التحرّر القوميّ بوصفه فعلًا ثقافيًّا

 

"قد يَقتل المستعمِرون في الهند الصينيّة ويعذِّبون في مدغشقر، ويَسجنون في إفريقيا السوداء ويداهِمون في جزر الهند الغربيّة، ومن الآن فصاعدًا يعرف المستعمِرون أنّ لهم ميزة عليهم، وهم يعرفون أنّ أسيادَهم المؤقّتين يَكذِبون ولذلك فإنّ أسيادَهم ضعفاء"[1]. بهذه الكلمات يستهلّ إيمي سيزار (1918 – 2008)، كتابه الشهير «خطاب حول الكولونياليّة» (1950)، متّهمًا الكولونياليّة الأوروبيّة الّتي باتت أيّامها معدودةً بحسب اعتقاده، مدّعيًا أن هذه الحضارة المزيّفة على وشك السقوط لا محالة.

 لكن مَنْ الّذي يملك القدرة على فعل ذلك؟ هل ستنهي هذه الحضارة الاستعماريّة نفسَها أم سينهيها ذلك المستعمَر؟ إنّ إيمان سيزار يقودنا للبحث عمّا تحتاج إليه الذوات الكولونياليّة الّتي عاثت فيها يد الاستعمار فسادًا سياسيًّا، اقتصاديًّا، اجتماعيًّا، ثقافيًّا وحتّى عاطفيًّا لتنتقل من الخضوع إلى الثورة، ومن الخنوع إلى التمرّد، ومن القبول بالظلم إلى المقاومة. والبحث في ما فعله هذا الاستعمار ليَحُول دون وعي هذه الذات الكولونياليّة بآليّاته واستراتيجيّاته الّتي انتهجها؟

من الممكن الجزم بحقيقة أنّ الاستعمار جعل من السيطرة والهيمنة على تاريخ الشعوب المستعمَرة وثقافاتها وهويّتها أهدافًا رئيسيّة لغزوه، وذلك قبل الاحتلال السياسيّ والاقتصاديّ...

إنّ من الصعب، بل من المستحيل، الجزم بالمطلق هنا؛ فلا وجود لتشابه واضح وجليّ بين الثقافات سواءً قبل أو بعد الاستعمار، ولا يمكن حصر الذوات في منطقة جغرافيّة معيّنة. غير أنّه من الممكن الجزم بحقيقة أنّ الاستعمار جعل من السيطرة والهيمنة على تاريخ الشعوب المستعمَرة وثقافاتها وهويّتها أهدافًا رئيسيّة لغزوه، وذلك قبل الاحتلال السياسيّ والاقتصاديّ لأيّ بقعة جغرافيّة، ما خلّف آثارًا في تلك الشعوب حتّى بعد نيلها للاستقلال السياسيّ. إذ يقول الروائي الكاريبي جورج لامينغ: "إنّ التجربة الكولونياليّة تجربة حيّة في وعي هؤلاء الناس [...] وهي تجربة نفسيّة دائمًا لا بدّ من التعامل معها ويجب أن يجري التعامل معها بعد الانتهاء الفعليّ رسميًّا وبمدّة طويلة من الوضع الكولونياليّ"[2]. لذلك رأى بعض المفكّرين والمناضلين أنّ تحرير الشعوب اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا يرتبط بالمقام الأول بتحرّرها الفكريّ وانعتاقها الثقافيّ. فأين تتجلّى أهمّيّة وأولويّة التحرّر الثقافيّ؟ وإن كنّا نقرّ بأنّه لا يمكن حصر النضالات التحرّريّة في مثال واحد أو اثنين، غير أنّ الدارس لتاريخ هذه النضالات على تعدّدها وتنوّعها يلاحظ نوعًا من تصاعد الشخصيّة الثقافيّة للشعوب المستعمَرة، فلماذا الثقافة دون غيرها؟ وما هو وزن عالم الأفكار في العمليّة التحرّريّة؟

 

في علاقة المخاتلة والرسيس[3]

تحتلّ الثقافة مكانةً بارزةً في المعضلة الاستعماريّة، إذ يجري استهدافها في البدء من عمل أيّ آلة كولونيّاليّة، كما تعتبر في الآن ذاته عاملًا رئيسيًّا من عوامل مقاومة الهيمنة الأجنبيّة. "فقد أثار المثقّفون المستعمَرون دائمًا مسألة ثقافاتهم بوصفها مواقع للاضطهاد الكولونياليّ وأدوات حيويّة للمقاومة"[4]. إذ يذكر أميلكار كابلار (1924 -1973) أنّ يوزف غوبلز (1897 -1945)، العقل المدبِّر للدعاية النازيّة، كان يتحسّس مسدّسه كلّما سمِع مفردة ’ثقافة‘[5].

يضعنا هذا أمام مفارقة البدائل المتاحة أمام الهيمنة الأجنبيّة قبل استعمارها لأيّ شعب من الشعوب؛ فهي إمّا أن تقضي وبشكل عمليّ على الشعب بكلّيّته، فتتجنّب أيّ مقاومة مهما كان نوعها، ما يعني إبادة السكّان الأصليّين ويترتّب على ذلك إفراغ الهيمنة الأجنبيّة من مادّتها الّتي تتغذّى عليها وهي الشعب المهيمَن عليه؛ وإمّا البديل الثاني المتمثّل في أن تفرض نفسها دون إلحاق الضرر بثقافة الشعب المستعمَر وبذلك توفِّق بين الهيمنة الاقتصاديّة والسياسيّة على الشعب مع الحفاظ على شخصيّته الثقافيّة، وذلك ما لم يشهده التاريخ أبدًا. "يرتبط تأثير الكولونياليّة في الثقافة ارتباطًا وثيقًا بالعمليّات الاقتصاديّة، لكنّ العلاقة بينهما لا يمكن أن تُفْهَمْ ما لم يُفَكَّر بالعمليّات الثقافيّة بوصفها عمليّات اقتصاديّة بشكل كامل وعميق"[6]؛ فالهيمنة تَنْتُجُ عن القوّة العسكريّة والفكريّة للمهيمِن مقابل ضعف المهيمَن عليه فكريًّا وعسكريًّا أيضًا، وتشتغل الهيمنة بحسب أنطونيو غرامشي (1891 -1937)،  "عن طريق خلق أفكار متضاربة في عقل المسيطَر عليه كي يتقبّل عدم المساواة والاضطهاد كحتميّة طبيعيّة"[7].

تستند السلطة الكولونياليّة إلى الثنائيّات المتضادّة كالأنا/ الآخر، الأبيض/ الأسود، الفوقيّ/ الدونيّ، ولعلّ هذا يذكّرنا بما تطلق عليه دراسات ما بعد الاستعمار بـ ’التمثيل‘ الّذي يظهر في أنماط متعدّدة، غير أنّ ما يهمّنا هنا هو التمثيل القائم على المجال الجغرافيّ، والّذي يُحَدّدُ بالاعتماد على المنظور الغربيّ الّذي أنتج لنا الثنائيّات المتضادّة الّتي ذُكِرَت أعلاه. فهذه الـ  "’الأنا- نحن‘ تشكّل أساس التمايز بين المستعمِر والمستعمَر، أي بين الغربيّ – الأوروبيّ والآخر،  لكنّ هذه الجغرافيا التخيّليّة ليست تكوينًا مادّيًّا فقط، إنّما هي كما نستعير من هومي بابا عبارة عن ’دالول أو دواليل’ تهدف إلى تحقيق وظيفة الاختلاف، إذ كان فارغًا وأبيض إلى أن جاء المستعمِر الغربيّ وعمل على ملئه بالفعل الخطابيّ الموجّه والمنّظم والمدعوم بسلسلة كاملة من الافتراضات والأكاذيب، فهو أقرب ما يكون إلى عالم تخيّليّ من صنع أدبيّات المستعمر تهدف إلى تشويه الآخر"[8].

كلّ ما هو آخر ومختلف هو غير معترف به بالنسبة للسلطة المهيمِنة الّتي تعتمد على استراتيجيّات فكريّة وخطط محكَمة لمعرفة هذا الآخر أوّلًا ثمّ محاولة السيطرة عليه وعلى شخصّيته الثقافيّة

 فكلّ ما هو آخر ومختلف هو غير معترف به بالنسبة للسلطة المهيمِنة الّتي تعتمد على استراتيجيّات فكريّة وخطط مُحْكَمَة لمعرفة هذا الآخر أوّلًا ثمّ محاولة السيطرة عليه وعلى شخصّيته الثقافيّة ثانيًا؛ إذ يحتاج المستعمِر لحجج وبراهين يستند عليها في خطابه الاستعماريّ تُشعِر المستعمَر مع مرور الوقت أنّها حقائق وأنّ كونه مستعمَرًا  قدَر يدخل ضمن الحركة الطبيعيّة والحتميّة للتاريخ. يتمثّل هذا الخطاب في "أيّ قول أو كتابة أو معتقد يجري عبره التعرّف على العالم وفهمه، تحوي عبارات محكومة بقواعد منتجة للغة السلطة الحاملة لمعرفة خاضعة لأنا المركز"[9]، فالمهيمِن يستغلّ العلوم المختلفة كالأنثروبولوجيا مثلًا وحتّى البيولوجيا، إذ "يعتمد الاستعمار على البعد السيسيولوجيّ بالوسم البيولوجيّ أو الميتافيزيقيّ لكونه المحرّك الجوهريّ للمستعمَر"[10]، لتكريس سلطته المتخيّلة بوصفها مركزًا للآخر الّذي يسعى لصناعته هامشًا للمركز.

يستخدم الاستعمار عددًا من الميكانيزمات النفسيّة والأنثروبولوجيّة لتكريس سلطته وهيمنته، فيسعى للحطّ من قيمة المستعمَر وتجريده من إنسانيّته. يفسّر إيميه سيزار هذه الميكانيزمات من خلال نظريّته الشهيرة «التشيّؤ»، والّتي يعني بها تحويل الذوات إلى أشياء[11]، ولعلّ ميكانيزم التفوّق الحضاريّ هذا ليس حديثًا، بل له تاريخ طويل اشترك في صنعه فلاسفة ومفكّرون كبار من أبرزهم إيميل دوركهايم (1858- 1917)، الّذي لا يرى للحضارة سوى صورة واحدة هي ما شهده الغرب وفقط[12]، ما جعل ألبير ميمي (1920 -2020)، يُلصِق صفة صفة ’الاستدماريّ‘ في قوله: "هذا هو الاستدماريّ الّذي يعتقد أنّه يكمّل مهمّة يُمليها عليه كونه حاملًا لقِيم الحضارة والتاريخ"[13].

 

جغرافيا بيضاء 

أمّا في إطار جدليّة العلاقة بين العنصريّة والاستعمار، فإنّ الاستعمار – على اختلاف أشكاله -  اعتمد دائمًا على مبدأ الاستقواء وممارسة الاحتقار والعنصريّة واللا مرئيّة انطلاقًا من أسس عرقيّة، أو ما يعرف بالتمثيل العرقيّ. فإن كان التمثيل الجغرافيّ هو تحويل الأرض لصفحة بيضاء تحتاج لتعبئتِها من طرف الاستعمار عبر استيطانها، فإنّ الإشكالية العرقيّة تختلف، إذ يُعرّف المفهوم في إطار دراسات ما بعد الاستعمار بأنّه "المصطلح الّذي استُخدم بشكل متزايد منذ عام 1960 للإشارة إلى اختلافات الجنس البشريّ على مستوى الثقافة والتقاليد واللغة والأنماط الاجتماعيّة والسلالة البشرية، أو بالأحرى هو تعميمات مشوّهة تقوم على تقسيم الجنس البشريّ إلى أنماط بيولوجيّة"[14]. اللافت للنظر في هذا التعريف ارتباط المفهوم بجماعات بشريّة دون أخرى، وفي الغالب هي جماعات التابع أو الهامش الّتي يلصق الاستعمار بها صفات كالوحشيّة والمكر والشهوانيّة حتّى يتشرّب بها ذلك العقل المستعمَر وتصبح من طبيعته الّتي لا تقبل التغيير أو التحسّن. فنجد تلك الصفات في الأدب مثلًا لنشر هذه التعميمات العرقيّة، من أمثلة ذلك رواية «قلب الظلام» (1950) لجوزيف كونراد (1857 - 1924)، الذّي  يصوّر لنا حالة الرعب الّتي تنتاب البطل الأبيض في مواجهته مع الرجل الأسود في الكونغو، واصفًا تلك الحالة بلقاء مع إنسان ما قبل التاريخ غريب الأعضاء والتصرّفات.

دعّمت الآلة الكولونياليّة ممارساتها الاقتصاديّة في المستعمرات بهذا الخطاب العنصريّ؛ إذ يترافق المنهجان في سبيل تحقيق الهيمنة الاستعماريّة، إذ ترى آنيا لومبا أنّ "السلب الاقتصاديّ وإنتاج المعرفة واستراتيجيّات التمثيل تعتمد على بعضها البعض في أيّ سياق استعماريّ، وقد شكّلت طرقًا معيّنة في رؤية وتمثيل الاختلاف العرقيّ والثقافيّ والاجتماعيّ أساسيّة لبناء مؤسّسات السيطرة الاستعماريّة"[15]. ذلك بالإضافة لخلق الاستعمار نظامًا كاملًا لقمع الحياة الثقافيّة للشعب المستعمَر، كاللغة مثلًا، الّتي تعتبر الدعامة الأساسيّة لتشكيل الخطاب الاستعماريّ، إذ مارس الأخير سلطته من أجل إحلال لغته محلّ لغة الشعب المستعمَر لوعيه العميق أنّ الاستقلال والاعتزاز اللغويّ يشكّلان جزءًا مهمّا من ثقافة أيّ شعب لتأصيل هويّته، إذ "عملت الإمبراليّة على خلق اغتراب لغويّ عميق في الثقافات الّتي قُمِعَت فيها ثقافة ما قبل الاستعمار"[16]، واستخدمت في ذلك طرقًا كثيرةً من أهمّها القضاء على المدارس الّتي تعلّم باللغة المحلّيّة أو إعاقة عملها، في مقابل بناء عدد مهول من المدارس الكولونياليّة من أجل إقامة نوع من التفوّق الناتج عن مركزيّة اللغة والثقافة الكولونياليّة، إذ يروي نغوغي واثينغو معاناته مثل بقيّة أطفال المستعمرات، فيقول: "ثمّ ذهبت إلى المدرسة، وهي مدرسة كولونياليّة، فتكسّر هذا الانسجام، لم تعد لغة تعليمي لغة ثقافتي"[17].

استراتيجيّة أخرى أيضًا لجأ إليها الاستعمار وكانت تابعة لكلّ التمثيلات الّتي اطّلعنا عليها أعلاه، وهي تركيزه على ثقافة الشعوب ومحاولة خلق نوع من الطبقيّة الثقافيّة داخل المجتمع المستعمَر، وذلك عبر تطوير ما يسمّى ’الاغتراب الثقافيّ‘ من خلال دمج بعض الأفراد من السكّان الأصليّين وإعطائهم بعض الامتيازات المزعومة لخلق نوع من الفجوة الاجتماعيّة والثقافيّة بين النخب من الطبقة المثقّفة والسكّان المحلّيّين، من خلال التعليم في المدارس الكولونياليّة مثلًا، أو البعثات الطلّابيّة الّتي تجعل المثقّفين يرغبون في أن يكونوا أوروبيّين مثل المستعمَرين كنوع من الاستلاب والإدماج، وهو ما يتطوّر لاحقًا ليصبح مشكلة حتّى في فترة ما بعد الاستقلال. إذ "شرعت الصفوة الأوروبيّة تصنع صفوة من السكّان الأصليّين أخذت تصطفي فتيانًا مراهقين وترسم على جباههم بالحديد الأحمر مبادئ الثقافة الأوروبيّة، ثمّ تردّهم إلى ديارهم بعد إقامة قصيرة في العاصمة وقد تزيّفوا"[18].

لّما استطاع الاحتلال أن يخلق ثقافة شبيهة بثقافته متمكّنًا من الإلغاء التامّ لثقافة المحتلّ، كان من السهل عليه تحقيق الهيمنة. لذا كانت الخصوصيّة والفردانيّة هي جوهر الحلّ لمواجهة تلك الهيمنة...

تعمّقت الانقسامات في المجتمعات المستعمَرة كنتيجة حتميّة لهذه الطبقيّة، خاصّة في الأوساط البرجوازيّة الصغيرة والحضريّة والريفيّة، كالّتي ذكرها جان بول سارتر في مقدّمة كتاب «معذّبو الأرض» (1961) قائلًا: "إنّ العنف الاستعماريّ لا يريد إخضاع هؤلاء البشر المستعبَدين فحسب، بل يحاول أيضًا تجريدهم من إنسانيّتهم. إنّه لن يدّخر جهدًا من أجل أن يقضي على تقاليدهم، وأن يُحِلّ لغتنا محلّ لغتهم، ومن أجل أن يهدم ثقافتهم دون أن يعطيهم ثقافتنا، ومن ثمّ فإنّنا نرهقهم تعبًا"[19]، فتبدأ هذه الفئة في تمثّل عقليّة المستعمِر وتشرع في اعتبار نفسها متفوّقة ثقافيًّا على الشعب الّذي تنتمي إليه وتحتقر قيمه الثقافيّة وتتجاهلها. ذلك ما يميّز بعضًا من النخبة المثقّفة المستعمَرة؛ فتصبح جماعة مندمجة مستلَبة Assimilated ستفيد من بعض الامتيازات الاجتماعيّة، تنعكس آثارها مباشرة على سلوك أفرادها تجاه حركة التحرّر فترفض كلّ مبادرات الاستقلال والتحرّر ونجدها في أغلب الأحيان ترحِّب بسياسات الإدماج.

 

التحرّر الثقافيّ والشعور القوميّ

كلّ هذه الاستراتيجيّات وأخرى الّتي لا يسعنا المكان للإحاطة بها، كان لها شديد الأثر في الشعوب المستعمَرة، ومن أهمّ الآثار الّتي سعى الاستعمار لتحقيقها ونجح في ذلك في أغلب مستعمَراته كان ترسيخ خطاب المركز والهامش؛ إذ أنتج الاستعمار إنسانًا يحتقر هامشيّته ويحلم بتقمّص هويّة الأنا المركزيّة، ليشهد تبخّر هذا الحلم جرّاء العنصريّة واستخدام العنف من طرف المستعمَر، ليجد الإنسان المستعمَر أو الهامشيّ نفسه مضطرًّا لإعادة إحياء هويّته من جديد، فكيف يفعل ذلك؟

يقول فرانز فانون (1925 - 1961)، في كتابه «معذّبو الأرض» "إنّ الاستعمار من حيث هو نفي منظّم للآخر من حيث هو قرار صارم بإنكار كلّ صفة إنسانيّة على الآخر، يحمل الشعب المستعمَر على أن يتساءل دائمًا هذا التساؤل، مَنْ أنا في الواقع؟"[20]. لذا فإنّ علاج ذلك الاغتراب الثقافيّ الّذي أنتجه الاستعمار لا يبدو أمرًا هيّنًا أو لحظيًّا، بل شديد التعقيد ناضل من أجله كثيرون ونظّر له الكثير من المفكّرين، إذ يؤمن أولئك أنّ بداية الحل هي توسيع الفارق بين ثقافة الشعب المهيمَن عليه وثقافة المهيمِن من أجل تحقيق النصر استنادًا إلى ما يكشفه التاريخ؛ إذ كلّما استطاع الاحتلال أن يخلق ثقافة شبيهة بثقافته متمكّنًا من الإلغاء التامّ لثقافة المحتلّ، كان من السهل عليه تحقيق الهيمنة. لذا كانت الخصوصيّة والفردانيّة هي جوهر الحلّ لمواجهة تلك الهيمنة، فإحساس الدونيّة الّذي يغرسه الاستعمار في الشعوب المستعمَرة عن طريق إحلال ثقافته ولغته وتقاليده ومعتقداته محلّ الثقافة المستعمَرة يعتبر مفتاح الهيمنة، ولذلك يمكن القول إنّ الكفاح المسلّح على الرغم من أهمّيّته، فإنّه لن يأتي بنتيجة إذا لم ترافقه عمليّة بناء الوعي؛ فالكفاح ليس مجرّد نتيجة للثقافة، بل عاملًا من عوامل استرجاعها وبنائها من جديد. لذا كان لزامًا على كلّ حركات التحرّر أن تجعل من المقاومة الثقافيّة جزءًا لا يتجزّأ من نضالها. يمكن القول إنّ الهيمنة الاستعماريّة كانت بحاجة ماسّة لممارسة الاضطهاد الثقافيّ، لذلك فإنّ التحرّر القوميّ بالضرورة فعل ثقافيّ.

 


إحالات

[1] Aimé Césaire, Discourse on Colonialism, trans by Joan Pinkham, New York, Monthly review press, 2000, p32.

[2] Peter Hulme, the profit of language in J. White Recasting the world writing after colonialism, London, Johns Hopkins University Press, p120.

[3] عنوان كتاب الباحث رامي أبو شهاب الّذي يدخل ضمن دراسات ما بعد الاستعمار، والمخاتلة هي أساليب تتجاوز الخداع والاستغفال والمراوغة ينتهجها الاستعمار، أمّا الرسيس فتحيل لدلالات كثيرة من بينها العشق، وأثر الشيء كتعبير عن صفة الاستعمار وتداعياته على المستعمِر.

[4] آنيا لومبا، الكولونياليّة وما بعدها، ترجمة باسل المسالمة، دمشق، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، 2013، ص46.

[5] Amilcar Cabral, National Liberation and culture, memorial lecture for Eduardo Modliane, New York, Syracuse university, February, 20th 1970, p12.

[6] آنيا لومبا، المرجع نفسه، ص46.

[7] إدوارد سعيد، كتابة التاريخ، ترجمة أحمد خريسي وناصر أبو الهجاء، الأردن، أزمنة للنشر، 2007، ص16.

[8] رامي أبو شهاب، المخاتلة والرسيس خطاب ما بعد الكولونياليّة في النقد العربيّ المعاصر النظريّة والتطبيق، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2013، ص72.

[9] المرجع نفسه، ص13.

[10] ألبير ميمي، صورة المستعمر، ترجمة ميشال سطوف، الجزائر، منشورات Anep، 2007، ص75.

[11] Aimé Césaire, Discourse on Colonialism, trans by Joan Pinkham, New York, Monthly review press, 2000, p53.

[12] محمّد الطيبي، الجزائر عشيّة الغزو الاحتلاليّ، الجزائر، ابن النديم للنشر، 2009، ص214.

[13] ألبير ميمي، صورة المستعمر، ترجمة ميشال سطوف، الجزائر، منشورات Anep، 2007، ص79.

[14] Bill Ashcroft, Postcolonial Studies the Key Concepts, London, Rutledge, 1995, p80.

[15] آنيا لومبا، في نظريّة الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبيّة، ترجمة محمّد عبد الغني غنوم، اللاذقيّة، دار الحوار، 2007، ص104.

[16] بيل أشكروفت، الإمبراطوريّة تردّ بالكتابة، ترجمة خيري دومة، عمّان، دار أزمنة، 2005، ص34.

[17] نغوغي واثينغو، تصفية استعمار العقل، ترجمة سعدي يوسف، بيروت، مؤسّسة الأبحاث العربيّة، 1987، ص32.

[18] فرانز فانون، معذّبو الأرض، ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي، بيروت، دار الفارابي، 2004، ص2.

[19] المرجع نفسه، ص8

[20] فرانز فانون، معذّبو الأرض، المرجع نفسه، ص276.

 


 

خيرة مطاي 

 

 

أستاذة وباحثة جزائريّة، حاصلة على ماجستير في «الأدب المقارن» من «معهد الدوحة للدراسات العليا».