تهميش الكتابة السوداء وتمييع العنصريّة

بيل هوكس (1952 - 2021)

 

في عام 1903 صدر كتاب «روح الشعب الأسود The Soul of Black Folk» باللغة الإنجليزيّة، لعالم الاجتماع الأفريقيّ الأمريكيّ وليم إدوارد بوجهارت ديبويز W.E.B. Du Bois"[1]، ويُعَدّ هذا الكتاب عمودًا رئيسيًّا في هذا النصّ. لقد كان ديبويز من أوائل علماء الاجتماع ممّن كتبوا عن العبوديّة والعنصريّة، ونقد صكّ الحرّيّة، ومعنى ’حرّيّة الزنوج‘، الّذي صدر بعد الحرب الأهليّة الأمريكيّة 1863، وينبغي الإشارة هنا إلى أنّ هذا الكتاب تُرجم إلى العربيّة بعد ما يقارب القرن على صدوره بالإنجليزيّة[2]. تجادل هذه المقالة تمييع العنصريّة وتهميش الكتابات السوداء؛ من خلال تحييد السياقات والإرث الخاصّ بالعبوديّة، وفصل العبوديّة عن العنصريّة، ضمن لبرلة وتعميم وتمييع للعنصريّة دون ربطها بالاستعمار والطبقة والجنس. بالتالي، ستناقش ما يحمله مفهوم العنصريّة من علاقات الهيمنة الّتي حُملت في العظام والأرواح، لقرون من العبوديّة ضمن السياقات المختلفة، وتحديدًا الأمريكيّة.

تجادل هذه المقالة تمييع العنصريّة وتهميش الكتابات السوداء؛ من خلال تحييد السياقات والإرث الخاصّ بالعبوديّة، وفصل العبوديّة عن العنصريّة، ضمن لبرلة وتعميم وتمييع للعنصريّة دون ربطها بالاستعمار والطبقة والجنس...

إنّ محاولات إسقاط المفاهيم التحليليّة هذه على سياقات أخرى تتضمّن وضعها في سياقها أوّلًا، ورؤية كيف تغلغلت في تفاصيل الحياة اليوميّة لتُنتج إطارًا نظريًّا من الحياة. بينما ما نشهده اليوم هو عمليّة من التكثيف في استخدام مفهوم العنصريّة دون سياقه، وهنا تصبح حركات التضامن مفرغة من فهم هذا الإرث، ومُهمّشة لما كتبت عنه هذه الأقلام من ربط ونقد للعنصريّة ضمن القراءة المادّيّة، والتحليل الطبقيّ، والاقتصاد السياسيّ العالميّ، والخطاب الرأسماليّ الاستعماريّ، والأبويّة.

 

السود ما بعد العبوديّة

تأثّر العديد من الكتّاب والكاتبات السود بما قدّمه ديبويز ب «روح الشعب الأسود» وكتاباته الأخرى، ومنهم بيل هوكس وسيدريك روبنسون؛ فقد أثار ديبويز العديد من التساؤلات المتعلّقة بوضع السود بالذات في مرحلة إعادة الإعمار بعد الحرب الأهليّة الأمريكيّة؛ مرحلة ما بعد العبوديّة. يقول ديبويز إنّ مرحلة ما بعد العبوديّة كانت تمثّل ’مهمّة بطوليّة‘، لدينا أربع ملايين من البشر ممّن كانوا عبيدًا، واليوم نتحدّث عن تحويلهم إلى ’مواطنين ديمقراطيّين‘! لكنّ ما حدث هو محاولة للإبقاء عليهم في مرتبة ثانية. لقد كانت سياسات «مجلس الأحرار» الّذي تَشكّل لحلّ هذه الأزمة تعمل بنصف قلب، لم تكن سياساتهم قائمة حقًّا على الانعتاق والتحرير؛ فقد انتقلنا من مرحلة العبوديّة، إلى مرحلة العنصريّة، وهي العبوديّة الجديدة. إنّ ديبويز هنا يقدّم تساؤله الوجوديّ عن معنى ’الحرّيّة‘؛ ماذا تعني الحرّيّة مع قرون متراكمة من تاريخ العبوديّة؟

حمل كتابه المذكور أعلاه مفهومين أساسيّين ومتقاطعين – توأمين - هما ’حجاب اللون‘ و’الوعي المزدوج‘، في توضيح لتراكم الإرث التاريخيّ للعبوديّة والخضوع والمهانة. يتجلّى حجاب اللون بالقوانين والسياسات الّتي منعت السود من المساواة بعد العبوديّة، وستبقى موجودة وتؤثّر في هويّة السود، نتيجة لها فإنّ هناك عمليّة من الانفصال المستمرّ بين البيض والسود بفعل حجاب اللون، وهذا لم يكن فقط لمنع السود من الوصول إلى الوظائف أو التعليم، وإنّما كان قاسيًا على الأرواح السوداء؛ ممّا يمنع تحقيق الإمكانيّات الكاملة كـ ’بشر‘.

لقد استخدم ديبويز مصطلح الحجاب حيث تحجب العنصريّة البيض من رؤية السود كمواطنين أمريكيّين حقيقيّين، والسود لا يرون أنفسهم بصورة مغايرة عمّا يراهم ويصوّرهم البيض. يصف ديبويز العلاقات الاجتماعيّة بين البيض والسود من خلال هذا الحجاب، وأساسه هو العبوديّة – ’الفيل الّذي في الغرفة‘، أن تكون عبدًا لقرون من الزمن، أن تكون روحًا أسيرة في هذا الزمن. تأتي لحظة استيعاب هذا الحجاب من قبل السود، من خلال ممارسات البيض تجاههم، وهذا الحجاب هو المسبّب النفسيّ لما يطلق عليه ديبويز ’الوعي المزدوج‘؛ أن ترى نفسك من خلال نظرة الآخرين إليك، النظر إلى هذه الروح وقياسها بشفقة أو بنظرة مهينة. إنّ الوعي المزدوج الناتج عن الحجاب هو ما جعل هويّة السود منقسمة بين الأمريكيّ والأفريقيّ في مجتمع أبيض، بحيث تكون فيه هويّة أقلّ من الأخرى، وهذا الازدواج يجعلها غير مكتملة وغير راضية. إنّه حالة شعوريّة "شعور المرء بأنّه مشكلة".

 

السوق وابتلاع حرّيّة العبيد

يؤسّس ديبويز لتحليل الحجاب المُلقى على السود؛ من خلال نقاشه لوضعهم الاجتماعيّ والاقتصاديّ عبر تجربته بالتعليم في الجنوب الأمريكيّ. وجّه ديبويز نقده إلى كلّ السياسات المنتجة والمتعلّقة بوضع السود، الّتي جعلتهم يركّزون على دخول دائرة ضيّقة من التعاملات الاقتصاديّة، حيث تمنعهم من عمليّة ’التقدّم‘، وتبعدهم عن أيّ اهتمام بالقيمة التعليميّة، أو بالقيمة الاجتماعيّة؛ ليصبحوا مجبرين على اتّخاذ الوسائل الأساسيّة للكسب الاقتصاديّ بأدنى مستوياته، وتحويل الخبز إلى إله والتعويل عليه. إنّ الجنوب الأبيض بسبب تحوّله المفاجئ من نموذج العبوديّة إلى التحيّز العنصريّ المتشدّد، نشأت فيه مسألة ذات طابع عمليّ؛ إنّها المسألة الاقتصاديّة الحتميّة الّتي تواجه شعبًا في مرحلة التحوّل من العبوديّة إلى الحرّيّة وسط الكراهية والتحيّز، والمنافسة الّتي لا ترحم. عليه؛ نظر الجنوب إلى الأسود بأنّه جنس ثالث بين البشر والماشية، يجب ألّا يتخطّى حدود الحجاب فترتفع الأسوار، ويُقام بينهم وبين النور حجاب كثيف حتّى لا يخطر ببالهم أبدًا أن يجتازوه.

يقول ديبويز إنّ مرحلة ما بعد العبوديّة كانت تمثّل ’مهمّة بطوليّة‘، لدينا أربع ملايين من البشر ممّن كانوا عبيدًا، واليوم نتحدّث عن تحويلهم إلى ’مواطنين ديمقراطيّين‘! لكنّ ما حدث هو محاولة للإبقاء عليهم في مرتبة ثانية...

لقد كان التركيز على علاقة الأسود بالأرض، خاصّة في الجنوب الزراعيّ، تبعًا لمرحلة العبوديّة السابقة، وحبس السود داخل الديون الاقتصاديّة، وهي ليست ديونًا تجاريّة، بل ديون بمعنى العجز المستمرّ. بدأ الزنجيّ المتحرّر يدرك أن لا حول له ولا قوّة؛ فقد عاد مرّة أخرى، وحمل الفأس، وما زال سيّده القديم يعطيه الخبز ولحم الخنزير. اختلف الشكل القانونيّ للخدمة نظريًّا، أمّا في الواقع فإنّ العمل الإلزاميّ أو ’المزارعة‘ قد استبدل به الكدح اليوميّ، حيث أصبح العبد عاملًا، لكنّه عامل بدون أجر محدّد في الواقع. يقول ديبويز ساخرًا عمّا سُمّي بمرحلة الحرّيّة: "قبل دخول معبد المعرفة، لا بدّ من فتح أبواب الكدح، أليست الحياة أكثر من لحم؟ أليس الجسد أكثر من مجرّد رداء؟ ... إنّ الاتّجاه الموجود ولدته العبوديّة، وسارعت بإحيائه الإمبرياليّة المجنونة السائدة اليوم". أصبح يُنْظر إلى الكائنات الحيّة على أنّها موارد مادّيّة، يجب تدريبها على أمر واحد هو "تحقيق الأرباح". لقد كَمُنَ خوفه من التوجّه إلى اعتبار التحيّز العنصريّ أمرًا ’نافعًا‘ بإبقاء السود والملوّنين في مكانهم، وأنّ التعليم الّذي يشجّع على الطموح الّذي يدعو إلى رفع المثل ويسعى إلى ثقافة عليا، وليس مجرّد كسب للعيش، هو ميزة يختصّ بها البيض، وأنّها خطر ووهم بالنسبة إلى السود.

كتب ديبويز أطروحته من أجل تحرير الزنوج في أمريكا، وتحرير الشعوب الملوّنة من الهيمنة  الغربيّة (الأمريكيّة والأوروبّيّة)، وركّز على تحرير الشعوب الأفريقيّة لأنّهم ’أصل‘ ظاهرة الاسترقاق الأمريكيّة، وذلك مهمّ جدًّا لتفسير المشهد العالميّ الاستعماريّ، ومأساة الشعوب الأفريقيّة داخل المشهد، فهو لم يرَ الاسترقاق أو تجارة الرقّ مسألة أمريكيّة في ذاتها، لكنّه قدّم تفسيرًا "للاقتصاد السياسيّ الأمريكيّ"، وقيام البيض فيه بدور الشرطيّ للمحافظة على الامتيازات الرأسماليّة وفق نظرة تفوُّق تجاه العبيد العاملين لإدارة ماكينة هذا الاقتصاد. تبعًا لذلك؛ كان ديبويز يقدّم شعار "يا شعوب المستعمرات والشعوب الملوّنة اتّحدوا"، على الشعارات الماركسيّة عن البروليتاريا العالميّة، الّتي رأى ديبويز أنّ أرستقراطيّتها تتوحّد مع الرأسماليّة ضدّ الشعوب الملوّنة. لذا؛ أعلن مصطلح ’الحرب ضدّ اللون‘، وليس ’الحرب الطبقيّة‘.

 

سيدريك روبنسون والماركسيّة السوداء

انتقل تأثير ديبويز إلى سيدريك روبنسون، الّذي جعل من موضوع العرق والعنصريّة نظريّته المعرفيّة والهيكل التحليليّ لما تعنيه السلطة في عالم اليوم. في كتابه المتّسع والمعنون بـ «الماركسيّة السوداء: تكوين حراك ثوريّ للشعوب السوداء»[3]، يركّز روبنسون على مفهوم ’الرأسماليّة العنصريّة‘، الّتي يوسّع فيها أطروحة ديبويز عن حجاب اللون، ويوضّح أنّ العرق لا يتعلّق بالهويّة، لذلك يجب تأكيد أنّ لون البشرة ليس عنصرًا أساسيًّا في العنصريّة، وأنّ كلًّا من العرق والجندر ليسا أمرين عرضيَّين، إنّما تأسّست الرأسماليّة عليهما. إنّ قصّة العرق تبدأ بالإقرار بأنّه بنية للقوّة؛ تقوم على قوّة رأس المال في الدولة على إمساك هويّة الطبقة العاملة البيضاء بربطها بالعرق والذكوريّة؛ لذا فإنّ سرّ بقاء الرأسماليّة هو العنصريّة (الدولة العنصريّة والأبويّة)؛ أي أنّه لا يوجد رأسماليّة غير عنصريّة بتاتًا. لذا؛ فإنّ المفهوم يشير ببساطة إلى أنّ الرأسماليّة تتغذّى وتعمل من خلال نظام العنصريّة، وهي أساسيّة لإنتاج العنف وإعادة إنتاجه، وأنّ العنف ضروريّ لخلق رأس المال والمحافظة عليه؛ لأنّ أساس رأس المال يبدأ من خلال السيطرة والحيازة على الموارد الطبيعيّة، بالإضافة إلى خلق العمالة الرخيصة، وتحويل كلّ شيء إلى سلعة، بما فيه الأرض نفسها. بالتالي؛ يكون تحويل كلّ العالم إلى بدائيّين متوحّشين لتبرير الحيازات الاستعماريّة، وتملّك المشاعات وخلق العمالة الرخيصة. يجادل روبنسون بأنّ الأنظمة العرقيّة هي أنظمة من الحقيقة (غير المستقرّة)، ويحاول في هذا الكتاب أن يفتح مساحة للتفكير في علاقات القوّة الّتي قد تتداخل أو تصطدم أو حتّى تُولّد مقاومة، والكشف عن آليّات تلفيق العرق داخل الغرب؛ من أجل خدمة الرأسماليّة.

يحاول روبنسون أن يفتح مساحة للتفكير في علاقات القوّة الّتي قد تتداخل أو تصطدم أو حتّى تُولّد مقاومة، والكشف عن آليّات تلفيق العرق داخل الغرب؛ من أجل خدمة الرأسماليّة...

يتحدّى روبنسون وينتقد كلًّا من المقاربات الماركسيّة والفوكويّة في دراسة العرق والعنصريّة، فهو لم يقتصر على كشف حدود المادّيّة التاريخيّة كطريقة لفهم تجربة السود، لكنّه كشف أيضًا أنّ جذور العنصريّة الغربيّة تأتي من داخلها، الاتّجاه الأوروبّيّ نفسه، وذلك قبل بزوغ الرأسماليّة. بينما تقوم الرواية الماركسيّة على اختزال العرق في تحديد إنتاجه إلى ’تجارة العبيد‘. أمّا الطرح الفوكويّ فيتجاهل طبيعة التناقض والتعقيد لكيفيّة أنّ العرق هو شكل من أشكال الهيمنة والسيطرة، وأنّ كلا القراءتين لا تترك مساحات لفهم العرق، بل تشعرنا بأنّها مجرّد مجموعات مؤقّتة متنكّرة، بلا تاريخ وذاكرة، وأنّ هناك في المقابل ثابتًا يمتلك التاريخ ويتقيّأهم متى شاء. يحاول روبنسون هنا أن يخرج عن المسيرة البديهيّة في نقاش الطبقات العاملة الحديثة، من منظور قوميّ إنجليزيّ أو فرنسيّ أو غيره. يقول روبنسون إنّ "المراتب ’الدنيا‘ كانت تتكوّن غالبًا من العمّال المهاجرين من مناطق خارج الأمم الّتي كانوا يعملون فيها، حيث استقرّ هؤلاء العمّال المهاجرون في قاع الهرم السلاليّ، مثل السلاف والأيرلنديّين الّذين كانوا من أوائل ’زنوج‘ أوروبّا".

 

في نقد الثورة 

وجّه روبنسون مراجعة نقديّة خاصّة للتأمّل في موضوع الثورة، وللخطّ الزمنيّ التقدّميّ الغربيّ، داخل الفكرة الماركسيّة المتمثّلة في أنّ الرأسماليّة كانت انفصالًا ثوريًّا عن الإقطاع. بدلًا من ذلك، يقول روبنسون إنّ الرأسماليّة ظهرت داخل النظام الإقطاعيّ، ونمت بطريقة متقطّعة وغير منتظمة، وازدهرت في التربة الثقافيّة للغرب. بعبارة أخرى؛ لم تنفصل الرأسماليّة والعنصريّة عن النظام القديم، لكنّهما تطوّرتا منه لإنتاج نظام عالميّ جديد للرأسماليّة العنصريّة الّتي تعتمد على الرقّ والعنف والإمبرياليّة والإبادة الجماعيّة. بل عملت الرأسماليّة على تضخيم الاختلافات المناطقيّة والإقليميّة والثقافات الفرعيّة، وتحويلها إلى اختلافات عرقيّة بين العمّال داخل أوروبّا.

من أجل كشف أسطورة البروليتاريا العالميّة الّتي تتمركز في النظريّات الغربيّة؛ يقول روبنسون إنّه مثل الأيرلنديّين الّذين كانوا بمنزلة منتجات تقاليد شعبيّة تربّت وترعرعت في ظلّ الاستعمار الإنجليزيّ، وتشكّلت أيضًا الطبقة العاملة الإنجليزيّة في الجزر البريطانيّة المستعمرة عبر شوفينيّة إنجلوساكسونيّة، وهي أيديولوجيّة عنصريّة مشتركة، عبر خطوط طبقيّة سمحت للبرجوازيّة الإنجليزيّة بتبرير خفض أجور الأيرلنديّين وسوء معاملتهم. ولم يكن هذا الشكل الخاصّ من العنصريّة الإنجليزيّة من اختراع الطبقة الحاكمة من أجل التقسيم والمواجهة، لكنّه كان موجودًا من البداية، وهو ما يشكّل عمليّة التحوّل البروليتاريّ، وتشكيل وعي الطبقة العاملة. في هذا النظام الإقطاعيّ الحيّ، وُلدت الاشتراكيّة كإستراتيجيّة برجوازيّة بديلة لمواجهة التفاوت الاجتماعيّ. وأعلن روبنسون متحدّيًا ماركس نفسه أنّ: "النقد الاشتراكيّ للمجتمع كان محاولة لزيادة ثورات البرجوازيّة ضدّ الإقطاع".

يلاحظ روبنسون أنّ ماركس لم يدرك أنّ شحنات الرقيق عبر الأطلنطيّ كانت تحتوي أيضًا ثقافات أفريقيّة وفكرًا وذاكرة ومعتقدات (...) لقد أحضرت العمالة الأفريقيّة ماضيها معها، وهو الماضي الّذي أنتجها ووضع فيها العناصر الأولى للإدراك والوعي...

يلاحظ روبنسون أنّ ماركس لم يدرك أنّ شحنات الرقيق عبر الأطلنطيّ كانت تحتوي أيضًا ثقافات أفريقيّة وفكرًا وذاكرة ومعتقدات؛ أي أنّ هذه الشحنات لم تكن تتألّف فقط من رجال ونساء وأطفال سود معزولين فكريًّا أو مجرّدين ثقافيًّا. لقد أحضرت العمالة الأفريقيّة ماضيها معها، وهو الماضي الّذي أنتجها ووضع فيها العناصر الأولى للإدراك والوعي. لذلك؛ فإنّ الموجات الأولى من الثورات الأفريقيّة في العالم الجديد لم تكن محكومة بنقد المجتمع الغربيّ، لكنّها كانت محكومة بالرفض الكامل لتجربة الرقّ والعنصريّة. نظرًا إلى أنّهم كانوا أكثر حرصًا على الحفاظ على الماضي منهم على تحويل المجتمع الغربيّ، أو الإطاحة بالرأسماليّة، فقد حاولوا الهرب للعودة إلى أفريقيا، وإن كان على حساب خسارة حياتهم، أو اتّجهوا إلى تأسيس مستوطنات الهاربين، وهربوا وأصبحوا خارج المجتمع.

بالرغم من ذلك، فإنّ قوّة الأنظمة العنصريّة تكمن بـ ’نسيان‘ أو لنقل إنّه العمى المتعمَّد لتجاهل تاريخ المقاومة، ويعمل ذلك على تشويه فهمنا حول كيفيّة احتفاظ العنصريّة بقبضتها المميتة على المجالات السياسيّة والثقافيّة والاجتماعيّة. هذا يعيدنا للتساؤل حول مدى تأثّرنا بقبضة هذه الأنظمة العنصريّة، وتواطُئِنا في تهميش تجربة السود وأقلامهم وثوراتهم، الّتي يستفيض حولها روبنسون بكتابه، ويجعلنا نتساءل عن سبب عدم إدراج هذه الأقلام في الحوار التعليميّ والمعرفيّ سواء بقربها أو ببُعدها عن سياقاتنا، لكن على الأقلّ للإقرار بأهمّيّة هذه التجارب في مقاومة الإمبرياليّة. يقول روبنسون إنّ ديبويز وغيره ممّن كتبوا عن العنصريّة قد راجعوا مواقفهم من الماركسيّة الغربيّة، أو انفصلوا عنها تمامًا واعتنقوا راديكاليّة السود بدرجات متفاوتة، وكانت الطريقة الّتي وصلوا بها إلى التراث الراديكاليّ للسود أقرب إلى عمليّة التعرّف منها إلى الاختراع؛ فهم لم يضعوا نظريّة راديكاليّة للسود، لكنّهم وجدوها من خلال عملهم ودراستهم في الحركات الشعبيّة للشعوب السوداء.

يلخّص روبن كيلي – تلميذ روبنسون - أهمّيّة أطروحة روبنسون بأنّ هذا الكتاب وبتدخّل روبنسون يوازي ما قدّمه إدوارد سعيد في «الاستشراق»، يوضّح فيها كيف أنّ أوروبّا الّتي عمدت دومًا إلى تصوير نفسها كيانًا مستقلًّا ونقيًّا سلاليًّا، ومسؤولًا بمفرده عن الحداثة، عبر استبعاد السود من البحر المتوسّط، وتحجيم دور ’الزنوج‘ ومكانتهم فيه.

 

بيل هوكس... ضدّ الهيمنة

تظهر لنا النسويّة بيل هوكس المولودة باسم (غلوريا جين واتكنز) - وإن كانت لا تحبّ وصفها بالنسويّة لأنّ النسويّة ممارسة وليست لقبًا - وكانت بيل هوكس استخدمت اسم جدّتها الكبرى الّتي عاشت في هوبكنزفيل/ كنتاكي، والّتي كانت تُعرف بأنّها شرسة وجريئة، ولم تخف من قول الحقيقة في زمن العبوديّة، واختارت أن تكتب اسمها باللغة الإنجليزيّة بالأحرف الصغيرة ’Bell hooks‘، وذلك كي تضع مسافة بين المؤلّفة وبين معنى الكلمات الّتي تصل إلى القارئة، وتترك حيّزًا لروح جدّتها الشرسة، وأيضًا كمحاولات دائمة للمعارضة؛ بلا حروف كبيرة وبلا اسمها.

لقد عُرفت هوكس بالتزامها في محاولاتها الكتابيّة والحواريّة العديدة لإزالة الهيمنة بأشكالها المختلفة، وفي تشديدها على تقاطع الطبقة والجنس والعرق؛ إذ أشارت إلى هذا التقاطع دومًا وبإلحاح وتكرار بما يُعرف بـ ’التفوّق الأبيض الإمبرياليّ الرأسماليّ الأبويّ‘، وكيف كان له الأثر في حصر النسويّة بالبياض، وتهميش النساء السوداوات. كانت هوكس تشدّد على أنّ النساء يقعن ضمن مواقع اجتماعيّة غير متجانسة؛ وهذا يأتي من الطبقة والأهمّ العرق الّذي يقدّم تجربة حياة مغايرة، ضمن نظام العنصريّة. هذا ما تشير إليه حول تهميش المرأة السوداء في تشكّل النظريّة النسويّة[4]، الّتي سيطر عليها موقع النساء البيضاوات من الطبقة الوسطى، وبذا؛ يتحوّل العرق إلى أساس تحليليّ مع الطبقة والجنس لديها.

 

صوت لامرأة غاضبة

تبدأ رحلة هوكس من الحياة بمحاولة فهم صوتها، الّذي غالبًا ما كان يوصف بأنّه صوت ’غاضب‘، هو صوت لامرأة سوداء تحاول التحرّر من الاضطهاد والاستغلال، ثمّ إنّ سمة الغضب هذه الّتي كانت توصف بها ما هي إلّا أداة لتصوير البيض للسود؛ لنزع أهمّيّة ما يقال منهم، وعدم إعطائه استحقاق السماع، بينما هو يُعتبر صوتًا ثاقبًا للحقيقة في وجه السلطة. ركّزت هوكس على الوحدة بين النظريّة والممارسة، وكان هذا أساس النظريّة النسويّة الّتي حاولت تقديمها لنا، من خلال ’الوجود في هذه العالم‘؛ من خلال الوصول إلى الناس؛ لسماعهم ولمساعدتهم، ولم تكتفِ بالكتابة للكبار أو النساء، وإنّما أيضًا ألّفت للصغار، ووقفت كمعلّمة تحاول الربط بين حياتها وما تقدّمه. بذلك؛ انتقدت المعلّمين الّذين يحاولون إيصال مجموعة من المعتقدات والقيم الّتي لا يمارسونها في حياتهم، وقدّمت انتقادًا شديدًا للغة النخبويّة، الّتي تصبح فاصلًا بين النظريّة والحياة، ولا يستطيع الناس جميعًا فهمها، فإن لم يفهموها فلن تمسّ أرواحهم، ووعيهم، ولن تعينهم على تغيير واقع الاضطهاد الّذي يعيشونه.

عُرفت هوكس بالتزامها في محاولاتها الكتابيّة والحواريّة العديدة لإزالة الهيمنة بأشكالها المختلفة، وفي تشديدها على تقاطع الطبقة والجنس والعرق؛ إذ أشارت إلى هذا التقاطع دومًا وبإلحاح وتكرار بما يُعرف بـ ’التفوّق الأبيض الإمبرياليّ الرأسماليّ الأبويّ‘...

تحرّكت هوكس بين مختلف المشاعر الإنسانيّة؛ لتحاول فهْم ’التفوّق الأبيض الإمبرياليّ الرأسماليّ الأبويّ‘ ونزعه؛ فبدأت بالغضب، ثمّ انتقلت إلى الحبّ والتوق والألم، وحوّلت كلّ هذه المشاعر إلى معرفة مكتوبة تصل بها إلى الناس، فحبّ السود لأنفسهم، الّذي اعتبرته بيل هوكس فعلًا راديكاليًّا وعملًا سياسيًّا في سياق السود داخل أمريكا، وهذا لا يقتصر على النساء فقط، بل على كلّ الشعوب الملوّنة والسود نساءً ورجالًا وأطفالًا، وذلك لأنّ ’التفوّق الأبيض الإمبرياليّ الرأسماليّ الأبويّ‘ يعمل على نزع الحبّ عن الذات، وفصل الذات عن الموضوع، بحيث لا يستطيع المقهورون الثورة وقلب أنظمة الهيمنة. ترى هوكس أنّ محاولات الاستخفاف بالحبّ، وعدم التنظير له، تأتي من الخوف من الوعي والتحرّك الجماعيّ نحو ما نتوق إليه، تجاه عالم خالٍ من الاستغلال والاضطهاد[5]. لخّصت هوكس معنى النسويّة الّتي تراها بلا هوامش كما يلي: "نستطيع أن نتقاسم رسالة بسيطة ولكنّها جبّارة: النسويّة هي حركة تهدف إلى إنهاء الاضطهاد المرتبط بالتمييز على أساس الجنس. لنبدأ من هناك. فلتنطلق الحركة من جديد"[6].

هذه المحاولة الكتابيّة لا تستوجب خاتمة، بل هي دعوة مفتوحة إلى قراءة أعمال الكثيرين والكثيرات ممّن هُمّشت أقلامهم بفعل سطوة العنصريّة. ما هذه المحاولة إلّا إشارة متواضعة عن مفهوم العنصريّة، الّذي يمثّل سياقًا مليئًا بتجارب الألم والاضطهاد في سياقات معقّدة، وأنّ مواجهتنا لها للقضاء عليها تنبع أساسًا من عدم التمركز على سياقاتنا المحلّيّة، ونزع المفاهيم من سياقها. إنّ أيّة عمليّة تضامن ضدّ القوى الاستعماريّة والإمبرياليّة والعنصريّة والأبويّة تنضوي بدايةً على فهم واحترام لتجارب قاومت وتقاوم أنظمة الهيمنة في عالم اليوم.

 


إحالات 

[1] أستاذ للتاريخ وعلم الاجتماع، ناشط في مجال تحرير الإنسان والشعوب الملوّنة. يُلاحَظُ في عمله مهارته الإثنوجرافيّة في سرد التفاصيل على مستوى الميكرو. بحث في فقر الزنوج واستخدم منهجيّات متعدّدة في ذلك. يُعَدّ أوّل عالم اجتماع استخدم الإحصائيّات بطريقة منظّمة، مع أنّ الاعتراف السوسيولوجيّ بأوّل عالم اجتماعيّ استخدم الإحصائيّات هو إميل دوركهايم، لكن فعليًّا فإنّ ديبويز سبق دراسة دوركهايم عن الانتحار. كما كانت له إشارات مهمّة سبّاقة في موضوع علم الاجتماع الحضريّ. في كتاب «روح الشعب الأسود» لم يكتب ديبويز فيه ضمن تخصّص علم الاجتماع فقط، فهو لم يكن ضيّق الاختصاص، بل استخدم علم النفس، والأنثروبولوجيا، والاقتصاد السياسيّ، والفلسفة، والتاريخ الاجتماعيّ، بالإضافة إلى تحليله للموسيقى والأغاني.

[2] ديبويز، بوجهارت. روح الشعب الأسود، ترجمة أسعد حليم، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002.

[3] روبنسون، سيدريك، الماركسيّة السوداء: تكوين حراك ثوريّ للشعوب السوداء، المركز القوميّ للترجمة، القاهرة، 2005.

[4] هوكس، بيل. المرأة السوداء وصياغة النظريّة النسويّة، أصوات بديلة: المرأة والعرق والوطن في العالم الثالث، تحرير: هدى الصدّة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002.

[5] Hooks, bell. All about love: new visions, HarperCollins, 2018.

[6] Feminist Theory: From Margin to Center. South End Press, 1984.

 


 

ياسمين قعدان

 

 

 

مرشّحة الدكتوراه في «العلوم الاجتماعيّة» من «جامعة بير زيت»، تدرس أطروحتها الإيكولوجيا السياسيّة، معاني الأرض ومسارات الحياة اليوميّة في زمنيّة الفلّاح الفلسطينيّ.