فلسفة البيت، أو البيت مجازًا فلسفيًّا

نينا م. ديفيس

 

القبض على الواقع مجازًا

يبدو أنّ الحديث عن البيت مجازًا فلسفيًّا، لأولئك الّذين لا يملكون بيتًا من حجر وطين، أو بيتًا قوميًّا يؤمّن لهم حياة اجتماعيّة ثقافيّة، باعتباره نوعًا من الترف، لا بل حديثًا إشكاليًّا، كَمَنْ يرشّ الملح على الجروح. ومَنْ يقضي أيّامه في الغربة، منقطعًا عن سياقه الاجتماعيّ، أو مَنْ يقضي أيّامه بدون سقف يأويه، فإنّ كلّ الكلام الفلسفيّ النقديّ عن أهمّيّة المنفى مساحةً تتيح بُعْدًا نقديًّا، لا تستطيع أن تسعفه في غربته أو تقيه برد الشتاء.

على ذاك؛ من الواضح أنّ الكلمات ليست بديلًا لسقف يأوي المرء، إلّا أنّه بصفتنا كائنات معنويّة تسعى إلى فهم العالم من خلال إسباغ معانٍ ومغازٍ على الواقع المادّيّ، فلا مفرّ من خوض السؤال حول معنى البيت والمنفى وعلاقتهما، وكما أنّ الكلمات لا تغني عن سقف مادّيّ، فإنّ المادّيّة الفجّة ليست بديلًا لبحثنا المستمرّ عن المعنى وعن الدلالات الرمزيّة للبيت، فكم من امرئ يعيش في وطنه، بين أهله، وتحت سقف بيته، لكنّه يعيش مغتربًا، ومسلوبًا، ومنزوعًا، عاجزًا، ومنفصلًا عن ذاته وعن سياقه. لا يمكن القبض على الواقع إلّا مجازًا، ولا يمكن القفز عن محاولة البحث عن المعنى.

 

بيوت من فلسفة وأدب

سيطرت فكرة البيت بتجلّياتها المختلفة، أو العودة إلى البيت، باعتبارها توقًا مستمرًّا، وفكرةً ناظمة في تاريخ الفلسفة منذ نشأتها، بدءًا من الفلسفة اليونانيّة، مرورًا بالفكر الدينيّ الّذي اعتقد أنّ الوجود البشريّ على وجه الأرض عبارة عن رحلة شاقّة ومضنية، وأنّ البيت الحقيقيّ الوحيد يكون في الحياة الأخرى بعد الممات، حيث الراحة الأبديّة. وألهمت فكرة المنفى وتوق العودة إلى البيت التراث الأدبيّ والميثولوجيّ منذ توق إبراهيم إلى العودة إلى بلده. ومرورًا في رحلة الأوديسة المستمرّة، وحين يعرض كاليبسو على يوليس الخيار بين الحياة الأبديّة وبين الوطن، فإنّه يختار الوطن على الأبديّة في المنفى.

البيت القوميّ - الوطنيّ هو السياق والانتماء الّذي يزوّد المرء بالمعنى دون وساطة الترجمة، إنّما تكتسب الأمور دلالاتها بشكل مباشر، بطرق مختصرة، تحت رادار الوعي، مخاطبةً البديهة...

وفي العصر الحديث يصف جورج لوكاتش الفلسفة باعتبارها: "الحنين المستمرّ إلى البيت" (Homesickness)، أمّا هيغل فيتحدّث في كتابه «فينيمولوجيا الروح» عن "عودة الروح إلى البيت"، تلك العودة الّتي تسعى إلى التغلّب على حالة الانفصال والاغتراب الّتي تعاني منها الذات البشريّة في العصر الحديث، واصفًا هذه العودة بأنّها نوع من المصالحة الّتي تلتئم فيها الجروح والندوب الّتي تركها الاغتراب والانسلاخ للذات المعاصرة، وتبدو الفلسفة بالنسبة إليه كتلك الرغبة في إحداث المصالحة بين الذات وذاتها، وبين الذات والعالَم، رَدَّ فعلٍ على الهوّة غير القابلة للجسر، الّتي أقامها الفكر الكانطيّ بين الذات والعالم أوّلًا، وبين الذات بوصفها فكرة والذات بوصفها مادّة ثانيًا. ومجاز العودة إلى البيت مجاز عودة إلى تلك الحميميّة الّتي تشعر فيها الذات بأنّها متصالحة مع ذاتها، راضية، تسكن بيتها الآمن.

ويتحدّث شاعر مثل روبرت فروست عن البيت ويقصد الوطن، باعتباره ذلك المكان الّذي يُعْتَبَر الانتماء إليه بديهيًّا، وليس المطلوب من المرء أن يقوم بشيء أو عمل أو إنجاز كي يحظى به، أن يثبت جدارته أو استحقاقه كي يناله؛ هو انتماء بديهيّ وفطريّ لا يحتاج إلى جهد، ولا يحتاج إلى الوساطة أو إلى إثبات مستوًى من الدخل، والثقافة، والمعرفة.

بهذا المعنى فإنّ البيت القوميّ - الوطنيّ هو السياق والانتماء الّذي يزوّد المرء بالمعنى دون وساطة الترجمة، إنّما تكتسب الأمور دلالاتها بشكل مباشر، بطرق مختصرة، تحت رادار الوعي، مخاطبةً البديهة. إنّ هذه البداهة، وهذا الثبات، يبعثان كاتبًا مثل بروتولد بريخت ليضع على لسان أحد أبطاله في دائرة الطباشير القفقازيّة جوابًا بسيطًا للسؤال: لماذا يحبّ الإنسان وطنه؟ مجيبًا: لأنّ الصوت يرنّ فيه أوضح، ولأنّ الأرض تتحمّل السير أكثر.

بهذا المعنى، يمثّل البيت – إن كان البيت العائليّ، وإن كان البيت القوميّ - نوعًا من المنطقة الآمنة الّتي تؤهّل المرء إلى أن يتعثّر ويقف على رجليه، المنطقة الآمنة الّتي تسمح له أن يخطئ دون أن يقع في الهاوية، أن يتعلّم من خطئه وينهض مجدّدًا؛ لأنّ جزءًا من الأنا موزّع في الآخرين، وفي الجماعة الّتي تمكّن المرء من أن يلمّ أشلاءه المتناثرة، ويصوغ نفسه من جديد. وليس صدفة أن تربط اللغة العربيّة – كما يلفت النظر الشاعر شوقي بزيع - بين البيت بصفته مسكنًا وبين السكون. البيت بصفته مسكنًا يمثّل منطقة السكون والراحة والطمأنينة. وليس صدفة كذلك أنّ اللغة العربيّة ربطت بين بيت السكن وبيت الشعر؛ لإدراكها أهمّيّة الشعر وأهمّيّة اللغة بصفتها حيّزًا يجد فيه المرء نفسه، وتسكن الروح اللغة كما يسكن الجسد البيت.

 

خروج وعودة

إلّا أنّ صفة السكون والركون قد تكون مصدرًا للقلق؛ لأنّ السكون المطلق هو الموت، كما تستجلب هذه الصفة إلى الذهن والخيال حاجة الذات إلى الخروج من البيت، من حالة السكون والركون، من المنطقة المألوفة، إلى مناطق غير مألوفة، ومن الحميميّة المفرطة إلى ميناء الغربة، من التكرار والثبات إلى المغامرة والمفاجأة، من حميميّة حبّ الأمّ إلى مخاطرة العشق مع امرأة/ رجل غريب/ ة، من الأمان إلى الترقّب. أليست الحياة نوعًا من الخروج المستمرّ من هذه الحميميّة منذ لحظة الخروج من الرحم أوّلًا، ثمّ لحظة الدخول إلى المدرسة والخروج الأوّليّ من البيت، ثمّ لحظة خروج الأولاد من البيت تمامًا وانطلاقهم نحو المجهول؟ هل ثمّة حياة دون الدخول في المجهول، دون الاغتراب؟ أليست الحياة أو بعضها تغلّبًا على هذا التوق، المفهوم طبعًا، إلى العودة إلى المألوف والعاديّ والحميميّ؟

الإنسان تتنازعه نزعتان لا نزعة واحدة؛ نزعة الخروج ونزعة العودة، نزعة المغامرة ونزعة الأمان والسكون، وإنّ الإيغال في أيٍّ منهما يشكّل خطرًا على الكيفيّة الّتي نعيش فيها حياتنا.

لا جواب واحدًا عن هذه التساؤلات، لكنّها تشير إلى أنّ الإنسان تتنازعه نزعتان لا نزعة واحدة؛ نزعة الخروج ونزعة العودة، نزعة المغامرة ونزعة الأمان والسكون، وإنّ الإيغال في أيٍّ منهما يشكّل خطرًا على الكيفيّة الّتي نعيش فيها حياتنا.

حتّى لو كان الحنين طبيعيًّا، لكنّ الحنين يحوي أيضًا نوعًا من التوق إلى إيقاف الحركة، إلى السكون المفرط، إلى الرضا عن الذات، إلى نوع من التماهي للذات مع ذاتها، والكلمات مع معانيها، بحيث يصبح كلّ شيء مغاير مختلف نوعًا من التهديد، خوفًا من الغريب، خوفًا من المفارقة، من السخرية الحيويّة. وهذا التطابق، أو الرغبة في التطابق بين الأنا وذاتها، وبين الأنا وبيتها، وبين الشعب وأرضه، لا بدّ من أن يؤدّي في النهاية إلى شعور متميّز بالملكيّة الحصريّة وبالهويّة المتناسقة والمتناغمة مع ذاتها، الّتي ترفض كلّ غريب، وكلّ جديد، والّتي قد تؤدّي بسهولة إلى فكر أصوليّ متزمّت. كلّ فكر أصوليّ يفرط من الشعور في البيت، ويرغب في العودة إليه سريعًا، ويرغب في أن يحميه من أيّ دنس كان، مشغولًا بالنقاء والطهارة والعفّة.

مقابل هوس الملكيّة، وهوس الهويّة، كتب الراهب هوغو سانت فكتور، منذ نحو ألف عام، أنّ المرء في نعومة أظافره يعتاد مكانًا واحدًا ووحيدًا، ويشعر بأنّه بيته وبأنّ العالم غريب عليه، هذا هو الإنسان الساذج. عندما يكبر المرء ويتجوّل في العالم فإنّه يكتشف أنّ العالم كلّه مألوف، وأنّ كلّ العالم بيت لنا، وهذا هو الرجل القويّ. لكنّ الرجل الكامل الحكمة هو الّذي يستوعب أنّ العالم كلّه عبارة عن منفًى واحد مستمرّ.

 

معانقة الاغتراب

وجهة النظر هذه لدى فكتور، يكرّسها الناقد أريك أروباخ، ويستحضرها إدوارد سعيد في كتاباته العديدة حول المنفى، حيث الاحتفاء بالمنفى باعتباره طريقة لحدس الكون، وتعبيرًا عن طبيعة الوجود الإنسانيّ الّذي عليه أن يستوعب لاملكيّته للأشياء، مذوّتًا طبيعتنا العابرة في هذا العالم، مشدّدًا على أهمّيّة الهامشيّة والمنفى بُعْدًا ضروريًّا كي يستقيم النقد، لكن في حين يؤسّس الراهب سانت فكتور لهذا الموقف دينيًّا، فإنّ إدوارد سعيد يؤسّس له علمانيًّا.

يلتقي سعيد بنقده كلّ فكر يوغل في التمركز في البيت، بنقده لكلّ فكر هويّاتيّ يوغل في مديح الهويّة، والهويّة في نهاية المطاف نوع من الشعور في البيت، من شعور الأنا بالراحة المطلقة مع ذاتها دون إضافة أو نقصان. لكن الأنا – كما يشير فرويد - في حالة صراع دائم، منشطرة على ذاتها، منقسمة، متعدّدة، وما ’الأنا‘ المزعومة سوى هذه المحاولات للأنوات المتعدّدة داخل ’الأنا‘ أن تنتظم علاقتها ببعضها بعضًا؛ أي أنّه داخل كلّ ’أنا‘ ثمّة ’أنوات‘ أخرى، وداخل كلّ بيت ثمّة منفى، وكلّ هويّة مجموعة من الهويّات المتصارعة.

يعبّر هذا المنطق وهذا الفهم عن نظرة جماليّة للعالم، تقوم على احتضان جراحنا المفتوحة غير القابلة أبدًا للتضميد، وبدل العودة، أو الحنين المستمرّ إلى عالم تلتئم فيه الجراح، وتعود الروح إلى مساكنها الآمنة، فإنّه من المفترض معانقة هذا الاغتراب المستمرّ واحتضانه؛ باعتباره مصدر قلق إيجابيّ يحفّز على الحياة، ويشكّل وقودها المستمرّ.

 

نفي المنفى

حتّى مَنْ يرغب في مديح المنفى، عليه أن ينتبه دائمًا وأبدًا إلى ضرورة وجود البيت، شرطًا أوّليًّا لفهم المنفى؛ لأنّه بدونه يفقد المنفى معناه، بصفته نفي البيت، وليس صدفة أن نجد في اللغة العربيّة كلمتَي المنفى والنفي مشتقّتان من المصدر اللغويّ نفسه؛ لأنّ المنفى نَفْيُ البيت والوطن، ومنطقيًّا لا وجود للمنفى دون وجود البيت، تمامًا كما أنّ مفهوم السفر لا يستقيم إلّا بوجود مفهوم العودة.

المنفى نَفْيُ البيت والوطن، ومنطقيًّا لا وجود للمنفى دون وجود البيت، تمامًا كما أنّ مفهوم السفر لا يستقيم إلّا بوجود مفهوم العودة.

 

وكما يلفت نظرنا محمود درويش غير مرّة، لا معنى لكلمة السفر إذا لم يكن بالإمكان أن نعود إلى مكان ما، إلى مكان يختلف نوعيًّا عن بقيّة الأمكنة؛ لأنّه بدون ذلك فإنّ السفر ليس سفرًا، إنّما مجرّد تيه مستمرّ يصبح فيه الوراء مثل الأمام، والذهاب مثل الإياب، والخروج مثل الدخول؛ ممّا يهدّد بانهيار المعاني جميعها وخلخلة اللغة.

لذا؛ فإنّ درويش الّذي كتب غير مرّة "مَنْ أنا دون منفى؟"، يتأخّر قليلًا في مديح المنفى، وإن كان يدرك أنّ حياته كلّها منفى، "وأنّ في كلّ وطن منفى، وفي كلّ منفًى بيت من الشعر" على حدّ قوله. لكنّه مع ذلك يؤجّل مديح المنفى، إلى أن يليق به المديح: "هناك، تحت شجرة التين الّتي تستضيفني، عند بيت أمّي، عابرًا في خريف عابر".

وهكذا تصبح إمكانيّة نفي المنفى شرطًا لمديحه.

 

* يُنْشَر هذا النصّ بالتزامن مع مجلّة «بدايات»، العدد 34، وهو نصّ افتتاحيّ لورشة فكريّة أُقيمَت في مركز «فان لير» في القدس المحتلّة.

 


 

رائف زريق

 

 

 

قانونيّ وباحث وكاتب فلسطينيّ. يركّز في أبحاثه على مسائل تتعلّق بالنظريّة القانونيّة والسياسيّة، وبقضايا المواطنة والهويّة. يدرّس القانون في «كلّيّة الكرمل الأكاديميّة» بحيفا، ويشغل منصب المدير الأكاديميّ لـ «مركز منيرفا للعلوم الإنسانيّة» في «جامعة تل أبيب».