بين فانون وبن نبي... ما قبل الاستعمار وما بعده

فرانز فانون (1925 - 1961) ومالك ابن نبي (1905 - 1973)

 

خضع اسم فرانز فانون (1925 - 1961) لتصنيفات لا تُحصى، فرأى فيه البعض فيلسوف أفريقيا، في ما وصفه آخرون بـ ’نبيّ العنف‘، في حين فضّل البعض أن يُسمّوه الاشتراكيّ المعتنق لمذهب ’الزنوجة‘. الأمر ذاته تكرّر مع فكره الّذي أُنجزت حوله عديد الدراسات والقراءات، تناولت معظمها فكرة العنف، ولعلّ ذلك يعود إلى نجاحه في المزج بين التنظير والنضال ضدّ الاستعمار؛ فكان بمثابة همزة وصل ثقافيّة بين ضفّتي المتوسّط. إذ كانت المحطّة الّتي انطلق منها فرنسا، في حين أنّ المنطقة الّتي مارس فيها نضاله الجزائر. غير أنّ ما يشغلنا في هذه الورقة هو ارتباطه بتفكيك الكولونياليّة ومناهضة الاستعمار، حيث تُقِرّ موسوعة «دراسات ما بعد الكولونياليّة» أنّ المفهوم بدأ فعليًّا مع فرانز فانون وكتابه «معذّبو الأرض» (1961)، ولا سيّما مقالته «في الثقافة الوطنيّة» الّتي يتتبّع فيها أبعاد الاستعمار النفسيّة[1]، إذ يشكّل نقده للتقابل ما بين المستعمِر والمستعمَر لحظة مؤسِّسة للشروع في بناء فكر ما بعد كولونياليّ، حيث لا تعني ’الما بعد‘ هنا بعديّة زمنيّة على الاستعمار، ولكنّها تعني جهدًا مستميتًا لتصفية الاستعمار[2].

"ترتبط قضيّة تفكيك الاستعمار بالآثار الّتي يخلّفها الاستعمار في اللغة والآداب والثقافة والاقتصاد والنظم السياسيّة، وهو ما يستدعي آليّات للمقاومة"[3]؛ فعمليّة التفكيك الثقافيّ واللغويّ تمرّ عبر استعارة ما جاء به الخطاب الكولونياليّ من عنف وإستراتيجيّات قائمة على العنصريّة والفوقيّة والتمثيل العرقيّ، ومن ثَمّ نقضها. أمّا الجزء الأهمّ فهو استعادة ذلك الأصل؛ أي ذلك الفضاء الثقافيّ الّذي كان موجودًا قبل دخول الاستعمار، وهو بذلك؛ أي فانون، يُعتبر مفتاحًا للحالة الانتقاليّة الّتي يعيشها المستعمَر من رغبته المشوّهة في أن يصبح شبيهًا للمستعمِر إلى اعترافه الحقيقيّ بأصله وهويّته، فكيف يرى فانون محطّات هذا الانتقال؟

 

التباس في الهويّة

من الأسرار الّتي تقف وراء استدامة إرث فانون الفكريّ حتّى يومنا هذا، أنّه صاغ عددًا كبيرًا من الأسئلة الجوهريّة؛ فبقدر ما ضمّن كتبه بعض الإجابات والحلول الّتي من شأنها مساعدة الإنسان المستعمَر على الوعي بحقيقته وأصله، بقدر ما طرح إشكاليّات مهمّة جدًّا، كسؤاله: "هل أنا موجود؟"، "في الحقيقة من أنا؟"[4]. مثل هذه الأسئلة الهويّاتيّة المتكرّرة في كتاباته تطرح قضايا وجوديّة ومعرفيّة في نفس الوقت، فقد كان فانون رافضًا للفكرة الّتي روّجها الاستعمار، الّتي تقول إنّ الفرد غير قادر على إنشاء ذاته من جديد، وأنّ قدَره في الحياة ألّا يتغيّر. يعيد هذا الطرح إلى مفهوم الجوهرانيّة Essentialism، الّذي يقصد به "إسناد خصائص معيّنة لجماعة بعينها، بطرق تجعل هذه الخصائص طبيعيّة غير قابلة للتغيير أو التطوّر، ولا يمكن التشكيك فيها أو تعديلها ومعاملة أفرادها على هذا الأساس"[5]، ما يعني إلصاق صفات ثابتة متجذّرة وموحّدة ومتجانسة بأفراد جماعة معيّنة، واختزال هويّتها وحضارتها في صفات متخيَّلة. فيقول فانون في هذا الشأن مثلًا: "إنّ ما يُطلق عليه في كثير من الأحيان اسم الروح السوداء هي في حقيقة الأمر من صنع الإنسان الأبيض"[6].

عمليّة التفكيك الثقافيّ واللغويّ تمرّ عبر استعارة ما جاء به الخطاب الكولونياليّ من عنف وإستراتيجيّات قائمة على العنصريّة والفوقيّة والتمثيل العرقيّ، ومن ثَمّ نقضها...

في كلام فانون هذا إثبات لذلك الانقسام الهويّاتيّ الّذي يعيشه الإنسان المستعمَر، وهو ما يتناوله أيضًا هومي بابا بكثير من التفصيل، حين يتطرّق لما يسمّيه بشروط فهم سيرورة تعيين الهويّة الّتي يمكن تلخيصها في ثلاث جمل أساسيّة، أوّلها العلاقة بالآخر من خلال نظرات المستعمِر للمستعمَر: "ما من محلّيّ إلّا يحلم مرّة في اليوم على الأقلّ بأن يحلّ مكان المستوطن"[7]، ومن ثمّ، ثانيًا، يتغيّر مكان تعيين الهويّة من الآخر للذات، أين تتموضع تلك البينيّة وذلك الاختلاف بينهما، الّتي تولّد اضطرابًا لكليهما، وخاصّة للمستعمَر، وثالثًا أن تصبح مسألة تعيين الهويّة بمنزلة إنتاج صورة للهويّة وتغيير للذات[8]. كلّ هذه الشروط يتخلّلها الكثير من الضياع الّذي يعيشه الإنسان المستعمَر من أجل العثور على هويّة تحتويه ويحتويها في نفس الوقت، وهو ما شغل فانون دائمًا، بل اعتبره الشرط الأوّل لأيّ تحرّر.

في تركيزه على الهويّة والوعي بها وبممارساتها، يمكن اعتبار فانون نفسه نتاج واقعه المعاش، خاصّة بعد مجيئه إلى الجزائر؛ أي تعرّفه عن قرب على الممارسات الاستعماريّة الّتي تهدف إلى تحقير دونيّة المستعمَر وإثباتها من خلال ترسيخ بعض الحقائق المتخيَّلة، وفي هذا الصدد يقول إدوارد سعيد: "من المؤكّد أنّ فانون يعتمد هنا على لغة الاستعمار الفرنسيّ السابقة عليه، الّتي استخدم فيها مروّجون شعبيّون مثل جول هارمون ولوروا بوليو الصور الحياتيّة البيولوجيّة للولادة والمخاض وعلم تناسل الأنساب، لوصف علاقات فرنسا الأبويّة بأطفالها المستعمَرين، وفانون يعكس الأمور، مستخدمًا تلك اللغة؛ لولادة أمّة جديدة ولغة الموت لدولة الاستيطان الاستعماريّة"[9].

 

الوعي القوميّ الموازي للكفاح المسلّح

أمّا عنف فانون الّذي اعتُبر أساس فكره، رغم قصور كثير من الدراسات في فهم تصوّره ونظرته إلى العنف؛ إذ إنّ عنف فانون لم يكن مجرّد دعوة إلى ممارسات عاطفيّة وتمرّد غير محسوب، بل اعتَقد أنّ الأمر يقتضي بأن يأتي النجاح العسكريّ ثانيًا عقب معركة الأفكار، فيُصرّ فانون على أنّ "إخضاع العسكريّ للسياسيّ هو أساس إقامة علاقات بالشعب"[10]، وقد دعا المثقّفين الجزائريّين للتفرّغ للعمل الفكريّ بالموازاة مع العمل المسلّح، وهو ما أطلق عليه بعض المنظّرين عنفًا واعيًا، من بينهم سعيد الّذي يقول في هذا الصدد: "ينبغي أن يرتقي العنف بالصراع إلى مستوًى جديد من التنازع إلى تركيبة تتمثّل في حرب للتحرير، تتطلّب ثقافة ما بعد قوميّة نظريّة جديدة جدّة كلّيّة"[11].

بعد أن يبلغ الاستعمار ذروته ويتمادى في اضطهاده، يجد المستعمَر نفسه أمام ردّ فعل طبيعيّ لا بدّ منه، وهو العنف المضادّ الّذي يُعَدّ رسالة قويّة منه تفضي في الأخير إلى تصفية الاستعمار، وتحرير نفسه من الدونيّة، والتخلّص من كلّ الأمراض النفسيّة الّتي قضى الاستعمار عقودًا لتأصيلها فيه: "العنف يأتي أُكله؛ فقد وحّد بين الأفراد وآخى بينهم على الصعيد القوميّ، وقضى على الإقليميّة والقبليّة، وطهّرهم من السموم؛ أي من مركّب النقص والدونيّة، ورفع الشعب إلى مستوى القائد؛ أي لا أفضليّة لأحد على آخر، وأصبحت الدول تستقلّ الواحدة تلو الأخرى"[12].

كما رأى فانون في العنف الواعي، الّذي تبنّاه ودافع عنه بشدّة، المخلِّص الّذي لن يرتقي بالمستعمَر فقط بل حتّى الاستعمار نفسه، حين يقول: "العنف هو الباب الوحيد الّذي يستدرك منه المستعمَر إنسانيّته المفقودة المهانة، المذلّة، وما إن يقف الرجل المستعمَر موقفًا من رجل الاحتلال، ويهبّ مزمجرًا في وجهه، يدرك أنّه يفوقه إنسانيّة"[13]. كما يركّز فانون في طرحه على العنصر الجمعيّ أو القوميّ في ممارسة العنف ضدّ الاستعمار، ويحذّر من التمرّد الفرديّ: "العنف الّذي يمارسه الشعب؛ العنف الّذي ينظّمه ويغرسه قادته، هو الّذي يمكّن الجماهير من فهم الحقائق الاجتماعيّة، ويزوّدها بمفتاح هذه الحقائق"[14].

عنف فانون لم يكن مجرّد دعوة إلى ممارسات عاطفيّة وتمرّد غير محسوب، بل اعتَقد أنّ الأمر يقتضي بأن يأتي النجاح العسكريّ ثانيًا عقب معركة الأفكار...

فالعنف الحقيقيّ ليس عنف السلاح بل صوت الجماهير القويّ، عكس ما يذهب إليه آنجلز الّذي يعتبر أنّ انتصار العنف يعتمد على إنتاج الأسلحة، وبالتالي على القوّة الاقتصاديّة، فهذا مجرّد رأي طفوليّ بالنسبة إلى فانون[15]، ويبدو فانون هنا محقًّا؛ فإذا أخذنا مثالًا حرب التحرير الجزائريّة؛ فما الّذي كانت الجماهير الجزائريّة تملكه من قوّة اقتصاديّة وعسكريّة بالمقارنة بقوّة عظمى كفرنسا في ذلك الوقت؟ رغم ذلك نجحت في تحقيق الحرّيّة، ويعلّق إيميه سيزار على عنف فانون بقوله: "إنّ عنفه بدون مفارقة، هو عنف رجل غير عنيف، وأقصد بذلك أنّه عنف العدالة وتطهير النفس والعناد"[16]. ولعلّ تركيز فانون في كتاباته، وخاصّة في عُصارة أعماله «معذّبو الأرض»، على طبقة الفلّاحين الثوّار هو خير دليل على قول سيزار هذا، ويبدو أنّ حديث فانون وتشديده على هذا العنف، ومن هذه الطبقة بعينها، يعود إلى خوفه من الاستقلال الصوريّ الّذي رضيت به بعض الدول الأفريقيّة آنذاك، فاتحة بذلك مجالها للبرجوازيّة الوطنيّة الّتي يراها فانون أملًا جديدًا للاستعمار حتّى بعد خروجه؛ أي تحدّث عن مشاكل الثقافة الوطنيّة الّتي كان يخشى أن تنزلق هي الأخرى وراء الثقافات الدخيلة المشوّهة وتفقد جوهرها[17]، فهو إذ يريد الوصول إلى أثر مهمّ من آثار الثورة، وهو بروز ما يُعرف بالبرجوازيّة الوطنيّة إلى السطح، فأين يتجلّى خوفه وتوجّسه منها؟

 

البرجوازيّة الوطنيّة... مدخل الاستعمار

تبدأ حكاية البرجوازيّة الوطنيّة من نرجسيّتها الّتي تُخوِّل لها أن تأخذ بزمام الحكم بعد الاستقلال لاعتبارات عدّة، منها التعليم في المدارس الكولونياليّة مثلًا، أو استحواذها على الأراضي والممتلكات غداة خروج الاستعمار. يصف فانون البرجوازيّة الوطنيّة بعدد من الصفات، منها ضعف المعرفة الاقتصاديّة الّتي ينتج عنها حياة مترفة لهذ الطبقة والفقر المدقع لعامّة الشعب؛ إذ تعجز عن النهوض باقتصاد الدولة أو الارتقاء بها، فينتشر الفساد الأخلاقيّ بدلًا من ذلك، ويحلّ هؤلاء مكان المستعمِر في أراضي الشعب، فبدلًا من تحريك عجلة الزراعة، مثلًا، نجدهم يطالبون بالامتيازات والتفرقة الطبقيّة "فلا نجد فرقًا بين مستوطن ومواطن وطنيّ"[18]. كلّ هذا يقودنا إلى ما حذّر منه فانون؛ أي التشبّه بتلك الشخصيّة الكولونياليّة والرغبة في تقمّصها كنوع من التبعيّة لذلك المستعمِر، حتّى بعد خروجه؛ فالاستقلال الحقيقيّ، إذن، هو الاستقلال الفكريّ والنفسيّ من كلّ ما له صلة بالأداة الكولونياليّة.

لا تتوقّف تبعات هذه البرجوازيّة عند هذا، بل سيكون لها عميق الأثر في الشعور القوميّ الّذي ولّده ذلك العنف وتلك المعاناة المشتركة، فوُلد حلم الوحدة الأفريقيّة وحلم الوحدة الأفروآسيويّة كما سنشاهد عند مالك بن نبي لاحقًا؛ لتحلّ محلّها العصبيّة الإقليميّة "فهذه البرجوازيّة بكسلها وتقليدها الأعمى، تشجّع وتعزّز غرس التعصّب العرقيّ المميّز لعهد الاستعمار"[19].

دستوريًّا أيضًا، تختار هذه البرجوازيّة نظام الحزب الواحد شكلًا من أشكال الدكتاتوريّة، وتختار زعيمًا له من القبول عند الشعب ما يؤهّله لذلك، وبهذا الفشل الاقتصاديّ والتبعيّة السياسيّة يعود الاستعمار من جديد، كأنّه خرج من الباب ليعود من النافذة بمعيّة هذه البرجوازيّة. فانون، إذن، يرى في سلوكها سلوك عصابات من اللصوص: "فالبرجوازيّة ليست بالمال لكن بالفكر، فصفة البرجوازيّة لا تُمنح بقوّة الاقتصاد أو نشاط الأفراد، لكنّها ثمرة فكر وقاعدة أفكار"[20]. أمّا الحلّ الّذي يطمح إليه فانون فهو وجود حزب حقيقيّ يمثّل ذلك الشعب، مع العمل على لا مركزيّة الإدارة، وتغطية كلّ الطبقات والمناطق، عن طريق خلق قيادات محلّيّة والتكفّل بالجهد الشعبيّ: "الأمّة أحوج ألف مرّة إلى مهندس منها إلى الضابط"[21].

 

مالك بن نبي... القابليّة للاستعمار

في الفترة الزمنيّة نفسها تقريبًا كان ثمّة مفكّر آخر يكتب آراءه حول الاستعمار، وقد تلوّنت بحياته كأحد أبناء هذه المستعمرات الّتي عاشت صراع الهويّة وجحيم الاحتلال، هو الجزائريّ مالك ابن نبي (1905 - 1973) الّذي خضع هو الآخر لتصنيفات عديدة، فرأى فيه البعض فيلسوفًا للحضارة والبعض الآخر نبيًّا للأفكار. لعلّ أهمّ النظريّات الّتي جاء هي المتعلّقة بمركّب ’القابليّة للاستعمار‘، الّذي طرحه ابن نبي في كتابه «شروط النهضة» (1948)، ويشير إلى "جملة الأوضاع والشروط الفكريّة والنفسيّة والاجتماعيّة والسياسيّة السلبيّة، الّتي تضع المجتمع في حالة من الضعف والقصور والعجز إزاء التحدّيات المحيطة به، فيجد نفسه في حالة وهن حضاريّ يُفقده القدرة على ردّ التحدّيات، ويخضع لها مُكرهًا"[22].

ابن نبي لم يرَ الاستعمار قدرًا محتومًا، بل اعتبره ظاهرة عرَضيّة لمرض باطنيّ ذاتيّ هو القابليّة للاستعمار، ممّا يحتّم علينا الوقوف على مفهوم الذات...

اعتُبر هذا المفهوم صدمة آنذاك؛ فقد جاء في وقت كانت كلّ التنظيرات تُجْمِعُ على أنّ الاستعمار هو السبب الرئيسيّ والوحيد لذلك الوهن الحضاريّ الّذي عرفته الشعوب في تلك الفترة، غير أنّ ابن نبي لم يرَ الاستعمار قدرًا محتومًا، بل اعتبره ظاهرة عرَضيّة لمرض باطنيّ ذاتيّ هو القابليّة للاستعمار، ممّا يحتّم علينا الوقوف على مفهوم الذات الّتي يرى البعض أنّها "الفكرة الّتي يكوّنها الفرد عن نفسه في ما يتضمّن من جوانب جسميّة واجتماعيّة وأخلاقيّة وانفعاليّة، يكوّنها الفرد عن نفسه من خلال علاقته بالآخرين وتفاعله معهم"[23].

تمثّل القابليّة للاستعمار موقفًا نفسيًّا يتّخذه الإنسان تجاه قضايا وطنه وأمّته، يتعلّق بضعف الشعور بالولاء لهذا الوطن، إذ يمنعه هذا من الإبداع والعمل لصالح وطنه، وبدلًا من ذلك تنتشر الفوضى واللا نظام، كلّ هذا يدفع المستعمَر من موقع دونيّته للتقليد، وتمثّل ما يفعله الغرب. يعود ابن نبي بالمفهوم إلى عصر ’إنسان ما بعد الموحّدين‘ حيث تعود جذور الإشكاليّة؛ عندما تخلّى الإنسان المستعمَر - قبل استعماره - عن الريادة الحضاريّة الّتي كان يملكها، فانتقلت إلى غيره، غير أنّه لم يتفطّن لأزمته هذه إلّا بدخول الاستعمار الّذي يُعَدّ عرَضًا أكثر من كونه مرضًا حسب فلسفة ابن نبي: "هذا المخلوق لا يدرك قابليّته للاستعمار إلّا إذا استُعْمِر، عندئذ يجد نفسه مضطرًّا إلى أن يتحرّر من صفات أبناء المستعمرات، بأن يصبح غير قابل للاستعمار"[24]، فالاستعمار لولا وجود تلك الأرضيّة الصلبة المناسبة لما استطاع الدخول، فقد استغلّ ذلك الصراع الفكريّ الّذي كانت المجتمعات تتخبّط فيه.

 

القابليّة للاستعمار

أمّا عن مظاهر هذه القابليّة، فأوّلها بحسب ابن نبي قبول كلّ ما جاء به الاستعمار من أحكام وسياسات، فيقول: "نرى أوّلًا أنّ الرجل يقبل وصفه بـ الأهليّ، أو’الأنديجان Les Indigènes‘ يوم كان قابلًا لكلّ ما ترمي إليه المقاصد الاستعماريّة؛ من تقليل قيمته من كلّ ناحية حتّى من ناحية اسمه... فقد شاهدنا مرارًا مثقّفين جزائريّين يطلقون على أنفسهم الأهالي، ومعنى هذا أنّنا قد أخذنا أنفسنا بالمقياس الّذي تقيسنا به إدارة الشؤون الاستعماريّة"[25]. قبول هذا الاسم يعكس حسب ابن نبي القبول بالوضعيّة الّتي فرضها الاستعمار، ولا يستقرّ القبول في الوعي فحسب، بل يتسرّب إلى اللا وعي وينغرس في أعماقه، ليصبح بمنزلة استبطان للمفهوم الاستعماريّ عن الذات؛ إذ يُنْقِص من قدرها ويحصر تصوّراتها عن نفسها في الحدود الّتي رسمها الاستعمار.

إنّ تفحّص المفهوم يكشف عن أنّ صفة القابليّة لا تشير إلى التخلّف الاقتصاديّ والسياسيّ فحسب، بل كذلك إلى أعماق النفس والفكر؛ فيصبح كلّ ما هو أصليّ غير مرغوب فيه، وكلّ ما هو غربيّ مغريًا ومتقدّمًا. فيبدأ المواطنون بالمطالبة بالحقوق بدل أداء الواجبات، فتتخلّف المصالح وتتعطّل، آنذاك يجد الاستعمار فرصته لاحتلال تلك الأرض مستغلًّا ضعف شعبها وأوهامه بتفوّق ذلك الغربيّ عليه.

يمكن القول إنّ مركّب القابليّة للاستعمار مفهوم سوسيولوجيّ، عالجه ابن نبي من ناحية سيكولوجيّة وتاريخيّة وفلسفيّة، أراد من خلال ربطه بالذات أن يلقي الضوء على تلك النظرة السلبيّة الّتي تميّز الإنسان المستعمَر لنفسه ووطنه وأرضه ومقوّمات هويّته، في مقابل النظرة الإيجابيّة للذات الأخرى أو ذات الآخر. إذ يؤمن ابن نبي "أنّ الاستعمار لا يتصرّف في طاقتنا الاجتماعيّة إلّا لأنّه درس أوضاعنا النفسيّة دراسة عميقة، وأدرك منها مواطن الضعف فسخّرنا كما يريد، كصواريخ موجّهة، إنّه يسخّرنا وأغراضنا لأغراضه"[26]. فتنطلق نظريّته من عاملين رئيسيّين؛ أوّلهما الاستعمار عاملًا خارجيًّا يفرض على ذلك ’الأهليّ‘ نمط حياة وفكرًا معيّنًا، أمّا الثاني فهو القابليّة للاستعمار عاملًا داخليًّا يستجيب لذلك العامل الخارجيّ المتمثّل في الاستعمار، ممّا يُعقّد عمليّة التخلّص منه، بل قد يجعلها مستحيلة.

في هذا الإطار يؤكّد ابن نبي أنّ مشكلة المستعمرات هي مشكلة أفكار بالدرجة الأولى: "فإذا ما تساءلنا بأيّ شيء أنهض الإنسان الألمانيّ وضعيّة بلاده، نكون ملزمين بالجواب وهو أنّ أفكاره هي الّتي أتاحت له هذا النهوض"[27]. عليه؛ فإنّ ثمّة ترابطًا قويًّا وصلة عميقة بين مركّب القابليّة للاستعمار وقيمة الأفكار في فلسفة ابن نبي، وفي ردّه على من انتقده بتحميل الشعوب بعضًا من مسؤوليّة الاستعمار. يقول ابن نبي: "نحن جاهلون، وهذا واقع من أثر الاستعمار، ولكن ماذا تفعل الدوائر المثقّفة في بلادنا؟"[28] إذ يرى ابن نبي أنّ على المثقّفين تولّي مهامّهم التاريخيّة بنشر الوعي أو ما يسمّيه بـ’الفاعليّة‘، وتعني "امتلاك القدرة الفكريّة والمنهجيّة والتنفيذيّة المتجدّدة للتأثير الإيجابيّ المطرد في عالم الأفكار وعالم الأشخاص والأشياء، وهي بذلك فكر وتربية وسلوك وجوّ ثقافيّ واجتماعيّ"[29].

صفة القابليّة للاستعمار لا تشير إلى التخلّف الاقتصاديّ والسياسيّ فحسب، بل كذلك إلى أعماق النفس والفكر؛ فيصبح كلّ ما هو أصليّ غير مرغوب فيه، وكلّ ما هو غربيّ مغريًا ومتقدّمًا...

أمّا العوامل الّتي تساعد على خلق هذه الفاعليّة، الّتي من شأنها النهوض بالشعوب المستعمَرة قبل التحرّر وبعده، حسب ابن نبي، هي تأكيد دور فكرة الدين مقوّمًا من مقوّمات الهويّة الوطنيّة، وتصفية الأفكار الميّتة والمميتة، والإبقاء على الأصيلة منها؛ أي الّتي تمتّ بصلة لهويّة المجتمع، وتنطلق من مشاكله واحتياجاته، إضافة إلى تصفية مركّب القابليّة للاستعمار، من خلال معرفة الإستراتيجيّات الّتي يتّبعها الاستعمار للتحقير من الشعوب المستعمَرة، وإحساسها بالدونيّة والنقص؛ إذ "يجب علينا أن نفكّر كيف يجب أن نعطي لأفكارنا أقصى ما يمكن من الفعاليّة، ومن ناحية أخرى، أن نعرف الوسائل الّتي يستخدمها الاستعمار لينقص ما يمكن من فاعليّة أفكارنا"[30]، ويكون ذلك حسبه أيضًا، بتأكيد دور النخبة المثقّفة والعلماء، بعيدًا عن التشدّد والتطرّف، فهو يحمّل المفكّرين مسؤوليّة ما يحدث للشعوب المستعمَرة؛ لأنّهم لا يستغلّون وعيهم وعلمهم من أجل الإصلاح ونشر الوعي.

 

خاتمة

في النهاية، يمكن القول إنّ الحديث عن رجلين مثل مالك بن نبي وفرانز فانون ليس بالأمر الهيّن، خاصّة في ما تعلّق بفلسفتهما حول الاستعمار، وعالم الأفكار التحرّريّة الّذي نظّرا له بإسهاب، وحاولا من خلال كتاباتهما أن يشرحا عمل الآلة الكولونياليّة، ليس في المجال العسكريّ والحربيّ هذه المرّة، بل في ما هو أخطر وأهمّ؛ المجال الثقافيّ والهويّاتيّ.

 من خلال قراءتنا المتواضعة لهذه الأفكار، يمكن القول في ما تعلّق بما اختلفا فيه، وما اتّفقا عليه، إنّ فرانز فانون انطلق فرانز فانون في نظريّته في تفكيك الخطاب الاستعماريّ من جدليّة الأبيض والأسود، الّتي شكّلت تاريخه والعقدة الّتي دفعته إلى دراسة هذا الاستعمار الأبيض؛ ففانون الأنتيليّ كان ظاهرًا في كلّ دراساته، إذ تعمّق في دراسة الإستراتيجيّات النفسيّة والفكريّة الّتي اعتمد عليها الاستعمار في فرض سلطته على المستعمرات.

 أمّا ابن نبي فهو الآخر انطلق من النقطة الّتي شكّلت طفولته، وحتّى فترة دراسته في الجزائر وحتّى فرنسا، وهي عقدة ’الأنديجان‘ أو ’الأهليّ‘، الّتي دفعته إلى البحث في هذا المركّب الّذي غرسه الاستعمار في نفوس المستعمَرين، وإحساسهم بالنقص والدونيّة فقط لأنّهم الأهالي؛ ليغوص في عالم الحضارة والجذور التاريخيّة للتخلّف الّذي صاحب العالم العربيّ والإسلاميّ بشكل أساسيّ؛ لينشئ ثنائيّة الغرب والحضارة الإسلاميّة، على حين توجّه فانون لثنائيّة أخرى هي ما تعلّق بالأنا المستعمِر والآخر المستعمَر، وما صاحبها من تماهٍ واستلاب واغتراب، وصولًا إلى ذلك العنف الواعي الّذي حرّر ذلك المستعمَر من كلّ براثن ذلك الاستعمار.

وإن اتّفق ابن نبي مع مسألة الوعي في أوّليّتها على الكفاح التحرّريّ، إلّا أنّه لم يدعُ إليه علنًا كما فعل فانون، بل اكتفى بالتنظير لهذه المرحلة، والتركيز على النهضة الحضاريّة، الّتي لا بدّ من أن تصاحب أيّ كفاح مسلّح مهما كان نوعه وشكله. لعلّ ما ميّز كليهما في هذا الصدد هو تركيزهما على خارطة ما بعد التحرّر، الّتي اعترف كلاهما بصعوبتها، وحمّلا المفكّرين والطبقة المثقّفة مسؤوليّة فشلها أو نجاحها؛ لأنّهما - وعلى اختلاف خلفيّاتهما، فبين الماركسيّ اليساريّ وصاحب التوجّه الإسلاميّ اختلاف عظيم - أدركا أهمّيّة الثقافة وعالم الأفكار، في أيّة عمليّة تحرّريّة.

 


إحالات

[1] John C. Hawley, Encyclopedia of postcolonial studies, p131.

[2] Anne Mclintock, The Angel of Proress Pitfalls of The Term Postcolonialism, social text, printemps, 1992, p15.

[3]  رامي أبو شهاب، المخاتلة والرسيس خطاب ما بعد الكولونياليّة في النقد العربيّ المعاصر النظريّة والتطبيق، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2013، ص107.

 [4] فرانز فانون، معذّبو الأرض، ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي (بيروت، دار الفارابي، 2004) ص250.  

[5] Anne Phillips, What’s Wrong With Essentialism, Distinktion, Scandinavian Journal of Social Theory, 2010, p1-2.

[6] Frantz Fanon, Black Skin White Masks, London, Pluto, 1986, p16

[7] Frantz Fanon, Concerning Violence, in his Wretched of The Earth, Harmondsworth, Penguin, 1969, p30.

[8] هومي بابا، موقع الثقافة، ترجمة ثائر ديب، (الدار البيضاء: المركز الثقافيّ العربيّ، 2006)، ص103-104.

[9] إدوارد سعيد، كتابة التاريخ، ترجمة أحمد خريسي وناصر أبو الهجاء (الأردن: أزمنة للنشر، 2007) ص16.، ص227.

[10] نايجل سي غبسون، فانون المخيّلة بعد الكولونياليّة، ترجمة خالد أبو هديب (بيروت: المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، 2013) ص213.

[11] إدوارد سعيد، الثقافة والإمبرياليّة، ترجمة كمال أبو ديب (بيروت: دار الآداب، 2004) ص324.

[12] فرانز فانون، معذّبو الأرض، ص54-111.

[13] فرانز فانون، سوسيولوجيا ثورة، ترجمة ذوقان قرقوط (بيروت: دار الطليعة، 1970) ص 8.

[14] فرانز فانون، معذّبو الأرض، ص 42.

[15] جاك ووديس، نظريّات حديثة حول الثورة، ترجمة محمّد مستجير مصطفى (بيروت: دار الفارابي، 1978) ص 9.

[16] دافيد كوت، فرانز فانون، ترجمة عدنان الكيالي (بيروت: المؤسّسة العربيّة للنشر، 1971) ص 142.

[17] فرانز فانون، معذّبو الأرض، ص 115.

[18] مرجع سابق، ص 128.

[19] مرجع سابق، ص 131-135.

[20] مرجع سابق، ص 146.

[21] مرجع سابق ص 156-172.

[22] الطيّب برغوث، حركة تجديد الأمّة على خطّ الفعاليّة الاجتماعيّة (الجزائر: دار قرطبة، 2004) ص 35.

[23] راوية الدسوقي، التوافق النفسيّ ومفهوم الذات، مجلّة علم النفس، المجلّد 10-11، العدد 40-41، 1996، ص 18-32.

[24] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلاميّ (دمشق: دار الفكر، 1986) ص 92.

[25] مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة عبد الصبور شاهين (دمشق: دار الفكر، 1987) ص 153.

[26] مرجع سابق، ص159.

[27] مالك بن نبي، فكرة كمنولث إسلاميّ، ترجمة الطيب شريف (الجزائر: دار الفكر، 1990) ص 52-53.

[28]  مرجع سابق، ص 89.

[29] الطيّب برغوت، حركة تجديد الأمّة على خطّ الفعاليّة الاجتماعيّة، ص 9.

[30] مالك بن نبي، الصراع الفكريّ في البلاد المستعمرة، (بيروت: دار الفكر المعاصر، 1988) ص 19.

 


 

خيّرة مطاي

 

 

 

أستاذة وباحثة جزائريّة، حاصلة على ماجستير في «الأدب المقارن» من «معهد الدوحة للدراسات العليا».