اتّجاهات الأدب الإنجليزيّ المعاصر

تصميم | علاء سلامة

 

تصلح لفظة ’اتّجاهات‘ الحاوية صيغتَي الجمع والاستفهام خُلاصة لهذه المقالة، الّتي تتعرّض لوصف النشاط الأدبيّ الإنجليزيّ (جغرافيًّا ولُغويًّا) المعاصر؛ حيث أبرز سماته التعدّديّة واللايقينيّة بخلاف أغلب الحقب الأدبيّة السابقة؛ فبتصفّح موسوعة المختارات الأدبيّة الإنجليزيّة «The Norton Anthology of English Literarture» وتفحّصها، بجزأيها الأوّل والثاني على سبيل المثال، يتّضح للدارس اعتماد كلمة أو كلمات عدّة مفتاحيّة تتقاطع في دلالتها الوصفيّة لهذه الحقبة أو تلك، ولمنتوجها الأدبيّ في عين الوقت. إذ تشترك أيّ محاولة مشابهة في مقاربة النشاط الأدبيّ الإنجليزيّ المعاصر، مع موسوعة نورتون من حيث تعدّد الكلمات المفتاحيّة، وتفترق عنه في غياب التقاطع الدلاليّ (الواضح) بينها كما سيتّضح لاحقًا.

 

التاريخ

طُبع الإنتاج الشعريّ الإنجليزيّ في العصور الوسطى، الّتي جرى اعتماد الفترة الممتدّة من سقوط الإمبراطوريّة الرومانيّة إلى بداية عصر النهضة الأوروبّيّة في 1485 تحقيبًا تقريبيًّا لها، بالمزاوجة بين تقاليد الملحمة الشعريّة - الّتي أخذتها الشعوب الإنجلوساكسونيّة عن القبائل الجرمانيّة - والعقائد المسيحيّة، الّتي اعتُمدت عقيدة رسميّة على الشعوب الخاضعة لحكم روما. فكما جرت كسوة المضامين الملحميّة بقيم مسيحيّة، جرت إضافة أبعاد ملحميّة على التناول الشعريّ لقصص الكتاب المقدّس ولحيوات القدّيسين، الّتي شكّلت الرافد الأبرز الّذي نهل منه أدباء وشعراء القرون الوسطى.

التسامح مع الأصوات المخالفة هو سمة أدب النهضة، فمن رحم الاصطفافات العقديّة والفكريّة والسياسيّة والمناكفات وُلِد، وإن بعد عُسْر الدماء والحروب، مناخ الحرّيّة الفكريّة الّذي يسمح بتجاور الأفكار وتعاصرها ونقائضها...

وإذا ما عرّجنا على أدب القرن السادس عشر، أو العصر الإليزابيثيّ، الّذي اتُّفق على تأريخه بالفترة الممتدّة بين اعتلاء الملك هنري السابع، أوّل ملوك سلالة تيودور، العرش في سنة 1485، ووفاة الملكة إليزابيث الأولى؛ آخر من ملك وحكم من تلك العائلة الملكيّة في سنة 1603، نجد ’الصراع‘ هو الكلمة المفتاحيّة لنصفه الأوّل؛ فعلى الصعيد الدينيّ برز الصراع الدينيّ القاسم والأبرز في تاريخ المسيحيّة، في ما عُرف بالإصلاح الدينيّ (Reformation)، الّذي دشّنه الراهب الأوغستينيّ الألمانيّ وفيلسوف اللاهوت في «جامعة ڤيتنبرغ» مارتن لوثر في سنة 1517. انتهى ذلك الصراع الفكريّ والعقديّ، ولاحقًا العسكريّ، بانشقاق الكنيسة البروتستانتيّة عن كنيسة روما الكاثوليكيّة. أمّا على الصعيد السياسيّ، فقد صبغ الصراع على العرش بين إليزابيث وابنة عمّها ماري ملكة أسكتلندا تلك الحقبة. وكون أغلب أدباء هذه الحقبة كانوا من شعراء البلاط الملكيّ؛ فقد طغى على نتاجهم الأدبيّ الاصطفاف مع البلاط والمنافحة عن خياراته في الصراعات الفكريّة والعقديّة والسياسيّة الدائرة آنذاك. من هؤلاء نذكر: السير توماس وايت والسير فيليب سيدني والسير والتر راليج.

بينما يتقاطع العصر الإليزابيثيّ كلّيًّا مع عصر النهضة من حيث التحقيب؛ فهو يتقاطع جزئيًّا معه في أواخره من حيث المناخ الفكريّ والثقافيّ؛ حيث يُؤرَّخ لعصر النهضة بالفترة الممتدّة بين 1500 و1660. وقد يكون تقاطع هذين العصرين فكريًّا وثقافيًّا أصدق تمثيل للجدل الديالكتيكيّ الهيغيليّ، الّذي يرى أنّ الفكرة تولّد نقيضها. فإذا كان ’الصراع‘ والصوت الواحد الدعائيّ هو السمة الغالبة على الإنتاج الأدبيّ القانونيّ (the Canon) للعصر الإليزابيثيّ في شطره الأوّل، فإنّ التسامح مع الأصوات المخالفة هو سمة أدب النهضة، فمن رحم الاصطفافات العقديّة والفكريّة والسياسيّة والمناكفات وُلِد، وإن بعد عُسْر الدماء والحروب، مناخ الحرّيّة الفكريّة الّذي يسمح بتجاور الأفكار وتعاصرها ونقائضها؛ فقد أخذت كتابات مناصري الملكيّة أمثال جيمس شيرلي وجون سكلي وريتشارد لَڤليس، تُطبع وتُنشر في لندن، كما كانت تلك من كتابات الثوريّين كجون ميلتون وأندرو مارڤيل.

استمرّ ذلك التجاور الفكريّ في الحقبة الّتي تلت عصر النهضة، حتّى نهاية القرن الثامن عشر، تحديدًا بين 1660 و1785، بل أخذ كتّاب القرن الثامن عشر بالحثّ على التقريب بين تلك الأفكار واقتراح مناطق وسطى بين هذه النقائض والأضداد الفكريّة، في امتداد للجدل الهيغيليّ الّذي يؤكّد أنّ الفكرة ونقيضها يُنتجان في نهاية المطاف فكرة ثالثة متعالية عن النقيضين. على أنّ قوالب كتّاب القرن الثامن عشر الأدبيّة، وللمفارقة، سعت إلى القطيعة مع سابقتها؛ إذ جدّ أدباء هذه الحقبة في السعي نحو لغة أدبيّة واضحة وبسيطة وسلسة، تقطع مع القوالب الجدليّة والمنمّقة والعصيّة على فهم القارئ العاديّ. ووجد أدباء هذه الحقبة ضالّتهم في قوالب الأدب الكلاسيكيّ، على وجه الخصوص في قواعد النظم الشعريّ لشعراء الفترة الّتي حكم فيها القيصر أوغستس، وأبرزهم ڤيرجيل وأوڤيد وهوراس، في ما يمكن وصفه بالأصوليّة الأدبيّة. عليه؛ فقد وُصف هذا العصر بالعصر الكلاسيكيّ المُحدث، والعصر الأوغستينيّ المُحدث.

استمرّ السعي نحو البساطة في العصر الرومانتيكيّ (1785-1830)؛ على أنّ الرومانتيكيّين لم يمضوا قصيًّا في الجغرافيا إلى روما، ولا أوغلوا سبرًا في الزمن لعصر الإمبراطوريّة الرومانيّة ليجدوا ضالّتهم. كان مبتغاهم أقرب من ذلك كثيرًا: الطبيعة من حولهم. بين من أسهب تغنّيًا بجمالها وحبّها مثل وردسورث، ومن أسرف في فلسفتها وتجريدها مثل شيلي وكيتس، صُبَّ الإنتاج الأدبيّ في قوالب الشعر والنثر لهذه الحقبة.

أمّا العصر الفيكتوريّ (1830-1901) فقد يكون الأقرب في نصفه الأوّل لراهننا، من حيث القفزات والتقلّبات والتغييرات الجذريّة والمتسارعة في الصناعة والعلوم والتكنولوجيا والنظم الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة؛ فقد لخّص الكاتب الأمريكيّ مارك توين ذلك التسارع في أثناء زيارته لندن في عام 1897، قائلًا: "يمتدّ تاريخ بريطانيا إلى ألفَي عام؛ على أنّه شهد تغييرات في مختلف المناحي، منذ ولادة الملكة فيكتوريا، تفوق ما شهده طوال الألفَي عام". وقد وصفه جون ستيوارت ميل في عام 1831؛ أي في بدايته، بـ ’العصر الانتقاليّ‘، وشاطره الرأي توماس كارليل، قائلًا في ذات العام: "إنّ القديم قد ولّى، ولكن يا حسرتاه! فالجديد لم يحلّ مكانه؛ الدهر ما زالت تتناوشه آلام المخاض". وقد بلور كارليل جزئيًّا تصوّره عن المولود الجديد في عام 1834 حين أخذ يحثّ معاصريه: "انفضّوا من حول بايرون، أقبلوا على غوته!" يمكن ترجمة رؤية كارليل بأنّ إكراهات الحقبة القادمة لن تجدي معها مقاربات الرومانتيكيّين ممثّلين ببايرون. في هذا العصر نجد بذور التعدّديّة الّتي زادت تفرّعًا وتعقيدًا في الأدب المعاصر، وتجلّت تعدّديّة الأدب الفيكتوريّ في تعدّد الأنواع الأدبيّة، كأنّ تلك الأنواع محاولات لبلورة مقاربات لتفسير الواقع الّذي لمّا تتّضح ملامحه بعد: الأعمال الواقعيّة، والبوليسيّة، والخيال العلميّ، وروايات الجريمة والغموض والرعب، وغيرها الكثير.

لم تكن تلك التقلّبات والتغييرات، وما رافقها من محاولات أدبيّة لفهمها، سوى البذور الّتي ستطبع القرن العشرين ومتناقضاته؛ ففي حين دشّن العصر الفيكتوريّ الثورة الصناعيّة والمدنيّة الّتي بشّرت بالرفاه فقد نثر بذور حرب عالميّة مدمّرة. في فترة ما بعد الحرب، تكرّس هذا التناقض بين الثورتين العلميّة والصناعيّة، أبلغ تعبير عن حضارة الإنسان وتقدّمه من جهة، وأحطّ تعبير عن همجيّته حين وظّف المنتج العلميّ والصناعيّ للفتك بأخيه الإنسان. أنتج هذا التناقض أدب الحداثة المضطرب، الّذي يعكس في بنيته ومحتواه أزمة الإنسان في الفهم أو التوفيق بين هذه المتناقضات، الّتي تبدو من بعض زوايا النظر كأنّها تعاضد بعضها بعضًا؛ فعوضًا عن تقديم واقعهم المشوّش في نسق أدبيّ محكم البناء لمحاولة فهم هذا الواقع؛ وظّف الحداثيّون اللانسق والتشظّي واللامعنى لتمثيله. وعِوَض الجدّ في إبداع إجابات لمعضلات عصرهم، تركوا أعمالهم بنهايات مفتوحة.

 

الحاضر

ممّا سبق، يتّضح أنّه  في حين أمكن تأطير المنتج الأدبيّ في العصور السالفة، بقالب أو قوالب مترابطة، فإنّ أدب الحداثة جعل الخروج على القوالب قالبه. وأدب القرن الحادي والعشرين هو امتداد لذلك التمرّد، وقد يكون استعصاؤه على القولبة هو قالبه؛ فهو أدب يقوم أساسًا على التشكيك في المفاهيم والأطر والقوالب من حيث هي. بعبارة أخرى، في حين جعل الحداثيّون نقد الأطر والمفاهيم الموروثة أجندتهم، فإنّ ما بعد الحداثيّين وورثتهم من أدباء القرن الحادي والعشرين رفعوا راية نقضها.

يتقاطع أدب القرن الحادي والعشرين مع سالفه الحداثيّ، من جهة الانفتاح على النهل من اتّجاهات أدبيّة وفكريّة عديدة؛ فعلى سبيل المثال، فإنّ الأدب الحداثيّ هو في أصله منتج رفدته النزعتان الرمزيّة (Symbolism)[1] والتصويريّة (Imagism)[2] بشكل رئيسيّ. وقد غذّى هذان الرافدان إيمان أدباء الحداثة بضرورة استخدام لغة الشارع، وبحتميّة تخليق إيقاعات جديدة تتماشى وهذه اللغة، وبلانهائيّة ولامحدوديّة المواضيع الشعريّة، وبتكثيف توظيف الرموز والصور. على ذاك؛ فإنّ ما جمع الحداثيّين هو دأبهم على كسر احتكار البنية والموضوع الشعريّ؛ على أنّ النزعتين الرمزيّة والتصويريّة لم تكونا الرافدين الحصريّين للحداثة؛ فقد كان لتشكيك كلٍّ من فرويد وماركس في عقلانيّة الجنس البشريّ دور بارز في إعادة النظر في تشخيص أبطال الأعمال الأدبيّة الحداثيّة. فقد استعاض الحداثيّون عن أبطال الملاحم الّذين تخلّدهم أعمالهم وبطولاتهم بأبطال يقدّمون للقارئ من خلال ما يختلج عقولهم ونفوسهم. هنا تجدر الإشارة إلى العلاقة المتبادلة بين هذين الرافدين الأخيرين وأدب الحداثة؛ فهذا النوع من الشخوص قد نتج عنه اتّجاه جديد مثلًا في علم النفس التحليليّ، في ما أخذ هذا الأخير يبثّ الحياة في شخوص هذا الأدب، حتّى لكأنّهم أحياء بيننا.

أدب الحداثة جعل الخروج على القوالب قالبه. وأدب القرن الحادي والعشرين هو امتداد لذلك التمرّد، وقد يكون استعصاؤه على القولبة هو قالبه؛ فهو أدب يقوم أساسًا على التشكيك في المفاهيم والأطر والقوالب من حيث هي...

كانت الريادة في المقاربة والمحاولة لسبر أغوار الشخوص لجيمس جويس؛ ففي رواياته أخذ جويس يقدّم شخصيّاته من خلال المناجاة أو حديث النفس (Monologue)، الّتي شكّلت بوّابة القارئ إلى وعي تلك الشخصيّات. ونحَت فرجينيا وولف ذات المنحى، واعتمدت تيّار الوعي (Stream of Consciousness) في تقديم شخصيّاتها، وعرّفته بأنّه ذلك الدفق اللامتناهي للوعي. في مفهوم وولف يكون ’الوعي‘ مجموع أنشطة العقل من أقصى اللامنطق إلى أقصى العقلانيّة وما بينهما؛ فالوعي يشمل الأفكار وتداعيها والذكريات والاستبصارات. على ذاك؛ فإنّ هذا الأسلوب في التشخيص شكّل من ناحية الأسلوب والشكل السرديّ قطيعيّة مع السرد التقليديّ المتسلسل والمترابط؛ فالصياغة الكتابيّة لهذا السيل من خلجات النفس والعقل تكون مطبوعة بغياب خيط ناظم لذلك الدفق الذهنيّ الباطنيّ، وبتفكّك الجمل وغياب الترابط بين الأفكار، والانتقال المفاجئ بين الماضي والحاضر؛ ما جعل هذه الروايات نخبويّة يستعصي على القارئ العاديّ متابعتها فضلًا على تذوّقها. هناك عديد المصطلحات المرتبطة وأحيانًا المنبثقة عن مصطلح ’تيّار الوعي‘، من مثل خطاب الباطن (Interior Monologue) وتيّار الأفكار (Stream of Thoughts)، وكلّها مصطلحات تشترك في دلالتها على أنّ موضوع هذا النوع من الروايات[3] هو بواطن النفس للفرد. هذا التركيز على الفرد والفردانيّة (Individualism) كان متأثّرًا بفلسفة سارتر الوجوديّة (Existentialism)، الّتي تؤكّد مركزيّة الفرد ذي الإرادة الحرّة الّتي تصنع أفعاله وأقداره، كما يتجلّى في أعمال فرانس كافكا.

كما غذّت الوجوديّة النزعة الفردانيّة فقد غذّت الأخيرة نزعات أدبيّة عديدة، أخذت تحارب لأجل حقوق أفراد بعينهم، كان كثير من الفلسفات والكتابات السابقة تهمّشهم أو تقدّمهم من خلال قوالب وصور نمطيّة في أحسن الأحوال. فظهرت النسويّة (Feminism) الّتي أخذت على عاتقها إعادة تعريف النوع الجنسيّ (Gender)، وتعرية التمييز الجنسيّ بربطه بالتمييز الطبقيّ والعرقيّ. وبأجندة مقاربة دأب كتّاب ما عرف بـ ’أدب ما بعد الاستعمار‘ (Post-colonial Literature) المنافحة عن حقوق قاطني ’العالم الثالث‘ والمساءلة والتعرية للتمييز الّذي تنطوي عليه تسمية ’العالم الثالث‘ بحدّ ذاتها؛ فكتّاب القارّة السوداء، وكتّاب الشرق، وحتّى الكتّاب من السكّان الأصليّين لأستراليا و’العالم الجديد‘، صبّت رواياتهم وأشعارهم وأعمالهم المسرحيّة وجلّ كتاباتهم، في اتّجاه تعرية الوجه القبيح والممارسات اللاإنسانيّة الّتي كانت تنطوي تحت شعار ’عبء الرجل الأبيض‘ الاستعماريّ.

كان لظهور كتّاب من المستعمرات السابقة أثر في لغة الأدب حرفيًّا، ليس من حيث أساليب التعبير وضروب البيان والبلاغة فقط، بل أيضًا من حيث نزوع هؤلاء الكتّاب إلى استخدام اللغات العامّيّة والدارجة واللهجات واللكنات الهجينة، وإحلالها محلّ لغة المستعمر ’الفصحى‘؛ فعلاوة على الأدب الأسكتلنديّ والأيرلنديّ والولزيّ، وحتّى الأمريكيّ والكنديّ والأستراليّ، انضوت تحت مظلّة الأدب الإنجليزيّ أعمال كتّاب أفارقة وآسيويّين وكاريبيّين، وتلك لكتّاب من سكّان الأمريكتين وأستراليا الأصليّين. لم يصوّر القادمون الجدد في كتاباتهم الإبداعيّة واقع تلك الجغرافيا وخبراتها، الّتي وُلدوا فيها أو جاؤوا منها فحسب، بل أعادوا أيضًا تعريف واقع الحياة في إنجلترا وأمريكا ذاتها والخبرة فيهما. هذا الحراك الأدبيّ قاده الكتّاب ذوو الخلفيّات المهاجرة من المستعمرات البريطانيّة السابقة، على رأسهم كتّاب أفريقيا، خاصّة نيجيريا، وحوض الكاريبي. للتمثيل على دور هذه الأصوات في ’عولمة‘ خريطة الأدب الإنجليزيّ في القرن الحادي والعشرين وإعادة رسمها؛ سأستشهد بالمشهد الأدبيّ الإنجليزيّ في إنجلترا.

 

الراهن

نتج عن اتّساع رقعة مجتمعات المهاجرين ذوي الأصول غير الأوروبّيّة في إنجلترا، بشكل مباشر، توسُّع في زوايا النظر وامتدادها لقضايا لم تكن مطروقة من قبل في الأدب الإنجليزيّ، تركّز على المهاجرين ونَشْئهم وموقعهم من المجتمع الإنجليزيّ وفيه. هذا التوسّع أفرز تقليعات جديدة في الموسيقى والرقص والأزياء وحتّى الكلام، بالتوازي مع بروز صراعات وتحدّيات وتراتبيّات هرميّة لم يشهدها المجتمع الإنجليزيّ في السابق. صبّت هذه التغييرات في نتاج أدبيّ أكثر حيويّة واتّصالًا بهذا الواقع الجديد من الأدب الإنجليزيّ التقليديّ، الّذي كان بريقه آخذًا بالأفول لصالح الأدب القادم من بقاع شتّى ناطقة باللغة الإنجليزيّة. هذا التزامن بين الأفول والسطوع أسهم في وصول الكتّاب المهاجرين إلى العالميّة من جهة، وفي عولمة مواضيع الأدب الإنجليزيّ من جهة أخرى؛ فنهاية الإمبراطوريّة نتج عنها بداية أمم وشعوب جديدة، ذات دوائر اهتمام جديدة، تقاطعت مع اتّساع سوق يجدّ في تلبية نهم القرّاء المتنامي لقراءة أدب ’الأغيار‘.

فإذا كان مفهوم ’الأديب الإنجليزيّ‘ في النصف الأوّل للقرن العشرين يشير ضمنيًّا، في الغالب، إلى رجل أبيض ينتمي إلى الطبقة المتوسّطة العليا، وخرّيج مؤسّسات التعليم الحكوميّ، فابتداءً من الثلث الأخير للقرن فصاعدًا، توسّع المفهوم ليستوعب كتّابًا - وكاتبات بدرجة أقلّ - من مختلف الأصول والمشارب. هنا يمكن الاستشهاد بكتّاب مهاجرين من أمثال بِن أوكري (النيجيريّ المولد) وسلمان رشدي (الهنديّ المولد) وكازو إشييغورو (اليابانيّ المولد) وأندريا ليفي. تختلف ليفي في أنّها مولودة في لندن لأبوين جاميكيّين ينتميان إلى مجموعة المهاجرين المعروفين بجيل الويندرش (Empire Windrush Generation)، وتشمل القادمين من الهند الشرقيّة في فترة ما بعد الحرب العالميّة الثانية. كما يمكن الاستشهاد بكتّاب إنجليز وُلدوا لزيجات مختلطة مثل تيوثي مو (المولود في هونغ كونغ لأب صينيّ وأمّ إنجليزيّة)، وأيّوب خان - دين (المولود في مدينة سالفو الإنجليزيّة لأب باكستانيّ وأمّ إنجليزيّة)، وحنيف قريشي (المولود لأب باكستانيّ وأم إنجليزيّة). لم يكن هؤلاء الكتّاب مجرّد مساهمين في المشهد الأدبيّ الإنجليزيّ فحسب، بل كانوا اللاعبين الرئيسيّين فيه. في دراسة تفصيليّة لخريطة الأدب في إنجلترا في الفترة الممتدّة بين 1984 و2000، يستعرض الكاتب بروس كينغ بإسهاب تناوب الكتّاب من أصل كاريبيّ (منطقة الهند الشرقيّة على وجه التحديد)، وأولئك من أصول أفريقيّة (نيجيريّة في أكثرها) وآسيويّة على الدور الرياديّ في تعريف الأدب الإنجليزيّ. عند أخذ هذه الخريطة العرقيّة المنوّعة بعين الاعتبار، لا يغدو مستغرَبًا طغيان سؤال الهويّة على الأدب الإنجليزيّ المعاصر، واصطباغه بصبغة السيرة الذاتيّة الّتي تطرح وتحاول معالجة التاريخ الشخصيّ والعائليّ والعرقيّ، وتتناول أسباب الهجرة والنزوح عن مسقط الرأس؛ هنا كان لكلّ قائل قول، ولا تنتهي الحكاية هنا.

أسلفت الذكر بأنّ سأَم القرّاء من الأدب التقليديّ أسهم في إحلال ’أدب الأغيار‘ مكانه. إلّا أنّ هذا الأخير ما لبث أن غدا تقليديًّا للاحقين؛ ففي حين غلب على أدب الكتّاب الآنف ذكرهم نغمة الحنين إلى الوطن تخالطها نغمة (أو نقمة) الشعور بالمظلوميّة في المهجر، الّتي ترجمت في أعمال دأبت على مراجعة سرديّات كلاسيكيّات الأدب الإنجليزيّ، فإنّ لاحقيهم من ذات الخلفيّات العرقيّة دأبوا على فحص سرديّات مواطنيهم من الأدباء ومراجعتها؛ من خلال السفر ذهنيًّا وأحيانًا فعليًّا للكاريبي أو لأفريقيا أو الهند أو باكستان؛ لينتهي المطاف بالرحّالة الأديب بتأكيد هويّته الإنجليزيّة. هذا الجيل من الكتّاب أصبح يتساءل: إن كانت إنجلترا مسقط رأسي أو حيّز نشأتي، فكيف يمكن ألّا أكون إنجليزيًّا؟ ففي الوقت الّذي أصبح الحديث عن جيل ثالث ورابع من المهاجرين، أصبح سؤال الهويّة والانتماء إلى أرض الآباء والأجداد يبدو مفتعلًا؛ فعلى سبيل المثال، كانت الأعمال المنضوية تحت ما يسمّى الردّ بالكتابة (Writing Back) الأسلوب الأبرز، الّذي لجأ إليه كتّاب المستعمرات السابقة، في تعرية الخلل التمثيليّ لهويّاتهم في كلاسيكيّات أدب المستعمر، وتقديم بطاقة تعريفيّة بديلة في ردودهم الأدبيّة الّتي اتّخذت شكلَي البوادئ (Prequels) واللواحق (Sequels) بشكل رئيسيّ. وسأستشهد هنا بالكلاسيكيّات الخمس الأكثر استهدافًا في أدبيّات الردّ بالكتابة[4].

أوّلًا، رواية «Heart of Darkness»  لجوزيف كونراد (1902)، إذ راجع الكاتب النيجيريّ شينوا آشبي سرديّتها الإمبرياليّة في روايتين هما «Things Fall Apart» و«Arrow of God». في الوقت الّذي غلبت الحدّة والتعصّب الأصوليّ على ردّ آشبي فإنّ ردّ الكاتب الإنجليزيّ من أصل ترينيدادي ڤي. إس. نيبول، الحائز على «جائزة نوبل للآداب» في روايته «Mimic Men» تناولت سرديّة كونراد بحدّة أقلّ، وحتّى بشيء من التفهّم لبعض مَواطنها.

نهاية الإمبراطوريّة نتج عنها بداية أمم وشعوب جديدة، ذات دوائر اهتمام جديدة، تقاطعت مع اتّساع سوق يجدّ في تلبية نهم القرّاء المتنامي لقراءة أدب ’الأغيار‘....

ثانيًا، رواية «Robinson Crusoe» لدانيل دوفو (1719): أبرز ردّين كانا في مسرحيّة «Pantomime» للكاتب الكاريبيّ (من جزيرة سانت لوسيا) الحائز على «جائزة نوبل للآداب» ديريك والكوت، ورواية الكاتب الترينيداديّ صاموئيل سيلڤون «Moses Ascending». ونحى العملان ذات المنحى من حيث تقديم سرديّة بديلة لرواية دوفو، يقوم فيها كروزو (المستعمِر) وفرايدي (المستعمَر) بتبادل الأدوار.

ثالثًا، رواية «Great Expectations» لتشارلز ديكينز (1860). في الوقت الّذي جاءت أغلب الردود على رواية كونراد من أفريقيا، وغلب الصوت الكاريبيّ في الردود على رواية دوفو، فقد كان الصوت الأستراليّ الأعلى من بين المراجعات الأدبيّة لرواية ديكينز. وأبرز هذه الردود كان رواية «Jack Maggs» لبيتر كاري.

رابعًا، مسرحيّة «The Tempest» لوليام شكسبير (1610/1611). تعدّدت الردود على مسرحيّة شكسبير من حيث الأصوات والأجناس الإبداعيّة (رواية، مسرح، شعر، سينما). على سبيل المثال لا الحصر، نجد رواية الكاتب البربادوسيّ جورج لامينغ «Water With Berries» وقصيدة مُواطنه إدوارد كاماو برايثويت «Caliban».

خامسًا، مسرحيّة «Othello» لوليام شكسبير (1604) كانت هي الأخرى موضوع عديد من الكتابات القادمة من المستعمرات السابقة، وأبرزها رواية الكاتب البريطانيّ من أصل كاريبيّ (من جزيرة سانت كيتس) كاريل فيليبس «The Nature of Blood»، ورواية سلمان رشدي «The Moor’s Last Sight».

كما سلف، فإنّ الأصوات الّتي خلفت تلك الّتي انشغلت بمراجعة السرديّات الكلاسيكيّة، أخذت تراجع تلك المراجعات وغيرها من أعمال سلفهم.

 

الخاتمة

تعاني محاولات التأريخ الأدبيّ عادة من عوار النقص وانحيازات المؤرّخ وانتقائيّته، وخير مثال عليها ما نتج عن النشاط النسويّ، في القرن العشرين، من نفض غبار النسيان عن عديد الأعمال الأدبيّة لأديبات لم يأتِ مؤرّخو الأدب التقليديّون على ذكرهنّ؛ فالنشاط النسويّ أعاد كتابة التاريخ الأدبيّ لتلك الحقب، بل أعاد تشكيل الأدب القانونيّ الغربيّ برمّته أيضًا. وبالإضافة إلى هذا التحدّي في التأريخ، فإنّ التحدّي في تحديد اتّجاهات الأدب في القرن الحادي والعشرين، ينبع من وفرة الأجناس الأدبيّة الّتي لا يجمعها قاسم مشترك واضح، والّتي ظهرت في حدود عقدَي هذا القرن الأوّلين من جهة، وبقاء الباب مفتوحًا لظهور المزيد منها من جهة أخرى. من جهة ثالثة، فإنّ احتمالات المزاوجة بين ما ظهر وما سيظهر تبقى مفتوحة، ويصعب التنبّؤ بمساراتها ومآلاتها.

إذا كانت كثرة الروافد والخيارات، وتعدّد صيغ التراكيب والتوفيقات الممكنة منها بتعدّد الحداثيّين، تُصعّب من نحت كلمة مفتاحيّة لوصف الحداثة، فإنّ التحدّي أكثر صعوبة عندما يتعلّق الأمر بأدب القرن الحادي والعشرين؛ فالحداثة وروافدها وما بعدها وما قبلها، هي بعض روافد أدب هذا القرن، الّذي ينهل من كلّ ما سلف. هذا يُصعّب أيّة محاولة تحقيب أو حتّى اقتراح نقطة زمنيّة بعينها حدًّا فاصلًا نبدأ منه تأريخ أدب القرن الحادي والعشرين؛ لأنّ هكذا محاولة تتجاهل التداخل والتشابك بين الحدود الزمنيّة (وحتّى الجغرافيّة) للأدب المعاصر، مع كلّ ما سلف من تراث ثقافيّ وأدبيّ وفكريّ؛ فمنتوج القرن الحادي والعشرين تنطوي تحته أعمال مُغرقة في الماضويّة، مثل سلسلة «هاري بوتر» ل جيه. كيه. رولينغ، وروايات دان براون، الّتي تستلهم قوالب الأسطورة ومضامينها الّتي كانت سمة أدب عصور غابرة (العصور الوسطى بالتحديد)، جنبًا إلى جنب لأعمال مُغرقة في حداثتها ومعاصرتها وراهنيّتها، مثل الأدب الرقميّ أو السبرانيّ لكتّاب من مثل جيسون نيلسون ومايكل جويس، ما بينهما من أجناس أدبيّة وفروعها.

 


إحالات

[1] الّتي كانت احتجاجًا أدبيًّا على النزعتين الطبيعيّة (Naturalism) والواقعيّة (Realism).

[2] هي مستقاة من فلسفة تي. إي. هولم (T. E. Hulme) والنزعة الجماليّة (Aestheticism).

[3] وقد وظّف كتّاب المسرح أمثال آرثر ميلر أسلوبًا مماثلًا في مسرحيّاتهم أطلق عليه التقنيّة التعبيريّة (Expressionist Technique).

[4] الأمثلة التالية استُخلصت من أربعة مراجع، وهي كتابا «The Empire writes back»، «Postcolonial Studies: The Key Concepts»، لأشكروفت وآخرين، وكتاب «Orientalism» لإدوارد سعيد، وكتاب «Postcolonial Con-Texts: Writing Back to the Canon» لجون ثيم.

 


 

أسماء حسين

 

 

 

أستاذة مساعدة في قسم الأدب والثقافة الإنجليزيّة في جامعة «غوتنغن» الألمانيّة. مهتمّة في مجال دراسات أدب الحداثة وما بعد الحداثة، وأدب ما بعد الاستعمار. إضافة إلى تدريسها للمسرح والرواية من القرن السادس عشر وحتّى القرن الواحد والعشرين.