّمة القائمة ضمن مجتمع من تلك الّتي يتحدّث عنها كتاب غريبر ووينغرو، والّتي تميل إلى المحافظة على نفسها عبر الزمن بالتجديد والتكيّف، لوجدنا أنّ منظومات القيم والمعاني – كالأديان مثلًا – الملمّة بالقراءة والكتابة، تؤثّر في البنية المعياريّة (Normative) للنسق الاجتماعيّ، بأن تميل إلى موضعة مصدر القيمة خارج التاريخ – ففي الأديان تأتي القيمة من المتجاوز/ المتعالي (Transcendence) بما هو خارج/ أعلى، أسمى/ سماويّ – بمعنى التحوّل والتمدّد وتطبيق معاييره على أكثر من مجتمع.

كما أنّ الصياغات المكتوبة تشجّع على انتزاع معايير ما من سياقها وتعميمها من خلال تقديم صيغ مجرّدة تطغى على الصيغ المحلّيّة المبنيّة على ومن خلال الشفاهة، بوصف الشفاهة ممارسة اجتماعيّة أقلّ رأسيّة من الكتابة، ونعني بكونها أقلّ رأسيّة أي أنّها أقل سلطويّة ’هيراركيّة‘، ومساحة التشاركيّة الاجتماعيّة فيها أعلى. يتّضح الأمر أكثر في مفهوم ’العمارة الإسلاميّة‘ مثلًا، والّذي يقفز فوق تفاصيل السياقات المحلّيّة والجغرافيّة والتاريخيّة والثقافيّة، الاجتماعيّة والشفاهيّة، لصالح متجاوز ميتا [ما بعد] تاريخيّ يحتكر قدرة إضفاء/ إصدار المعنى المكتوب، فيصبح مفهوم ’العمارة الإسلاميّة‘ واحدًا متجاوزًا للمجتمعات وتاريخها، برغم أنّ الشفاهة أمر أساسيّ في التاريخ الاجتماعيّ الإسلاميّ. لننظر في عمارة المساجد - بما هو السجود صفة مكتوبة مؤدّاة للعبادة - والانفصال عن فكرة الجامع - بما أنّ الاجتماع هو أصل القيمة الإسلاميّة، نموذجًا لهذا التحوّل. 

لعلّ أهمّيّة النظر إلى الشفاهة والكتابة مدخلين لفهم تطوّر المدينة والمجتمعات – كنصوص – يعود إلى فهم البنى الاجتماعيّة فيها بوصفها معان وعلامات، والأهمّ من ذلك فهم أشكال ومباني عمليّات التداول والتبادل والإنتاج اليوميّ في المدينة لتلك المعاني والعلامات، الّتي من خلالها تتشكّل مواقع الفرد والجماعة والسلطة؛ تلك الثلاثيّة الّتي تؤسّس ديناميّة العلاقات المدينيّة والاجتماعيّة.

أهمّيّة النظر إلى الشفاهة والكتابة مدخلين لفهم تطوّر المدينة والمجتمعات يعود إلى فهم البنى الاجتماعيّة بوصفها معان وعلامات (...) وفهم أشكال ومباني عمليّات التداول والتبادل والإنتاج اليوميّ في المدينة (...) الّتي من خلالها تتشكّل مواقع الفرد والجماعة والسلطة...

فمثلًا، نجد في المجتمعات الّتي للشفاهة حضور أكبر فيها دون وجود سلطة مركزيّة – كتابيّة – نزوعًا إلى الارتباط ببنى ما بعينها لمواجهة المشاكل المؤثّرة اجتماعيًّا. فثمّة البنية الانقساميّة (Segmentary Structure)، وهو مصطلح أنثروبولوجيّ يدلّ على نَظْمِ النسب الّتي تحدّد الانحدار القرابيّ على أساس تتّبع علاقة الأخلاف بالأسلاف البعيدين، في نموج يقدّم البناء الاجتماعيّ كشجرة القرابة المتدرّجة. عندما تقع حادثة قتل يتفاوت الردّ على الحادثة وفقًا للتباعد الاجتماعيّ (Social Distance) للأطراف المتورّطة، إذ لا يحدث بين أعضاء الأقسام القريبة إلّا ردّ فعل محدود، في حين تتّخذ إجراءات عدائيّة وعدوانيّة بين الجماعات والأفراد الأشدّ بعدًا[6]. ما يهمّنا في الأمر ما تحمله هذه البنى الانقساميّة والقرب أو البعد الاجتماعيّ فيها من مضامين حيّزيّة (Place) ومكانيّة (Space) وإقليميّة (Territorial) وحركيّة (Mobility)، وعلاقة هذه المضامين بالشفاهة والكتابة والصمت. هنا تظهر الحاجة إلى بناء نظريّة للحركة كانتقال وتفكيك وتركيب لكلّ تلك المنظورات الخاصّة بالمدينة والمجتمع كأمكنة ونصوص، فموقع الفرد/ الجسد داخل منظومة المكان والحيّز المدينيّ تساهم في بناء علاقة مدينيّة مختلفة بحسب الموقع، ومختلفة من حيث البنية.

حتّى نفهم العلاقة بين ثلاثيّة الموقع والحركة والكتابة في المدينة، وما ينتج عنها، لنا أن نتأمّل في أوراق ابن بدير أو مَنْ يعرف بـ ’حلّاق دمشق‘، وهو أيضًا عنوان كتاب للباحثة في قسم التاريخ «كلّيّة بوسطن»، دانة السجدي، الصادر بالإنجليزيّة عن دار نشر «جامعة ستانفورد» (2013).

 

المشي والتفاوض مع المدينة وفيها

يحلّل كتاب السجدي العلاقة بين حلّاق دمشق ابن بدير وأوراقه الّتي سجّل فيها الأحداث اليوميّة، وعمليّة ’إحداث‘ الكتابة – بمعنى ’حديث‘، وهنا يمكن ربطها بالحداثة أيضًا كما سنرى لاحقًا – فعنوان الكتاب الفرعيّ هو: «محدّثو الكتابة في بلاد الشام إبّان العهد العثمانيّ».

لن نستفيض في الحديث عن مضمون الكتاب إلّا بما له علاقة بموضوعنا هنا، أي المدينة بين الصمت والكتابة. فابن بدير نموذج حداثيّ - بالإشارة لـ ’حديث‘ - لما أدّت إليه علاقة الكتابة بالمدينة من "تناقضات إدراكيّة بين العامّ والخاصّ"، الأمر الّذي يشير إليه جاك جودي Jack Goody (1919 – 2015) في كتابه «The Logic of Writing and the Organization of Society» (1986) . حيث أنّ "مصادرنا الرئيسيّة، ولعلّها الوحيدة عن العصور الوسطى، هي كتب تاريخ ألّفها العلماء. وفي سياق عصور ما قبل الحداثة، العلماء بالضرورة هم علماء الدين، أي من درسوا واهتمّوا بالعلوم الدينيّة والشرعيّة. لكنّهم الفئة الوحيدة القادرة على الكتابة والقراءة، وغالبًا ما كتبوا عن أنفسهم ولأنفسهم، فلم يبق للباحث في التاريخ الاجتماعيّ غير نافذة نصّيّة واحدة تطلّ على التاريخ الاجتماعيّ للقرون الوسطى، ونافذة العلماء هذه ضيّقة للغاية، لأنّها لاتسمح برؤية فئات اجتماعيّة أخرى"[7].

إذن، فإنّ كتابة التاريخ المدينيّ تحدث من خلال سطوة الكلمة المكتوبة، وليس المنطوقة، ومن خلال مؤسّسة العلماء، المرتبطة بالأساس بالثقافة الرسميّة المهيمنة، وكذلك بمباني السلطة. ما أسّست له مقاربة السجدي هو تتبّع فعل الكتابة بوصفه إنتاج نصّ، وفعل التأريخ بوصفه إنتاج مدينة، بكلّ ما في هذه المتوازية من تماهي ومرآوية - من مرآة - سلطويّة.

نشير هنا، في إطار العلاقة بين ثلاثيّة الموقع والحركة والكتابة في الحيّز الاجتماعيّ المدينيّ، إلى مقولات أساسيّة تتعلّق بإنتاج المدينة كفضاء اجتماعيّ:

1.  مقولة دورين ماسي Doreen Massey  (1944 – 2016) الباحثة الجغرافيّة البريطانيّة، الّتي تعتبر الفضاء الاجتماعيّ - المدينة نموذجًا - مكوّن من سرديّات متعدّدة، بين تناقض واختلاف وتشابه، إلّا أنّها دائمًا في حالة تفاوض Negotiation مستمرّة.

2. مقولة المنظّر الفرنسيّ ميشال دو سارتو Michel de Certeau (1925 - 1986) الّذي يؤسّس للمشي في المدينة بوصفه استعارة توازي كتابتها قصيدة طويلة، أي أنّ المشي ممارسة اجتماعيّة – مكانيّة – يوميّة  (Everyday Socio – Spatial Practice).

هاتان المقولتان هما الأداتين الرئيسيّتين لبناء المقاربة للمدينة ضمن ثنائيّة الكتابة والشفاهة، أو الصوت والصمت.

فإذا كان المشي في المدينة هو بمثابة كتابة قصيدة، دون فعل كتابة بشكله المنفصل عن الجسد، إذن فالصوت والشفاهة هما النصّ المنتج من تلك الممارسة القصائديّة للمدينة، لكن هل تتحقّق في فعل المشي؟

يطرح دو سارتو سياسات النظر مقابل المشي ككتابة للمدينة، فيقول: "إرادة اكتساح المدينة بالنظر تسبق وسائل تلبية طلبها"[8]، ثمّ يكمل دو سارتو بالقول إنّه في المدينة حيث "يحيا الممارسون العاديّون (...) إنّهم مشاة أو راجلون كشكل أوّليّ لهذه التجربة حيث تخضع أجسادهم إلى فيضان النصّ الحضريّ وطلاقته، يكتبونه دون أن يتمكّنوا من قراءته. ينتفع هؤلاء الممارسون من الأمكنة المتوارية، ولهم بها معرفة عمياء على غرار التلاحم الجسديّ الغراميّ. الدروب الّتي تتجاوب في هذا التشابك - قصائد مجهولة حيث كلّ جسد توقعه فيها أجساد أخرى - تفلت من المقروئيّة"[9].

لكنّ الحركة داخل المدينة، وإن كانت تفلت من المقروئيّة، أي أنّها لا تقرأ المدينة بكاملها، فهي إذن ليست كافية لإنتاجها كاملة أيضًا. ولعلّ مقولة دورين ماسي تتّضح هنا؛ فكون المدينة تتكّون من سرديّات متعدّدة بين تشابه واختلاف وتناقض، وهي في حركة من المفاوضة المستمرّة، تتشكّل حينها المساحات النصّيّة للمدينة، الكتابيّة، لكن أيضًا تتشكّل المساحات الصوتيّة والمقروءة.

على سبيل المثال، يفضي ازدياد مساحة التناقض بين السرديّات المدينيّة في مراحل قصوى إلى أحداث كالثورات المدينيّة – ميدان التحرير ودوّار اللؤلؤة 2011 - بين المجتمع والسلطة، وأمّا التطابق فيفضي إلى مساحات من التماهي مع السلطة – مثل العاصمة الإداريّة الجديدة في القاهرة، وقبلها ’مدينة نصر‘، والّتي كان الإعلان الأوّل عنها في 1959[10]- ، حتّى لو كان ذلك بالتضادّ مع التاريخ[11] والسرد والقيمة. لعلّ هذا التحالف أو التواطؤ بين المدينة كواقع وتجربة يوميّة والمدينة بما هي مفهوم، لا يطابق بينهما ولكن يستثمر تكافلهما التفاوضيّ؛ فالتفكير في المدينة ينبني على أساس التفكير في تعدّديّة الواقع نفسه وإضفاء قيمة فعليّة لهذه التعدّديّة، أي المعرفة والربط والمفصلة.

 

الأغورافوبيا، الصمت وحظر التجوّل في المدن الكبيرة

 لنعد خطوة إلى الوراء، وتحديدًا إلى ما كتبه ديفيد غريبر وديفيد وينغرو عن المعيار Scale بين الفرد المدينيّ والمدينة، وتحديدًا إلى النموّ المفرط للمدن، وتقلّص مساحات الفرد فيها. لا نعني هنا مساحات الحركة والتنقّل، إنّما مساحات الفرد من الهويّة والذاكرة المدينيّة، وقدرته على المفاوضة معها. لنا في القاهرة نموذج مهمّ، فقد نمت المدينة إلى الحدّ الّذي أصبحت فيه منقسمة إلى هويّات مدينيّة مختلفة، فالملاحظ أنّ هويّة المدينة الجامعة ما عادت حاضرة برغم كلّ آليّات الخطاب خلال حكم عبد الناصر والسادات ومبارك، بل إنّ هويّة حيزيّة مرتبطة بأحياء ما بدأت تشكّل الهويّة المدينيّة المرتبطة بساكن الحيّ نفسه - هليوبوليس والمعادي والزمالك - وديناميّات ترسيم ذاكرته المدينيّة.

 منذ الخمسينيّات وحتّى بدايات التسعينيّات لم يكن ثمّة صراع بين هويّة الحيّ/ الحيّز والمدينة، لكنّه ازداد مع تحوّلات الطبقة والتمّدن وظهور التجمّعات السكنيّة المغلقة. لكن هل ذلك معادل لتغوّل السلطة في المدينة وهو ما حذّر منه الكاتبان؟

نمت القاهرة إلى الحدّ الّذي أصبحت فيه منقسمة إلى هويّات مدينيّة مختلفة (...) هويّة المدينة الجامعة ما عادت حاضرة برغم كلّ آليّات الخطاب الرسميّ، بل إنّ هويّة حيزيّة بدأت تشكّل الهويّة المدينيّة المرتبطة بساكن الحيّ نفسه...

لعلّ الأغورافوبيا تشكّل مدخلًا لهذه المقاربة، وهي إحدى أنواع الرهاب أو القلق الحادّ من الوجود في بيئة غير آمنة أو مواقف يصعب الهرب منها. إلّا أنّ هذا التعريف يبدو قاصرًا إذا ربطناه بـ ’الأغورا‘، وهي رمز ’الفضاء العامّ‘ لدى اليونانيّين، وعليه يرتبط هذا الرهاب بالبيئة غير الآمنة في الفضاء العامّ. يتّضح هنا الربط بين الفرد والمجموعة والمكان، وهنا يمكننا أن نعتبر أنّ ظهور الأغورافوبيا هو علامة للفرد ومجموعته في علاقتهم بمدينتهم بما هي خروج عن حالة الحوار بين الفرد ومدينته. يقول ياسين النصير أنّنا نبدأ علاقاتنا بمدننا حين نحتاج لحكاية تجمعنا، لكنّ مدننا الحديثة - القاهرة مثلًا - لا تحتاج لنا لننتج حكايتها، وبات المعيار أكبر من 1:10، وهو الحدّ الّذي يمكن للفرد أن يدخل فيه في حوار ندّي مع مدينته دون الحاجة إلى سلطة لضبط تلك العلاقة، كما يفترض الكاتبان أعلاه.

يقول مينا ناجي في كتابه «33 عن الفقد والرهاب» (2021): "إعلان حظر التجوال في 2011، كان اللحظة الأغوارفوبيّة في مسار الثورة (...) تحوّل الارتباط الوطنيّ العامّ إلى ارتباط مناطقيّ بشكل مباشر؛ كلّ منطقة تسوّر حدودها وتحميها الكلاب والأسلحة البيضاء والآليّة المخبّأة، وتتواصل داخليًّا على مستويات عدّة في ما يشبه الكوميونات الصغيرة. ربط الأفراد بالمكان، في حالة من الأغورافوبيا المفروضة والمعمّمة الّتي ترى الفزع المستمرّ على الشاشات الصغيرة والكبيرة"[12].

ارتبط مفهوم الأغورافوبيا بالمدينة الحديثة، والحيّز الحداثيّ – بحسب مؤرّخ العمارة أنتوني فيدلر – باعتبارها، أي المدينة، مظهر حداثيّ تنظيميّ، وعليه فإنّ الأغوارفوبيا تبلورت خلال الإطار التاريخيّ للمدن الحديثة كعَرَضٍ مصاحب لكروب الحضارة الحديثة وقلقها. لكنّنا لو أمعنّا النظر لوجدنا أنّها ليست فقط عَرَضًا مصاحبًا، بل جزء أساسيّ من سيولة التمدين في الانتقال بين أجزاء المدينة والهويّة المغايرة لتلك الأحياء والأحياز، لكنّنا قد لا نعيه تمامًا.

إذن، فإنّ كتابة النصّ المدينيّ، بما هي عمليّة طمس وإظهار وذاكرة ونسيان، تحدث من خلال ديناميّات ومراكمات نفسيّة مرتبطة بالأغورافوبيا، ولكن بدرجة قد لا نعيها تمامًا. حتّى أنّنا بهذا إنّما نميل إلى القول إنّ ممارساتنا وخبراتنا الحيّزيّة في المدينة لا تتأثّر فقط بالشكل المعماريّ بوصفه مظهرًا أيديولوجيًّا لمنظومة السلطة خلفه، بل هي أيضًا نتاج الثقافة - من هنا كانت أهمّيّة شروط الانضمام للمجموعة البحثيّة. هذا ما أشار إليه فريدريك جيمسون Fredric Jameson في مقالته  الشهيرة  عن «العمارة ونقد الأيديولوجيا»، حيث أشار إلى أنّ "نقد المباني غالبًا ما يختلط بنقد أيديولوجيّات تلك المباني"[13].

لا تظهر الأغورافوبيا هنا في ما نقوله عن مدننا، بل في ما نقوله عنها أيضًا في تفاوضاتنا المشتركة مع المدينة، أو بالوصف الأدقّ في ما نصمت عنه فيها. يقول قسطنطين كفافيس Constantine P. Cavafy (1863- 1933) في قصيدته «المدينة»:

سوف تطاردك دومًا هذه المدينة

سوف تمشي نفس الشوارع، تكبر في نفس الأحياء

ستشيب في نفس البيوت

سوف ينتهي بك الحال دومًا في هذه المدينة

لا تأمل بأشياء في مكان آخر:

لا يوجد سفينة لك، لا طريق

حين بدّدت حياتك هنا في هذه الزاوية الصغيرة،

فأنت دمرتها في كلّ مكان آخر في العالم"[14].

 

من منّا يستطيع الكلام عن مدينته بشكل كامل؟ لا أحد، أزعم أنّه لا لقاهريّ أو قاهريّة أو دمشقيّ أو دمشقيّة أو بيروتيّ أو بيروتيّة، فعل ذلك. مساحة الصمت أو انعدام الكلام تلك عن مدننا هي مساحة الأغورافوبيا الّتي تتسرّب من خلالها كلّ سياسات تدمير تجاربنا الذاتيّة مع مدننا، بما أنّها هي أرشيفنا الحيّ الباقي، باسم التطوير والتنمية وخطط 2030 وغيرها - ولنا في ما يحدث في جدّة نموذجًا.

 

المدينة والفصام ومتلازمة ألبير قصيري

أتوقّف هنا للإشارة إلى نموذج ذكيّ في تعامله مع الأغوارفوبيا ومساحات الصمت وعنف الكتابة في المدينة، وفي القاهرة تحديدًا. هي رواية «ماكيت القاهرة» (2021) للروائيّ المصريّ طارق إمام. فيها يتناول الروائيّ مراحل أمراض التمدّن والحداثة - ريتشارد سينيت - مرحلة مرحلة، فيبدأ بالتواطؤ مع الخوف حين يشير إلى ’نود‘ أحد شخصيّات الرواية بالقول: "وهكذا أدركت نود مبكّرّا أنّها لا تخشى ما يستحيل تصديقه، وأنّ الخوف، الخوف الحقيقيّ، الخوف القاتل مختبئ في كلّ ما تراه يوميًّا بوصفه حياتها"[15] في القاهرة. ثمّ يكمل "نظرت نود صوب النافذة. كانت المدينة تعبرها بمشهد مختلف في كلّ لحظة. حتّى التفاصيل البعيدة في الأحياء الّتي لا تُرى من هنا كانت تقترب ثمّ تبتعد، وتحلّ محلّها مشاهد أخرى وكأنّ النافذة عدسة منظار مكبّر يستعرض المدينة".

"ربّما كانت هذه طريقة المسز لتعرف أيّ مكان كانت تعيش، خمّنت نود الّتي حدست أنّ هذه المرأة ربّما لم تغادر هذه الغرفة أبدًا، غير مستبعدة حتّى، لفرط مابدت العجوز جزءًا من المكان، أنّها ولدت حيث تجلس الآن"[16]. الأمر هنا يشبه ما نميل إلى تسميته ’متلازمة ألبير قصيري‘[17] نسبة إلى الروائيّ المصريّ الشهير الّذي سافر - ولم يهاجر - إلى باريس في أربعينيّات القرن الماضي، وعاش طيلة عمره في غرفة في فندق، تغيّرت باريس والبناية والحرب وغيرها، لكن هو لم يتغيّر في موقعه منها، ظلّ يشاهدها فقط، لكن هل كان جزءًا منها؟ هل نحن أجزاء مؤثّرة من مدننا؟

في قاهرة نود في تلك الرواية، لم يكن الموت يثير "حتّى استغرابها، فقد اعتقدت نود دائمًا أنّ الموت ليس إلّا سببًا واحدًا – وربّما هو الأكثر هشاشة وضعفًا - من بين أسباب عديدة، تستوجب الموت"[18] في المدينة.

لعلّ مدننا باتت هي الواقعيّة الفائقة لما كنّا نظنّه مدننا، حيث يتبدّل الأصل إلى صورة وبالعكس، أو أنّها مجرّد ماكيت لفكرة في عقل أحدهم، تظلّ دومًا قيد فائض الكتابة وضوضائها، ونظلّ نحن على أطراف النصّ/ المدينة.

 


إحالات

[1] David Graber and David Wengrow, The Dawn of everything A New History of Humanity (Canada: Penguin Random 2021) p. 315.

[2] Ibid, p. 315.  

[3] Ibid, p. 315.  

[4] Ibid, p. 316.

[5] Max Weber, The protestant Ethics and the Spirit of Capitalism (New York: Charles Scribner’s Sons, 1958) p. 130.

[6] من الأطروحات البليغة في هذا الأمر ما قدّمه عالم الأنثروبولوجيا البريطانيّ إيفانز ريتشارد (1902-1973) من تطوير للأنثروبولوجيا الاجتماعيّة. فكان من مؤلّفاته «العرّافة والتكهّنات الغيبيّة والسحر عند الأزاندي» و«الأنثروبولوجيا الاجتماعيّة» وغيرهم.

[7] دانة السجدي، حلاق دمشق: محدّثو الكتابة في بلاد الشام إبّان العهد العثمانيّ (القرن الثامن عشر)، ترجمة: سرى خريس (بيروت: دار كلمة، 2018) ص 19.

[8] ميشال دو سارتو، ابتكار الحياة اليوميّة فنون الأداء العمليّ، ترجمة: محمد شوقي الزين (بيروت: الدار العربيّة للعلوم ناشرون، 2011) ص 181.

[9] المرجع نفسه، ص 183.

[10] يُنظر كتاب «الحداثة الثوريّة: العمارة وسياسات التغيير في مصر 1936 – 1976» لمحمّد الشاهد، والصادر مترجمًا عن «المركز القوميّ للترجمة» مصر (2020).

[11] يُنظر مقال خالد فهمي بعنوان «مأساة مشروع القاهرة 2050»: shorturl.at/iptR0.

[12] مينا ناجي، 33 عن الفقد والرهاب (القاهرة: دار المرايا للإنتاج الثقافيّ، 2021) ص 115.

[13] Fredric Jameson, “Architecture and the Critique of Ideology”, In Architecture, Criticism, Ideology, edited by Joan Ockman (Princeton Architectural Press, 1985) p. 55.

[14] مينا ناجي، 33 عن الفقد والرهاب (القاهرة: دار المرايا للإنتاج الثقافيّ، 2021) ص 123.

[15] طارق إمام، ماكيت القاهرة (ميلانو: دار المتوسّط، 2021) ص 20.

[16] المرجع نفسه، ص 23.

[17] يعمل الباحث كاتب هذه المادة على التقعيد لنظريّته المسمّاة «متلازمة ألبير قصيري» من خلال بحث ينشر قريبًا في كتابه.

[18] طارق إمام، ماكيت القاهرة (ميلانو: دار المتوسّط، 2021) ص 24.

 


 

عبد الله البيّاري

 

 

 

طبيب وباحث أكاديميّ فلسطينيّ ومدير «مكتبة الأرشيف» في عمّان ، متخصّص في النقد الأدبيّ والدراسات الثقافيّة، له مقالات وبحوث منشورة في صحف ومواقع ومجلّات عربيّة.