نقد العقل العربيّ والنهضة عند الجابري (3/3)

محمّد عابد الجابري (1935 - 2010)

 

كنّا في المقالة الأخيرة تحدّثنا عن مقارنة الجابري بين العقل العربيّ والعقل اليونانيّ والغربيّ، وقد بيّن الجابري أنّ العقلين الأخيرين ارتبطا بإدراك الأسباب في حين ارتبط العقل العربيّ بالسلوك والأخلاق، أي بالجانب القيميّ بين الجميل والقبيح.

 

العقل في الموروث الثقافيّ العربيّ 

يفنّد الجابري هذه النتيجة من خلال استحضار تعريف العقل العربيّ من التراث الفكريّ واللاهوتيّ العربيّ؛ فيقول ورد تعريف العقل في «لسان العرب» (1290) بوصفه: "الحجر والنهي، ضدّ الحمق، والعاقل هو الجامع لأمره ورأيه، مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت قوائمه"، وقيل: "سُمِّيَ العقل عقلًا لأنّه يحبس صاحبه عن التورّط في المهالك"، وجاء في لسان العرب: "النهي جمع نهيّة والنهيّة تنهى عن القبيح". والحِجا هو التفطّن إلى المغالط والأحاجي المغاليط – المغاليط وليس الأسباب – فيقول الجابري: "إنّ الأمر هنا يتعلّق بالجانب القيميّ وليس المعرفيّ ’وحده‘ مكمّلًا: "والفؤاد هو التقؤّد، أي ’التوقّد‘، وهو يؤكّد الدلالة العاطفيّة الّتي أشير إليها، والفكر إعمال الخاطر في شيء، فثمّة ما يضفي على الخاطر معنىً قيميًّا، فقد ورد في «لسان العرب»: "ليس لي في هذ الأمر فكر، أي ليس لي فيه حاجة".

حين نقول العاقل هو الجامع لأمره ورأيه نقول إنّه يستطيع بقدرته الفرديّة أن يقرّر أمره ويكون له رأيه الخاصّ فيه

يمكن هنا رؤية الجابري يجمع كلّ ما يمكن جمعه لإثبات وجهة نظره القائلة إنّ العقل العربيّ عقل قيميّ من خلال تعريفاته المقتبسة من «لسان العرب»، مركّزًا على النهي والقبول من خلال الحسن والقبيح. لكن ماذا عن الجملة الأولى في تعريف «لسان العرب» للعقل القائلة: "العاقل هو الجامع لأمره ورأيه". ثمّة أهمّيّة لهذه العبارة لا يجب إهمالها والتركيز على الجانب الآخر لإثبات وجهة النظر – وذلك النمط الّذي انتقده الجابري في طريقة الكتابة العربيّة في كتابه «الخطاب العربيّ المعاصر» (1982) - فحين نقول العاقل هو الجامع لأمره ورأيه نقول إنّه يستطيع بقدرته الفرديّة أن يقرّر أمره ويكون له رأيه الخاصّ فيه، فألا يذكّر هذا التعريف المختصر برأي كانط في التنوير الّذي يؤسّس فيه لأهمّيّة العقل بقوله: "إنّ بلوغ الأنوار هو خروج الإنسان عن القصور الّذي هو مسؤول عنه، والّذي يعني عجزه عن استخدام عقله دون إرشاد الغير؟". وهذا التعريفان ليسا بعيدان عن بعضهما ليتجنّب الجابري هذه العبارة من «لسان العرب».

يكمل الجابري إثبات رأيه في العقل العربيّ القيميّ من خلال «القرآن»، فيقول: "إذا ما استشرنا الكتاب المبين، «القرآن الحكيم»، فإنّنا سنجد هذا المعنى القيميّ المرتبط بكلمة عقل وما تعنيه، يعبّر في الأغلب الأعمّ عن التمييز بين الخير والشرّ وبين الهداية والضلال". فيضرب عدّة أمثلة من الآيات ويعلّق: "كلّها آيات تربط بين العقل والهداية والمسؤوليّة"، وثمّة على هذا المستوى مشكلتان؛ الأولى الاستدلال بكتاب لاهوتيّ لتعريف العقل في كتاب فكريّ – يقول إنّه ينحى منحى العقلانيّة – رغم أنّه بحث في التراث والثقافة لعلاج مشكلات العقل، ومن ثمّ لا بدّ من تناول كتاب يشكّل جزءًا من هذه الثقافة، لكنّه ليس بالمرجع المناسب للاستدلال بالذات على مسألة تعريف العقل لدى المفكّر العربيّ، أي الخاصّ من الثقافة وليس الشعبيّ منها.

المسألة الثانية أنّ من الطبيعيّ أن يرتبط كتاب جاء من أجل الأخلاق بكلّيّته يسهم في إثبات وجهة نظر تقول إنّ العقل العربيّ عقل قيميّ؛ فالدين الإسلاميّ جاء ليتمّم مكارم الأخلاق بحسب النصّ الدينيّ الإسلاميّ، وعليه يكون من الطبيعيّ ربطه بالخير والشرّ والهداية والضلال. ثمّة أيضًا بعض الآيات الّتي تتشابه مع الأمثال مثل: "إنّ شرّ الدواب عند الله الصمّ والبكم الّذين لا يعقلون"، والّتي تفيد أنّ العاقل من يرى ويسمع ليستطيع أن "يَعْقِلْ"، وهنا أخذ بالأسباب للإدراك. هنا نجد هذه الآيّة تحثّ على التعقّل من خلال أمر حسّيّ في الرؤية والسمع، وهو جانب تجريبيّ لا يختلف عن أساليب الاستدلال اليونانيّة أو الغربيّة على سبيل المثال.

لنتأمّل في نصّين للجابري يقول في أحدهما: "كلّها آيات تربط بين العقل والهداية والمسؤوليّة"، وقوله السابق على هذا النصّ:" لقد امتدّ مفهوم العقل في الثقافة اليونانيّة والأوروبّيّة إلى ميدان الأخلاق... بل فصَّلوا القول في أخلاق العقل الّتي ترتبط بفكرة الواجب". أليست المسؤوليّة هي نفسها الواجب؟ حتّى في الواجب الكانطيّ الّذي يدعو إلى فعل الخير من خلال العقل يقول إنّ عليك بفعل الشيء لذاته وحده دون منفعة مادّيّة من ورائه أو روحيّة؛ فألا يرتبط ذلك بمفهوم القيمة أيضًا، قيمة الشيء وحده ولذاته؟ أيّ أنّنا في النهاية نُقيّم.

يكمل الجابري: "بإمكاننا أن نؤكّد من الآن أنّ مفهوم العقل في الفكر العربيّ يمتدّ هو الآخر إلى ميدان المعرفة، ولكن ثمّة فرق كبير بين الاتّجاه من المعرفة إلى الأخلاق والاتّجاه من الأخلاق إلى المعرفة". لا بدّ من الوقوف عند هذه الجملة لما فيها من أحكام خطيرة؛ أوّلًا، إنّ تراتبيّة الأخلاق والمعرفة والقيمة في الفكر الغربيّ مختلف عليها، وثانيًا، كيف يمكن الحكم على كلّ الإنتاج العربيّ بأنّه كان متّجهًا من الأخلاق إلى المعرفة؟ إنّ هذا تعميم خطير، وبالنسبة للمسألة الأولى لا بدّ من أن نوضّح مسألة الخلاف على تراتبيّة  المعرفة والأخلاق والقيمة في الفكر اليونانيّ والغربيّ، وهي مسألة لا بدّ من التوقّف عندها كما فعل الجابري الّذي اعتمد الحفر ومنهج الحفريّات في استنتاجاته.

فإن كان العقل العربيّ قيميّ من وجهة نظر الجابريّ، لا بدّ من الحديث عن مسألة القيمة والعقل قليلًا عند اليونان والغرب؛ فقد وضع نيتشه القيمة للأفعال في المقدّمة، أي أنّه قدّمها على المعرفة، فالمعرفة لدى نيتشه تكمن قيمتها للإنسان، وقد قام بقلب المباحث الكلاسيكيّة للفلسفة المعروفة بتراتبها بحسب الأهمّيّة: الوجود أوّلًا ثمّ المعرفة فالقيم، جاعلًا الوجود والمعرفة تابعان لسؤال القيمة لتصبح التراتبيّة هي القيمة أوّلًا فالمعرفة ثمّ الوجود، وجاعلًا الجمال أوّلًا متقدّمًا على الخير – الأخلاق – وعلى الحقّ – المنطق.

 

الفعل الأخلاقيّ في الفكر الغربيّ

حتّى الفعل الأخلاقيّ في الفكر الغربيّ متنوّع كالفعل لذاته عند كانط، والأخلاق النفعيّة عند المدرسة النفعيّة، أو الفعل لقيمته عند نيتشه الّذي يقول في القيمة: "الشعور القيميّ والجدل القيميّ عند سقراط: إنّ المشكلة اللاهوتيّة القديمة، مشكلة ’الإيمان‘ و’العلم‘، أي مشكلة الفطرة والعقل، تطرح سؤالًا: هل تستحقّ الفطرة بالنظر إلى تقييم الأشياء سلطة أكبر من التعقّل الّذي يريد أن يقيّم ويفعل وفقًا لـ ’لماذا‘ وللأسباب، ووفقًا للغائيّة والنفعيّة؛ إنّ هذه مشكلة أخلاقيّة لا تزال على حالها"، ويقول على لسان سقراط: "فسارع إلى إقناع نفسه: لِمَ على المرء أن يعمل ما فُطِرَ عليه؟ بل عليه – بالأحرى – أن يقف إلى جانبه كما إلى جانب العقل لينال كلّ حقّه، عليه اتّباع الفطرة مع إقناع العقل بأن يدعمها في ذلك لأسباب وجيه، ذلك هو الرياء الحقيقيّ لذلك المتهكّم الكبير".

حتّى الفعل الأخلاقيّ في الفكر الغربيّ متنوّع كالفعل لذاته عند كانط، والأخلاق النفعيّة عند المدرسة النفعيّة، أو الفعل لقيمته عند نيتشه

يجب تأمّل هذا النصّ جيّدًا، فهو إلى جانب انتقاده الإيمانيّة، أي الفطرة، والعقلانيّة في قيمة الفعل، فإنّه، نيتشه، يُقْدِمُ عبر منهج سيكولوجيّ على توضيح طبقات من العوامل النفسيّة الّتي تؤدّي بنا إلى القيام بفعل ما. أمّا عن تعقيد تكوين النفس البشريّة، فيقدِّمُ إرهاصًا فلسفيًّا نفسيًّا عن التبرير العقلانيّ للفعل الّذي يُحْدِثه المرء ليقنع نفسه بأسباب قيامه لفعل ما أو اعتقاد ما، وهذا يبدو جليًّا في تقسيم ماكس فيبر للفعل الاجتماعيّ.

حيث قسّم عالم الاجتماع الألمانيّ ماكس فيبر أربعة أنماط مختلفة من نماذج الفعل الاجتماعيّ، أوّلها نموذج الفعل العقليّ الهادف والقيميّ، والّذي يرتبط بتوقّعات سلوك كائنات بشريّة أخرى أو أغراض في البيئة. تلك التوقّعات تعدّ وسائل أحدهم للوصول إلى غايته، ويصف فيبر السعي إلى تلك الغايات بأنّه عقلانيّ ومحسوب. النموذج الثاني هو الفعل العقليّ المطلق، وهنا يتمّ الفعل وفق أسباب جوهريّة لدى أحدهم، فبعضها تكون أخلاقيّة، أو جماليّة، أو دينيّة، أو غير ذلك من المحفّزات. أمّا النموذج الثالث فهو العاطفيّ، الّذي يتحدّد بناءً على تأثير، شعور أو عاطفة لدى أحدهم، ويصف فيبر نفسه بأنّ هذا النوع من الفعل يقع على حدود الفعل العقليّ الهادف. النوع الرابع هو الفعل التقليديّ أو المألوف، والّذي يجري وفقًا للعادات المترسّخة. يؤكّد فيبر أنّ من النادر أن يوجد واحد فقط من هذه التوجّهات، فالطبيعيّ أن توجد مختلطة. ويدلّ أسلوبه على أنّه اعتبر أوّل نوعين أهمّ من الاثنين الآخرين، ويجادل البعض بأنّ الثالث والرابع فرعان من أوّل اثنين.

إنّ ما ميّز تفسير فيبر للعقلانيّة هو تجنّبه المغالاة في التقييم، كأن يقول أنّ بعض الأنواع من المعتقدات لا عقلانيّة. بدلًا من ذلك، يرى فيبر أنّ ثمّة أساسًا أو باعثًا دينيًّا مثلًا، يمكن تتبّعه ليقدّم تفسيرًا أو تبريرًا للفعل، ولو كان التفسير لا يتماشى مع الفعل العقليّ وغاياته.

هنا نرى أنّ الأخلاق العقلانيّة الّتي يطرحها كانط كفعل صادر عن العقل وحده، هي أخلاق المسيحيّة – أي المعتقد الدينيّ أو الفعل التقليديّ المألوف كما يوضّح فيبر – لكنّ كانط قام بإلباسها لبوس العقل ليبرّرها، كما فعلها سقراط قبل ذلك، فماذا عن العقلانيّة لدى العرب في أفعالهم وأقوالهم، وهنا يمكن استحضار اقتباسات الجابري المتنوّعة في تعريف العقل بين عقلانيّة وعاطفيّة ونفعيّة ومسؤوليّة، أليست هذه الطبقات هي ذاتها موجودة في الفكر الأوروبيّ كما يوضّحها عالم الاجتماع فيبر في عقلانيّة فعل ما؟ غير أنّ الجابري يقفز عن هذه الإشكاليّة والتراتبيّة في العوامل المتعلّقة بالعقلانيّة في الفكر الأوروبّيّ ليطلق الحكم بأنّ العقل العربيّ مرتبط دومًا بالذات وحالاتها الوجدانيّة وأحكامها القيميّة، بينما العقل بحسب اللغات الأوروبيّة – حكم آخر سريع حول كلّ اللغات الأوروبّيّة ومفهوم العقل المرتبط بها – مرتبط دومًا بالموضوع ونظام الوجود أو إدراك هذا النظام أو القوّة المدركة.

 

العقل الارتجاليّ البداهيّ عند الجاحظ

ينتقل الجابرى بعد ذلك إلى مستوىً ثان من توصيف العقل العربيّ، بعد القيميّة، إلى أنّه ارتجاليّ منفعل وبداهيّ مقتبسًا من كلام الجاحظ والشهرستاني بوصفهم نقّادًا بقوله: "لعلّ هذا ما أبرزه النقّاد القدماء أمثال الجاحظ والشهرستاني ممّن تعرّضوا للمقارنة بين العرب والعجم في مجال الفكر والثقافة، يقول الجاحظ في نصّ مشهور له:" ...إلّا أنّ كلّ كلام للفرس وكلّ معنًى للعجم هو عن طول فكرة واجتهاد ومشاورة ومعاونة وطول تفكّر.. وكلّ شيء عند العرب إنّما هو بديهة وارتجال وكأنّه إلهام، وليس عن مكابدة ولا معاناة ولا إطالة فكر ولا استعانة". وهنا يقول الجابري: "إنّ الجاحظ الّذي ساق ملاحظاته هذه في إطار الإشادة بالعرب وردّ الهجمات الشعوبيّة ربّما لم يكن متنبّهًا إلى أنّه يسلبهم القدرة على التعقّل بمعنى الاستدلال والمحاكمة، إنّ العقل العربيّ بحسب الجاحظ قوامه البداهة والارتجال وهو يريد سرعة الفهم وعدم التردّد في إصدار الأحكام، وذلك معناه تحكّم النظرة المعياريّة الّتي تؤسّسها ردود أفعال آنيّة".

لنبدأ أوّلًا بتعريف الجاحظ، إنّ الجاحظ أوّل ما يعرف عنه أنّه أديب أكثر من كونه ناقدًا فكريًّا أو مفكّرًا، ومعظم كتاباته اشتغلت في الأدب والفصاحة والنقد الأدبيّ، وإن كانت له مساهمات فكريّة لكنّ ذلك مقام آخر غير مقام الاقتباس الّذي أورده الجابري من كتاب «البيان والتبيين»، وهو كتاب يعالج موضوعًا أدبيًّا في المقام الأوّل، يعرّف فيه الجاحظ بمنتخبات أدبيّة من خطب ورسائل وأحاديث وأشعار ويحاول وضع أسس لعلم البيان وفلسفة اللغة، فكيف نقتبسه في مكان لتعريف الفكر العربيّ ونحمّله ما لا يحمل في تعريف ’العقل العربيّ‘؟

ما ميّز تفسير فيبر للعقلانيّة هو تجنّبه المغالاة في التقييم، كأن يقول أنّ بعض الأنواع من المعتقدات لا عقلانيّة. بدلًا من ذلك، يرى فيبر أنّ ثمّة أساسًا أو باعثًا دينيًّا مثلًا، يمكن تتبّعه ليقدّم تفسيرًا أو تبريرًا للفعل

إنّ بداية الاقتباس توضّح لنا الأمر، إذ يقول الجاحظ: "كلام الفرس... وكلام العرب..."، وهنا يتحدّث عن الكلام وليس طريقة التفكير أو العقل، إذ أنّ الارتجال معروف لدى العربيّ بسبب فصاحته في المناحي الأدبيّة والشعريّة والمقارعات الكلاميّة وليس الفكريّة، وهنا خلط واضح بين الأمرين لدى الجابري لإثبات وجهة نظره حول النظرة المعياريّة والقيميّة. لا بدّ إذن من الإتيان بنصّ حول التفكير أو الفكر أو العقل في الإنتاج الفكريّ العربيّ وليس المقارعات الكلاميّة والردّ والردّ المضادّ، ومن ثمّ ربط النظرة المعياريّة بردود أفعال آنيّة لوصم التفكير العربيّ بالعاطفيّة والانفعاليّة. يمكن أن توجد النظرة المعياريّة بعد تفكّر شديد ومقارنات ودراسات عديدة، لكنّ خلطه مع المقارعة الكلاميّة لإنتاج صورة مشوّهة بالكامل عن العقل العربيّ وطريقة تفكيره أمر آخر.

يطرح الجابري في مكان آخر نصًّا آخر للمقارنة بين العربيّ والأعجميّ للشهرستاني، أحد علماء السنّة والجماعة الأشاعريّة وهو من خرسان، أي ليس عربيًّا، وهنا لا بدّ من التساؤل عن إدراج نصّ لغير عربيّ في تفسير ووصف العقل العربيّ، وهو ما ينافي المقدّمة الّتي طرحها الجابري حول خصوصيّة العقل العربيّ وهو التفكير من خلال الثقافة العربيّة وليس القول في قضاياها، حتّى إن عاش الشهرستاني ضمن ثقافة عربيّة، فما الفرق بينه وبين المستشرقين الّذين عاشوا ضمن ثقافة عربيّة أيضًا وأنتجوا فكرهم في سياقها والّذين استبعدهم الجابري من هذه الدراسة؟ إنّ من الطبيعيّ أن يفضّل الشهرستاني العقل الأعجميّ على العربيّ وهو الّذي ينتمي إلى الأوّل، إضافة إلى اختصاصه الّذي كان يدور حول الحديث والقرآن والفقه وتلك مسألة أخرى.

يختم الجابري فصله بعدم التمدّد أكثر في إثبات هذه النظريّة المعياريّة ولو كثرت الأمثال من ذلك، لكنّه يقول إنّ كلّ من الجاحظ والشهرستاني كانوا يتحدّثون عن ’العقل‘ العربيّ الجاهليّ في هذا التوصيف، مع العلم أنّ كلاهما كانا في العصر العبّاسيّ. من المحيّر كيف أطلق الجابري هذا الحكم عن حديثهما بأنّهما يتكلّمان عن العقل في العصر الجاهليّ، والّذي يراه امتدادًا حتّى العصر الإسلاميّ.

 

بين طرابيشي والجابري

سنختصر في المسائل الّتي نقدها طرابيشي في مشروع الجابري في الجزئيّات الّتي ناقشها البحث، وقد تتقاطع مع ذات المسائل الّتي سبق وطُرِحَت للنقد والنقاش، حيث ألّف طرابيشي مشروعًا نقديًّا ضخمًا مكوّنًا من سلسلة كتب مقابل مشروع الجابري، منه الجزء الأوّل بعنوان: «نقد نقد العقل العربيّ: نظريّة العقل» (1996)، حيث يقول طرابيشي أنّه أمضى ما يقارب 8 سنوات في تأليفه.

من المسائل المهمّة الّتي أثارها طرابيشي عن كتاب الجابري مسألة الاقتباس والانتحال، في مفهومه الإبستمولوجي عن العقل ونظريّته من محاولات سابقة عربيّة وأوروبّيّة، وأنّ الجابري لم يرجع إلى الأصل في مراجعه مثل لالاند، بل لجأ إلى إحالات إليها عند فوكييه في معجمه الفلسفيّ عن وجود أخطاء للجابري في الترجمة والفهم، وربّما التحريف أحيانًا مثل مسألة العقل المكوِّن والعقل المكوَّن. إضافة إلى وقوع الجابري في منزلق الإثنيّة المركزيّة في تمييزه بين العقل العربيّ والعقل الأوروبّيّ واليونانيّ، وتفضيل الأخيرين عليه بشكل واضح ممّا يجعله يدعّم نظريّة المركزيّة الأوروبّيّة باعتبارها تمثّل المحتكر الوحيد للفكر العقلانيّ؛ مبيّنًا أنّ العقل البشريّ ما هو إلّا نتاج ثمرة تراكم معرفيّ.

من المسائل المهمّة الّتي أثارها طرابيشي عن كتاب الجابري مسألة الاقتباس والانتحال، في مفهومه الإبستمولوجي عن العقل ونظريّته من محاولات سابقة عربيّة وأوروبّيّة

إضافة إلى إغفال الجابري إسهامات الحضارات القديمة الأخرى من الصينيّة والهنديّة وحضارات المشرق الأدنى ومصر الفرعونيّة، مستهجنًا منه إنكار عطائها الفكريّ واختصارها بالسحر والشعوذة. كما يوضّح طرابيشي الرؤية الجغرافيّة لدى الجابري في فكره على حساب الرؤية التاريخيّة، طارحًا أمثلة حول ميراث المدرسة الإسكندريّة والمدارس الهيلينستيّة كممثّل حقيقيّ للثقافة اليونانيّة، ضاربًا أمثلة كثيرة حول لا عقلانيّة الموروث اليونانيّ مثل الأساطير والميتافيزيقيا التأمّليّة والمثاليّة الأفلاطونيّة، حيث أنّ هذا التهوين من حمولة الأسطورة والتهويل من حمولة العقل لدى الثقافة اليونانيّة يراه طرابيشي نوعًا من تكريس لإمبرياليّة العقل والتبعيّة. كما يأخذ على الجابري آفّة الانتقائيّة، بل التزوير حين قَصَرَ العقل الأوروبّيّ الحديث واختصره في فلسفات ديكارت وكانط وسبينوزا، واختصر أهمّ مرتكزاته وهم أصحاب الثورة العلميّة التجريبيّة؛ فالنموذج الأوّل تأمّليّ لاهوتيّ، والثاني هو ثوريّ وعلميّ وتجريبيّ، وتلك مسألة مهمّة في تحديد المؤدّيات الفعليّة إلى النهضة والتقدّم، مناقشًا عدّة مسائل حول العقلانيّة والسببيّة في الفكر الأوروبيّ ونقدها، متّهمًا الجابري في قصور فهمه لهذه الفلسفات.

خلاصة القول هنا إنّ طرابيشي عَمِدَ بجهد طويل تفكيك كلّ المسائل الّتي طرحها الجابري واحدة تلو الأخرى بنفس طويل مفصّل، وقد اتّهمه البعض بتكرار معلومات معروفة لدارسي الفكر والتاريخ، كما تمّ اتّهامه بوجود سابقين له في هذا النقد والّذين لم يُشِرْ إليهم في دراسته هذه، وهذا الخطأ الّذي عابه على الجابري كان قد وقع فيه نفسه. كما انتقد البعض في الانزلاق في السجاليّة مقابل الجابري، أمّا البعض فقد رأى أنّ كتاب الجابري ما هو إلّا نوع من "استشراق عربيّ جديد".

 

ما بعد الجابري

لا يمكن من خلال سلسلة مقالات قصيرة تتناول قضيّتين فقط من القضايا الّتي تعتبر مجرّد بداية وإرهاص لمشروع الجابري الضخم أن نحكم عليه من خلالهما، لكن من خلال دراسة تفصيليّة لهاتين المسألتين وتفكيكهما، لكن يمكن الخروج بعدّة ملاحظات، وهي أنّ الجابري وقع في ذات الفخّ الّذي انتقده من اللا عقلانيّة في كثير من المواضيع وكانت انتقائيّة، ومطلقًا للأحكام السريعة عن قصد أو غير قصد، وغير شامل للحقيقة بجميع جوانبها في المسائل الّتي طُرِحَت. كما أنّ الجابري وقع في محظور انتقده هو ذاته حول اقتباس مفاهيم أنتجها غير حاضره، ولم يبذل المجهود الكافي لتعريفها وتبيئتها بما يناسب هذا الواقع، وبشكل ما يحرّفها عن سياقها الصحيح، من خلال منهج بنيويّ أو فوكويّ أو مفاهيم غربيّة استخدمها لمعالجة واقعه، مع وجود مغالطات وعدم تعمّق في كثير من الحجج والمعلومات الّتي أوردها في هذه المسائل.

أمّا سؤال العقل كطريق لتحقيق مشروع النهضة، وقد تمّ توضيح بعض شروطه خلال السلسلة، فإنّنا نعتقد بضرورة توافر شروط سياسيّة واجتماعيّة واقتصاديّة كافية جنبًا إلى جنب مع المشروع المعرفيّ حتّى يتمّ بلوغه.

 


مرجعيّة

- الشيخ، محمّد. نقد الحداثة في فكر نيتشه (بيروت: الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر، 2008).

- الجابري، محمّد. تكوين العقل العربيّ (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1984).

- الجابري، محمّد. بنية العقل العربيّ (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1986).

- الجابري، محمّد. الخطاب العربيّ المعاصر (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 1982).

- الإدريسي، حسين. محمّد عابد الجابري ومشروع نقد العقل العربيّ (بيروت: مركز حضارة لتنمية الفكر الإسلاميّ، 2010).

- درّاج، فيصل وآخرون. العقلانيّة والنهضة في مشروع محمّد عابد الجابري (بيروت: مركز دراسات الوحدة، 2012).

- طرابيشي، جورج. نقد نقد العقل العربيّ (نظريّة العقل). (بيروت: دار الساقي، 1996).

- فيّاض، حسام الدين. نظريّة الفعل الاجتماعيّ عند ماكس فيبر (مكتبة نحول علم اجتماع تنويريّ، 2018).

- كانط، إمانويل. تأمّلات في التربية، ترجمة وتعليق محمود بن جماعة (تونس: دار محمّد علي للنشر، 2005).

- نيتشه، فريدريك. ما وراء الخير والشرّ: تباشير فلسفة للمستقبل (بيروت: دار الفارابي، 2003).

- يحيى، محمّد. «مع نقد نقد العقل العربيّ للطرابيشي». الفكر العربيّ. العدد 89 (1997) ص 68-101.

- ضاهر، جمال وآخرون. «عرب ما قبل الدعوة: بين نقد العقل العربيّ ونقد نقد العقل العربيّ». مجلّة الفكر العربيّ المعاصر. العدد 168. (2015) ص 56-46.

- إسماعيل، محمود. «نقد نقد العقل العربيّ: لجورج طرابيشي". حزب التجمّع الوطنيّ التقدّميّ الوحدويّ. العدد 139. (1997) ص 73-82.

- بن سليمان، صادق. «مفكّرون عاشوا ليكتبوا واغتربوا ليجدّدوا». مجلّة أنسنة للبحوث والدراسات. العدد 5. (2012)، ص 17-6.

- جمال الدين، قوعيش. «المشروع العربيّ عند جورج طرابيشي: نقد نقد العقل العربيّ أنموذجًا». أوراق فلسفيّة. العدد 52. (2016) ص 765-784.

- دراج، فيصل. «الفكر العربيّ: الماضي، الحاضر، الآفاق». مجلّة العلوم الاجتماعيّة. العدد 4 (1998) ص 145-137.

 


 

إسلام كمال

 

 

كاتبة فلسطينيّة وحاصلة على درجة الماجستير في «الفلسفة» من «معهد الدوحة للدراسات العليا». يصدر لها قريبًا كتاب «الجنسانيّة في الهزيمة والانتصار» عن «مركز دراسات ثقافات المتوسّط».