المنعزلات الحضريّة في رام الله... العمران بوصفه هندسة اجتماعيّة

مدينة روابي - الضفّة الغربيّة

 

"المدينة كتاب، ونحن أمام المدينة نشبه، إلى حدّ بعيد، قارئ مئة مليون قصيدة".

- فيكتور هوجو (1802 - 1885).

 

تجادل العديد من الدراسات الحضريّة، وتقرّ بدور التفاعلات اليوميّة للأفراد في صياغة شكل أماكنهم الحضريّة، في ما تركّز أخرى على دور العمران في هندسة الحياة الاجتماعيّة للأفراد. يبدو هذا السؤال أساسيًّا في الطروحات الّتي تُعنى بفهم العمران الحضريّ: أنحن من نشكّل المدينة، أم المدينة هي الّتي تشكّلنا؟

في سياق الحديث عن نمط البناء ’المخطّط مسبقًا‘، على غرار التكتّلات الحضريّة الجديدة في مدينة رام الله ومدن فلسطينيّة أخرى، فإنّ الشكل المعماريّ لهذه التكتّلات الحضريّة الجديدة، ممّا لا شكّ فيه، لم يتشكّل بفعل العلاقات اليوميّة للناس، أو بفعل تفاعلهم التاريخيّ، ذلك لأنّ الشكل المعماريّ رُسمت ملامحه قبل قدوم ساكني الحيّ أصلًا. انطلاقًا من هذا الطرح؛ من المهمّ التركيز على قراءة تأثير الشكل المعماريّ في هذه المنعزلات الحضريّة في البنية الاجتماعيّة للناس، وفي رسم علاقاتهم اليوميّة وتفاعلاتهم الاجتماعيّة والاقتصاديّة.

في سبيل فحص هذه المقولة، عمل كاتب هذا المقال على مقابلات معمّقة[1] مع سكّان كلّ من حيّ الدوحة بالقرب من بير زيت، ضاحية النجمة بالقرب من سردا، وإسكان بيت عنات أو إسكان الفنّانين كما يطلق عليه في قرية كوبر. كما اعتمد في جزء من هذه المقالة على المشاهدات العينيّة أثناء زياراته المتكرّرة للأحياء الثلاثة.

 

طرد وجذب

لم يكن مشهد البوّابة، وغرفة الحراسة، وكذا الأشجار المحيطة بالشارع المؤدّي إلى حيّ الدوحة، مشاهد تأخذنا في استعراضها إلى وظائف جماليّة فقط. يدرك زائر الحيّ هذا بعد اجتيازه لتلك البوّابة الّتي تفصل الحيّ عن أراضي بير زيت وجفنا، فيتحوّل المشهد بعدها إلى مشهد مغاير تمامًا عمّا قبل تلك البوّابة، وكأنّ زائره يتنقّل بين عالمين مختلفين تقطعهما تلك البوّابة الحديديّة. قد يشهد المارّون في محافظة رام الله هذه المنعزلات، الّتي صنّفها الكثير من السكّان المحيطين بهذه الأحياء بأنّها أحياء ’برجوازيّة‘.

ساهم الشعور الّذي يعطيه الشكل المعماريّ للأفراد المحيطين بالمكان في نشوء عمليّة ما من الإقصاء والطرد لشرائح اجتماعيّة معيّنة...

لم يكن هذا المشهد استثنائيًّا عن باقي المنعزلات الحضريّة في مدينة رام الله، فكما وضّح السكّان المحيطون بالأحياء الثلاثة المذكورة سابقًا، فإنّ شعورًا ما بالغرابة ينتابهم بمجرّد اقترابهم من محيط تلك المنعزلات. هذا الشعور - كما تبيّن من خلال المقابلات داخل تلك الأحياء الثلاثة - يمكننا فهمه من خلال مفهوم المراقبة السائلة لعالم الاجتماع البولنديّ زيجمونت باومن، مراقبة لا تهدف أساسًا إلى ضبط السكّان داخل الحيّ فقط، إنّما تتضمّن وظيفة الإقصاء  - الإبعاد خارج الأسوار - لمن لا يتّفق عليهم بكونهم أشخاصًا ’ملائمين‘ لدخول تلك المنطقة[2].

ساهم هذا الشعور، الّذي يعطيه الشكل المعماريّ للأفراد المحيطين بالمكان في نشوء عمليّة ما من الإقصاء والطرد لشرائح اجتماعيّة معيّنة، في ما جذبت شرائح اجتماعيّة أخرى. هذه ’الفلترة‘، الّتي ساهم فيها نمط البناء المعماريّ في هذه المنعزلات، خلقت تناسقًا وظيفيًّا واجتماعيًّا عند سكّان تلك المنعزلات. يتوضّح هذا جليًّا في المقابلات مع أفراد من سكّان الأحياء، ومع مسؤولين فيها؛ إذ تتشابه أغلبيّة سكّان الأحياء في وظائفهم، وكذا في اهتماماتهم، فمثلًا تتصدّر أعلى خمس وظائف لسكّان الأحياء الثلاثة، وهي طبيب، مهندس، مدرّس جامعيّ، مسؤول في السلطة الفلسطينيّة وفنّان ما يقارب 80% من سكّان الأحياء الثلاثة.

تعزو ليزا تراكي ذلك إلى الازدحام الشديد في مدينة رام الله، وإلى دور وجود المراكز التجاريّة الكبرى فيها؛ ممّا يجعل من يملكون الرأسمال المادّيّ والثقافيّ إلى الانعزال بعيدًا عن هذه المنطقة، والتوجّه إلى المنعزلات المحيطة بالمدينة مبتعدين بذلك عن ازدحام المركز[3]. تبدو هذه المقاربة مهمّة، إلّا أنّها في رأيي تتجاهل أمرًا مهمًّا، يتعلّق بأنّ تكلفة البناء في بعض هذه الأحياء لم تكن عالية؛ ففي حيّ الدوحة مثلًا، يقول لنا سعيد شناعنة رئيس جمعيّة الحيّ، إنّ تكلفة البناء كانت منذ تأسيس الحيّ متوسّطة، وأقلّ بأضعاف ممّا هي عليه في مدينة رام الله، يضيف: "ولم نجمع المبلغ الماليّ أيضًا مرّة واحدة، وإنّما كان عن طريق التقسيط". تبدو مقاربة تراكي في هذه الحالة غير قادرة على فهم الأسباب الّتي تخلق تناسقًا في الشريحة الاجتماعيّة لسكّان هذه الأحياء، فوجود رأسمال مادّيّ لا يمكنه فهم توجّه شريحة اجتماعيّة وعدم توجّه أخرى إلى مثل هذه المنعزلات. هذا قد يعيدنا إلى رصد الطرح الأساسيّ في هذه المقالة، وهو دور الشكل المعماريّ لهذه التكتّلات الحضريّة في إقصاء فئة معيّنة، وجذب أخرى.

 

صفقة اجتماعيّة غير معلنة، واتّفاق جمعيّ

إنّ نشوء حيّز يتشابه فيه الأفراد في مواقعهم وشرائحهم الاجتماعيّة، وكذا في وظائفهم، يعمل على توفير بنية اجتماعيّة متناسقة، ويخلق اتّفاقات ضمنيّة على العادات الاجتماعيّة والتصرّفات اليوميّة والمعيشيّة في داخل الحيّز، يوضّح لنا شناعنة أنّ أحد أهمّ عوامل الراحة في الحيّ هو الاتّفاق بين السكّان على أهمّ الضوابط الاجتماعيّة، يضرب شناعنة مثالًا على ذلك: "إحنا متّفقين على كلّ التفاصيل البسيطة، من مكان وقوف السيّارة لكيفيّة تنظيم المناسبات الاجتماعيّة". المثير للاهتمام في تلك المسألة أنّ هذا الاتّفاق لم يكن مكتوبًا بين سكّان الحيّ، أو حتّى لم يجرِ الحديث فيه مسبقًا، اتّفاق ربّما من الممكن أن نستخدم لوصفه مفهوم ’الضمير الجمعيّ‘ لدوركهايم، مع الإقرار باختلاف السياقات.

إنّ نشوء حيّز يتشابه فيه الأفراد في مواقعهم وشرائحهم الاجتماعيّة، وكذا في وظائفهم، يعمل على توفير بنية اجتماعيّة متناسقة، ويخلق اتّفاقات ضمنيّة على العادات الاجتماعيّة والتصرّفات اليوميّة والمعيشيّة داخل الحيّز،..

في إسكان ’يت عنات‘ أو ’إسكان الفنّانين‘ كما يُطلق عليه، تحضر أيضًا في سرديّات سكّان الحيّ إشارات إلى هذه الصفقة الاجتماعيّة غير المعلنة. يشير الدكتور عاطف، أحد سكّان الحيّ، إلى أنّ طبيعة إنشاء المكان، وشكله المعماريّ، أثّرا في رسم ضوابط اجتماعيّة بين سكّان الحيّ، إذ إنّ وجود حدائق واسعة للمنازل وحدائق أخرى عامّة في الحيّ، يخلق نوعًا من الخصوصيّة ويرسم حدودًا اجتماعيّة في العلاقات اليوميّة بين السكّان، كما أنّ فكرة الإسكان باعتباره لا يمثّل مكان السكن الرئيسيّ بالنسبة إلى معظم سكّانه، بل يمثّل مكانًا للزيارة أو بوصفه منزلًا إضافيًّا يزوره سكّان الحيّ للراحة والاستجمام، يؤثّر في رسم ضوابط اجتماعيّة متّفق عليها، فالكلّ متشابه في هدفه من شراء المنزل في هذا المكان بالتحديد؛ فمثلًا لم تكن ثمّة مشكلة، بالنسبة إلى معظم سكّان الحيّ، في الزيارات العائليّة الكبرى للأشخاص داخل الحيّ أيّام العطل الرسميّة، إذ يعمل شكل توزيع المنازل على فصل بين الخصوصيّات، وفي نفس الوقت يخلق ألفة بين السكّان؛ فالشكل المعماريّ للبيوت وتوزيعها، خلق نمطًا معيّنًا يمكّن الأفراد من الانعزال عن بعضهم بعضًا في حالات معيّنة، والتشابك في حالات أخرى، فوجود حدائق عامّة في كلّ تلك المنعزلات يوفّر مساحات جماعيّة، بينما يساهم شكل تخطيط المنازل في توفير مساحات خاصّة للأفراد.

 

الشعور بالأمان بوصفه نتاجًا معماريًّا

كما أسلفنا، ساهم الشكل المعماريّ لتلك المنعزلات في خلق نوع من التناسق الاجتماعيّ والوظيفيّ بين سكّان الحيّ؛ من خلال عمليّة الإقصاء والجذب لفئات معيّنة من المجتمع، وكذا ساهم في خلق اتّفاق جماعيّ ضمنيّ غير مكتوب، ينظّم حياة السكّان المعيشيّة.

ساهمت هذه التأثيرات للشكل المعماريّ في استحداث شعور ما بالأمن والانتماء عند أفراد هذه الأحياء. خلال إجراء المقابلات، لوحظ مثلًا أنّ سرديّات سكّان هذه الأحياء تُقرّ بالانتماء إلى هذه المنعزلات الحضريّة الاجتماعيّة، بشكل يفوق حتّى انتماءهم إلى أماكن سكناهم الأصليّة. تَبيّن هذا مثلًا بشكل جليّ في بعض المشاهدات العينيّة؛ ففي هذه الأحياء يسكن مسؤولون في السلطة الفلسطينيّة، ومع أنّ سيّارات مرافقة ترافقهم طوال الوقت، إلّا أنّ المعظم منهم يجعل السيّارات المرافقة تنسحب بمجرّد ما أوصلته إلى باب المنعزل، ويكمل وحيدًا بسيّارته. مشهد يدلّ على الكثير، إلّا أنّ أكثر ما يدلّ عليه هو أنّ ثَمّة شعورًا بالأمان يتخلّق عند هؤلاء الأفراد بمجرّد أن يجتازوا البوّابة. إضافة إلى هذه الملاحظات، فقد تبيّن أنّ منعزلَين من أصل ثلاثة ارتكزت عليها المقابلات، تخلّقت داخلهما علاقات نسب بين سكّان هذين التجمّعين، مع أنّ الفترة الّتي جمعتهم ليست فترة طويلة، تشير علاقات النسب في العادة إلى ترابط اجتماعيّ عالٍ، وإلى شعور بملاءمة هؤلاء الأفراد كأفراد محتملين بأن يكونوا جزءًا من العائلة.

تشير كلّ تلك المشاهد والمقابلات إلى خلاصة مفادها أنّ هناك دورًا معيّنًا للشكل المعماريّ في التأثير في البنية الاجتماعيّة للأفراد في هذه المنعزلات الاجتماعيّة، خاصّة بما أنّ هذا النمط من البناء هو نمط ’مخطَّط مسبقًا‘؛ وبالتالي فإنّ العمارة تسبق البنية الاجتماعيّة، وتؤثّر فيها وتُشكّلها. بالمختصر؛ فإنّ الشكل المعماريّ لهذه المنعزلات يعمل على طرد فئة اجتماعيّة معيّنة، وجذب فئة أخرى؛ ممّا يساهم في وجود تناسق اجتماعيّ ووظيفيّ بين سكّان هذه المنعزلات. هذا التناسق يعمل على خلق اتّفاق ضمنيّ بين السكّان؛ ممّا يعمل على إعطائهم شعورًا بالأمان والانتماء، وهذا ما يطرق عتبة أساسيّة في محاولة الإجابة عن السؤال الرئيسيّ لهذه المقالة، وهو: كيف يؤثّر الشكل المعماريّ في هذه المنعزلات المعماريّة ’المخطّطة مسبقًا‘، في رسم حدود العلاقات بين سكّانها، وفي تشكيل بنيتها الاجتماعيّة؟

 


إحالات

[1] عمل كاتب المقال على إجراء ما يقارب 24 مقابلة معمّقة في الأحياء الثلاثة، في ظلّ عمل بحثيّ آخر يعمل عليه.

[2] باومان، زيجمونت. 2017. المراقبة السائلة. (بيروت: الشبكة العربيّة للأبحاث والنشر). ص 79.

[3] ليزا تراكي. (2010). رام الله - البيرة: مجتمعات وهويّات. في كتاب أمكنة صغيرة قضايا كبيرة. بيروت. مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة. ص 36.

 


 

نور الدين أعرج

 

 

 

خرّيج علم اجتماع في «جامعة بير زيت»، وطالب ماجستير في «برنامج الدراسات الإسرائيليّة» في الجامعة نفسها.