في منطق الهدم وإبادة المدن

ناجيتان من قصف إسرائيليّ على حيّ الشيخ رضوان، غزّة، 23/10/2023 | Getty.

 

كيف يمكننا أن ننجو من كلّ مشاهد الهدم والدمار الواردة إلينا من غزّة؟

يبدأ السؤال من حيث ينتهي إرث كبير للحداثة بشأن الخرائب والدمار، تلك العتبة الّتي يبدأ منها تسويق العمران في نموذجه الحداثيّ العنيف[1]؛ فإسرائيل، الّتي تقدّم نفسها درّة العلم والحداثة والتقنيّة، إنّما تشنّ حربها التدميريّة على قطاع غزّة وأهله[2] باسم العمران والدولة الحديثة. يندغم في هذا التدمير وجهان من البشاعة لا ينفصلان: إبادة المدن (Urbicide)، والإبادات الجماعيّة (Genocide). تسعى هذه المقالة إلى تأمّل العلاقة بين الإبادتين من خلال الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة الّتي بدأت بتاريخ 7 تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، بعد عمليّة «طوفان الأقصى» الّتي نفّذتها «كتائب الشهيد عزّ الدين القسّام» الجناح العسكريّ لـ «حركة المقاومة الإسلاميّة - حماس».

 

نشأة المفهوم

في عام 1992، في مدينة موستار، في البوسنة والهرسك، اختارت مجموعة من المهندسين والباحثين المعماريّين، موضوع إبادة المدن (Urbicide)؛ لتكون الثيمة الأساسيّة لدوريّة بحثيّة بعنوان «موستار 92 – إبادة المدن»، وقد نجح هذا العدد في التأسيس لاعتبار إبادة المدن شكلًا أساسيًّا من الإبادة الجماعيّة، وليس سمة عرضيّة أو ثانويّة لعنف الحروب.

يشير تعبير إبادة المدن إلى نمط التدمير المتعمّد لعناصر البيئة المبنيّة، بوصفه شكلًا من أشكال العنف السياسيّ في حدّ ذاته...

نشأ مفهوم إبادة المدن تراكميًّا خلال مناقشات متعدّدة حول برامج التجديد الحضريّ في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وكان المقصود منه الإشارة إلى الطريقة الّتي تعرّضت بها المدينة، سواء كشكل معماريّ أو تجربة اجتماعيّة وسياسيّة، للهجوم في التخطيط والتطوير الحضريّ في القرن العشرين. استخدمت المصطلح الناقدة المعماريّة آدا لويز هاكستابل (1921 - 2013)، الحائزة على «جائزة بوليتزر» للعنوان الفرعيّ لمقالاتها في «نيويورك تايمز»[3]، وكذلك المنظّر الأمريكيّ مارشال بيرمان (1940 - 2013)، الّذي تُنْسَب إليه إعادة تشكيل المصطلح مفاهيميًّا، ودراسته في سياق الحداثة وما بعدها[4]. وهنا يمكننا فهم التحوّلات الراديكاليّة في التخطيط الحضريّ في القاهرة مثلًا، باعتبارها فعلًا من أفعال الحروب والإبادة الجماعيّة، باسم التحضّر والتخطيط، فإبادة المدن تخطيطًا شكل من أشكال الخطاب السياسيّ، وبالتالي فإنّ ما حدث في البوسنة لا يختلف في جوهره عمّا حدث في نيويورك من قبل، وعمّا حدث في القاهرة لاحقًا.

وعليه؛ يشير تعبير إبادة المدن إلى نمط التدمير المتعمّد لعناصر البيئة المبنيّة، بوصفه شكلًا من أشكال العنف السياسيّ في حدّ ذاته، ويتغيّر هذا العنف في درجته وصولًا إلى مفهوم الحرب؛ أي أنّه جزء لا يتجزّأ من برامج سياسيّة محدّدة، وفاعلين سياسيّين أساسيّين. يجادل ستيفن غراهام بأنّ تدمير مخيّم جنين للاجئين بواسطة الجرّافات العسكريّة الصهيونيّة جزء من برنامج أوسع لمحو الهويّة الفلسطينيّة من مناطق معيّنة من الأراضي المحتلّة[5].

وعليه؛ فإنّ إبادة المدن محاولة لترسيم حدود القتل والتدمير، باعتباره ممارسة ممتدّة ومتداخلة من تدمير الإنسان والعمران، بكلّ عناصرهم المتقابلة والمتعاضدة، باعتبارها ظاهرة واحدة، بدلًا من حالات معزولة أو ثانويّة، وأنّها هدف للسياسيّ كما العسكريّ. والسياسيّ في إبادة المدن رديف العسكريّ الحربيّ، فهو فعل إثنوقراطيّ[6] بالأساس، يسلّط الضوء على عنف تمييزيّ مكانيّ من خلال تحليل المنطق السياسيّ في هندسة المكان وإنتاجه.

وعلى الرغم من المشتركات بين إبادة المدن وعدد من المصطلحات الخطابيّة السياسيّة الأخرى (على سبيل المثال، الإبادة الجماعيّة) المستخدمة لفحص العنف السياسيّ، إلّا أنّ استخدامات مفهوم إبادة المدن لم تكن منهجيّة بقدر المصطلحات السياسيّة الأخرى. لذا؛ لم يتلقّ مفهوم إبادة المدن تفصيلًا بحثيًّا مستمرًّا في ما يتعلّق بكلٍّ من معناه وآثاره وبنيته. ويعود السبب في ذلك إلى مركزيّة الدراسات التاريخيّة على حساب الجغرافيّة، في ما أسماه الفيلسوف الفرنسيّ ميشيل فوكو (1926 - 1984) "هوس القرن التاسع عشر" الّذي ورثناه، كما يتّضح الأمر جليًّا في تراجع دراسات الجغرافيا البشريّة، والمكانيّة، لصالح الدراسات السياسيّة والتاريخيّة.

يشير مصطلح إبادة المدن خطابيًّا إلى كلٍّ من التشابه والتمييز بين العنف الّذي يؤثّر في البيئة المبنيّة والإبادة الجماعيّة[7]. فمن ناحية، في اللغة الإنجليزيّة، يعتمد مصطلح إبادة المدن (Urbicide) على تشابه معجميّ مفاهيميّ مع الإبادة الجماعيّة (Genocide)، من حيث اللاحقة (cide-) من أجل تأكيد حجم التدمير الّذي يحدث وأهمّيّته. بينما من ناحية أخرى، يؤكّد مفهوم إبادة المدن على أنّ تدمير البيئة المبنيّة هو حدث، على الرغم من ارتباطه بالإبادة الجماعيّة، إلّا أنّه مميّز من الناحية المعجميّة، وبالتالي من الناحية المفاهيميّة، وعليه؛ ثمّة ترادف مفاهيميّ بين بنية الجماعة المتخيّلة وبيئتها المبنيّة، وما يستلزمه ذلك من علاقات وبنًى.

وقد تنبّه رافييل ليمكين (1900 - 1950) في بحثه في تاريخ تدمير المدن، إلى الحاجة إلى صكّ كلمة جديدة للعنف الّذي ارتكبه النازيّون. على الرغم من وجود أعمال عنف مختلفة عبر التاريخ يمكن مقارنتها من أجل فهم العنف النازيّ، يستشهد ليمكين، من بين أمور أخرى، بمثال تدمير قرطاج في عام 146 قبل الميلاد. إذ كان من الضروريّ، كما جادل ليمكين، صياغة مصطلح جديد يأخذ في الاعتبار الطابع المنهجيّ للهولوكوست، محاججًا أنّ الإبادة الجماعيّة تعني "خطّة منسّقة لإجراءات مختلفة تهدف إلى تدمير الأسس الأساسيّة للجماعات القوميّة؛ بهدف إبادة المجموعات نفسها"[8].

 

بين إبادة المدن والإبادة الجماعيّة

لفهم من أين تبدأ العلاقة بين إبادة الجسد في الإبادة الجماعيّة، وإبادة المكان، أو المدينة؛ لعلّنا نتنبّه إلى ما أشار إليه بول كونورتون (1940 - 2019)؛ في محاولة لإجابة السؤال: كيف يغزو النسيان ذاكرة الحداثة؟ إذ يقول: "المنزل والجسد، يجمعهما قاسم مشترك؛ إذ يأخذهما الإنسان مأخذ المسلّمات، حيث نميل إلى أن نأخذ أجسامنا على أنّها من المسلّمات حتّى تخذلنا من خلال حادثة أو من خلال المرض أو الشيخوخة، الأمر نفسه ينطبق على المنزل؛ حيث ننظر إليه على أنّه من المسلّمات إلى أن تحدث ظروف استثنائيّة، مثل الانتقال من المنزل، أو خلاف أسريّ، أو اندلاع حريق أو حرب"[9].

إبادة الجسد في الإبادة الجماعيّة ليست محدودة بإفنائه بوصفه كيانًا مادّيًّا فقط، بل كيانًا رمزيًّا ومعنويًّا...

في مقالته الكلاسيكيّة «العمران كطريقة للحياة»[10]، يجادل لويس ويرث (1897 – 1952) بأنّ حجم سكّان المدن وكثافتهم وعدم تجانسهم هي العناصر الّتي تشكّل "عناصر التحضّر (Urbanity) الّتي تكرّسها نمطًا مميّزًا للحياة"[11]، على الرغم من تعداده لتلك العناصر الثلاثة، إلّا أنّ عدم التجانس هو العنصر الرئيسيّ. 

وعليه؛ فإنّ تحديد عدم تجانس النسيج الحضريّ عاملًا عضويًّا وأساسيًّا، يجعل البنية العلاقاتيّة الحضريّة تضمن علاقة بنّاءة لكلّ هذا اللاتجانس، كما يرشدنا ريتشارد سينيت[12]. وبالتالي، فإنّ إبادة المدن تدمير لعدم التجانس نتيجةً، والتنوّع مسبّبًا لها، وهو أمر يتخطّى إبادة الجماعة إلى إبادة ممكناتها التفاوضيّة والحواريّة، كما في النسيج الحضريّ.

يستلزم مفهوم الإبادة الجماعيّة فهْم فعل التدمير - فعلًا ومنهجيّة – في إنتاج مكان مدينيّ، في ما يتعلّق بما يجري تدميره، ويُفْهَم ضمنًا من فهمنا للقتل جزءًا من منطق الإبادة الجماعيّة. بكلمات أخرى؛ إبادة الجسد في الإبادة الجماعيّة ليست محدودة بإفنائه بوصفه كيانًا مادّيًّا فقط، بل كيانًا رمزيًّا ومعنويًّا، وبالتالي؛ فإنّ الهدم هنا بصفته فعل إبادة للمدن ليس إلّا إعادة إنتاج لها في المخيال المشترك؛ أي أنّ دمار مدينة غزّة جزء من مقولة إنتاج غزّة حربيًّا، وعليه؛ فإنّ الهدم له معماريّته أيضًا، وهو ما يفسّر كون الخرائب نصًّا معماريًّا، وأداة إنتاج مكانيّة المستعمَر، ولها جانب من السياسات الحيويّة[13].

إنّ قتل كلّ فرد ليس وسيلةً لتحقيق الإبادة، بل تمامها ظاهرةً وسياسة. في الواقع، ليست الإبادة – مهما كانت كاملة – هي الّتي تعرّف الإبادة الجماعيّة[14]، إلّا أنّ الإبادة الجماعيّة تتحقّق من خلال شروط بنيويّة تنطلق من السياسات الجسديّة، كما في الحالة الإسرائيليّة، حيث نجد الاحتفاظ بجثامين الشهداء، واقتحام المستشفيات وتدميرها، وأخيرًا بنك الجلود، الّذي يُعَدّ استمرارًا لتاريخ الاستعمار الاستيطانيّ الإحلاليّ المنبثق من الحالة الغربيّة، وتحديدًا النماذج الإثنوقراطيّة في كندا والولايات المتّحدة وأستراليا وغيرها. وعليه؛ فإنّ ما نفهمه على أنّه معنى الإبادة الجماعيّة يكون تنفيذه في كلّ حالة وفاة، في كلّ مرّة، وبكلّ جسد. وبما أنّ الإبادة الجماعيّة تترسّم في كلّ حالة وفاة، فإنّها تعبّر عن علاقة بين ما يُدَمَّر ومعنى الدمار الّذي يختلف عن مجرّد موت الفرد - وهذا هو السبب في أنّ كلّ وفاة حالة من حالات الإبادة الجماعيّة، وليست جريمة قتل بسيطة. وكما كان التوازي بين السياسات الإفنائيّة للجسد الجماعيّ للجماعات في الإبادة الجماعيّة؛ فالأمر نفسه في إبادة المدن بما هي جزء من الإبادة الجماعيّة، بكلّ ديناميّة تدميريّة مكانيّة حضريّة على اختلافها.

هنا بالتحديد يمكن ملاحظة القرابة والفرق المتزامنين بين إبادة المدن والإبادة الجماعيّة، في رسم تشابه بين تدمير النسيج الحضريّ وتدمير نسيج المجموعات العرقيّة. لاحظ مؤلّفو «موستار 92» أنّ تدمير النسيج الحضريّ استمدّ معناه من العلاقة بين التدمير وما هو ’هو‘ الّذي يُدَمَّر. يستلزم لإبادة المدن تدمير المباني باعتبارها العناصر المكوّنة للتحضّر والاختلاف والتعدّد، توُدَمَّر المباني لأنّها شرط إمكانيّة التحضّر، ومساحات التفاوض العمرانيّ الجغرافيّ.

 

غزّة الآن

لم تبدأ الحرب على قطاع غزّة في السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023؛ فالمواجهة في القطاع تتراكم من فترات طويلة من الحصار، ومراحل قصيرة من القتال، ولكنّها مكثّفة. بدأت الحرب على القطاع في حزيران (يونيو) 2007، عندما قرّرت إسرائيل ومصر فرض حصار برّيّ وجوّيّ وبحريّ على القطاع بعد استيلاء «حركة حماس» على السلطة فيه بعد فوزها بالانتخابات التشريعيّة الفلسطينيّة عام 2006، ولا يزال الحصار مستمرًّا حتّى اليوم. وقد حدثت أربع موجات تصاعديّة رئيسيّة، تقابلت مع فترات المواجهة المسلّحة؛ سبقت عمليّات القصف الإسرائيليّة في أيّار (مايو) 2021 عمليّة «الجرف الصامد» (8 تمّوز [يوليو] - 26 آب [أغسطس] 2014)، وعمليّة «عمود السحاب» (14-21 تشرين الثاني [نوفمبر] 2012)، وعمليّة «الرصاص المصبوب» (27 كانون الأوّل [ديسمبر] 2008 - 18 كانون الثاني [يناير] 2009)، وهو ما يُعَدّ استمرارًا لسياسات الإبادة العرقيّة الممتدّة منذ بدْء المشروع الصهيونيّ.

أصبحت إبادة المدن عمليّة تدمير للجوانب التنظيميّة والثقافيّة للمدينة، في هجوم بيولوجيّ سياسيّ على السكّان، على المستوى المادّيّ المبنيّ والرمزيّ...

إنّ الدمار الهائل الّذي لحق بالنسيج الحضريّ للقطاع بسبب هذه العمليّات العسكريّة، إلى جانب استحالة إعادة الإعمار السريع الناجم عن الحصار، هي السمات المركزيّة لحالة الحرب الدائمة هذه في غزّة، الّتي كانت نتيجتها إبادة المدينة كنسيج حضريّ مادّيّ، ونسيج مخياليّ، وهو ما يفرض طبقة أخرى من تعريف إبادة المدن: مجموع أفعال من المفترض أن تؤثّر في حياة السكّان بطريقة لا يمكن معها لأيّ شخص تجاهل الحرب احتماليّةً ومفهومًا وشكلًا من الحياة اليوميّة. وهكذا أصبحت إبادة المدن عمليّة تدمير للجوانب التنظيميّة والثقافيّة للمدينة، في هجوم بيولوجيّ سياسيّ على السكّان، على المستوى المادّيّ المبنيّ والرمزيّ المحمّل لتلك المادّيّة.

وهنا لا يقتصر التدمير المادّيّ للبنية التحتيّة الأساسيّة للحياة الحضريّة، ليشمل المنازل والمدارس والمحلّات التجاريّة والمصانع والمستشفيات أثناء الغارات الجوّيّة. إنّه الحفاظ على القطاع في حالة من الدمار الدائم والإبادة المادّيّة، بعد الحرب الناتجة عن الصعوبة الشديدة في إعادة بناء ما دُمِّر، وبالتالي إدامة مفهوم الحرب مفهومًا يقضي على اختلاف بناء المدينة وتنوّعه وإمكانيّته. على مدى 18 عامًا، كان الإحساس بالحرب ووجودها المادّيّ جزءًا من الحياة اليوميّة لسكّان قطاع غزّة؛ ممّا يميّز بشكل لا يُمْحى كلّ جزء من المشهد الحضريّ، وبالتالي كلّ جزء من الحياة اليوميّة، مثل السكن، والذهاب إلى المدرسة أو العمل، والتسوّق. وعليه؛ فإنّ حجم الدمار هو الوجه الأوّل من إبادة المدن، وأمّا الوجه الثاني فهو عدم جدوى إعادة الإعمار.

 

الدمار وإعادة الإعمار

يتّضح الدمار الّذي تسبّبه الهجمات الإسرائيليّة بكلّ فداحة إذا ما قارنه المرء بقطاع غزّة مساحة، باعتبارها  - المساحة - العتبة الأولى لفهم المكان وما يحدث فيه. يحتلّ القطاع مساحة 360 كم مربّعًا من الأرض - أي ما يعادل ربع مساحة بلديّة روما، أو نصف مساحة برلين - الّتي تستضيف مدنًا عدّة أهمّها مدينة غزّة، وخان يونس ورفح، الّتي تشكّل مع ذلك منطقة حضريّة واحدة من وجهة نظر وظيفيّة. يسكن في القطاع أكثر من مليونَي شخص في ظروف اقتصاديّة صعبة، يزدحمون على هذه القطعة من الأرض. وقد ارتفع مستوى الفقر في القطاع من 40% في عام 2007 إلى 56% في عام 2017 وفقًا لـ «الأمم المتّحدة». في غياب الحصار والصراعات العسكريّة، كان مستوى الفقر في عام 2017 سيكون 15%، في ما معدّل البطالة أكثر من 40%.

في مواجهة الغارات الجوّيّة الهستيريّة، بترسانة نوعيّة من الأسلحة، ستكون إعادة الإعمار تحدّيًا كبيرًا؛ إذ لا يملك سكّان القطاع ومؤسّساته ما يكفي من الموارد الاقتصاديّة المحلّيّة لتعزيز عمليّة إعادة الإعمار، الّتي تعتمد بالتالي كلّيًّا على التمويل الدوليّ، وخاصّة من أوروبّا والولايات المتّحدة والدول العربيّة. وغالبًا ما تُسْتخدَم أداةً للابتزاز السياسيّ، كما أنّ القطاع لا يملك الموارد المادّيّة الّتي لا غنى عنها؛ أي الوسائل وموادّ البناء. في الواقع، تسيطر إسرائيل وترشّح وتحدّ من كلّ ما يمكن أن يدخل القطاع.

لا يملك سكّان القطاع ومؤسّساته ما يكفي من الموارد الاقتصاديّة المحلّيّة لتعزيز عمليّة إعادة الإعمار الّتي تعتمد بالتالي كلّيًّا على التمويل الدوليّ...

يشمل ذلك موادّ البناء، الّتي تحظر سلطات الاستعمار الإسرائيليّ استيرادها بحجّة إمكانيّة استخدامها لأغراض حربيّة، وقد عوّض سكّان قطاع غزّة ذلك في بعض الأحيان بالإبداع، على سبيل المثال، عن طريق استخراج موادّ البناء من تحت الأنقاض، وقد استخدموا الأنفاق لإدخال كمّيّة كبيرة من موادّ البناء إلى القطاع. ومع ذلك، من الواضح أنّ هذه الحلول لا يمكن أن تدعم عمليّة إعادة إعمار منهجيّة، وفي الوقت المناسب، بحيث يضيف كلّ قصف أنقاضًا جديدة إلى ما لمّا يُعَد بناؤه بعد، في دوّامة من الإبادة المتزايدة للفضاء الحضريّ.

 


إحالات

[1] في دراسة للباحثة المصريّة  ألفت عبد الغني سليمان، بعنوان «دور أحداث العنف والحروب في الفكر والناتج المعماريّ» (The Role of Violent Events and Wars in Thought and Architectural Output)، أوضحت الباحثة الربط العضويّ بين الحروب المعاصرة وموت العمران، يُنْظَر: ألفت عبد الغني سليمان، دور أحداث العنف والحروب في الفكر والناتج المعماريّ، النشرة العلميّة لبحوث العمران، (القاهرة: جامعة القاهرة: 2014) ع 15: https://rb.gy/fn9s1p.

[2]  تقرير أصدرته «الجزيرة» عن الدمار الحادث في قطاع غزّة: https://www.aljazeera.com/news/2023/10/13/what-infrastructure-in-gaza-has-been-damaged-since-israels-assault؛ فيما قدّمت «الإيكونوميست» خريطة توضّح حجم الدمار: https://www.economist.com/briefing/2023/10/19/mapping-the-destruction-in-gaza.

[3] يُنْظَر:

Ada Louise Huxtable, Lessons In Urbicide, New York Times, 22nd Dec, 1967.

[4]  يُنْظَر:

Marchal Berman, All That Is Solid Melts Into Air, (London: Verso, 2010).

[5]  Stephan Graham, CleanTerritory: Urbicide In Westback, Open Democracy, 6th August 2002: https://www.opendemocracy.net/en/article_241jsp/, last accessed: 20th November 2023. 

[6]  يشير مصطلح الإثنوقراطيّة إلى نوع من النظام الّذي يحفّز ويسهّل ويعزّز المبنى العرقيّ للمنظومة السياسيّة؛ أي التوسّع والسيطرة. وهو ما يظهر على السطح في المناطق المتنازع عليها؛ إذ تستطيع مجموعة عرقيّة قوميّة واحدة الاستيلاء على جهاز الدولة، وتعبئة موارده القانونيّة والاقتصاديّة والعسكريّة؛ لتعزيز المكوّنات الإقليميّة والاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة الخاصّة بتلك العرقيّة، وبالتالي يصبح الصراع على عمليّة التوسّع العرقيّ هو المحور المركزيّ الّذي يتطوّر عليه بناء العلاقات الاجتماعيّة والسياسيّة. ويحمل مصطلح الإثنوقراطيّة معنًى إضافيًّا لا يشير فقط إلى هيمنة مجموعة عرقيّة معيّنة، بل أيضًا إلى بروز العرق في جميع جوانب الحياة المجتمعيّة، بداية من اليوميّ المعيش، وصولًا إلى الأفكار الأساسيّة للمنظومة السياسيّة.

[7] Lemkin, R. Axis Rule in Occupied Europe: Laws of Occupation; Analysis of Government; Proposals for Redress, (Washington: Carnegie Endowment for International Peace, 1994), p 79.

[8] Ibid, p 79. 

[9]  بول كونرتون، كيف يغزو النسيان ذاكرة الحداثة؟ ترجمة علي فرغلي (القاهرة: المركز القوميّ للترجمة، 2016)، ص 39.

[10]  يُنْظَر:

Louise Wirth, Urbanism as a Way of Life, Louis Wirth, American Journal of Sociology, (1938) Vol. 44, No. 1, p. 190. 

[11] Ibid, p 190. 

[12] Richard Sennett, The Fall of Public Man (London: Penguin Book, 1978), p. 116.

[13]  سبق للمؤلّف نشر بحث بالعربيّة عن الخرائب والهدم في الحالة الفلسطينيّة، انظر: عبد الله البياري، عن الخراب والفراغ: محاولة أخرى لفهم الحالة الكولونياليّة في فلسطين، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، 2023، ع 134. 

[14] مع أنّ تحليل ليمكين المشار إليه سابقًا، تضمّن القضاء على البنية المادّيّة للجماعات المستهدفة؛ إذ ركّز على القضاء على اليهود في الحرب العالميّة الثانية بما هو إبادة جماعيّة، إلّا أنّ حالة اليهود ليست هي الحالة النموذجيّة في أوروبّا لفهم بنية إبادة المدن.

 


 

عبد الله البياري

 

 

 

طبيب وكاتب وباحث في مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، أكاديميّ وممارس فنّيّ.