من ذاكرة الأسر (16): بين "البوسطة" و"المعبار"../ راسم عبيدات

-

من ذاكرة الأسر (16): بين
.. هاتان الكلمتان لهما وقع سيء على الأسرى الفلسطينيين، وهما مرادفتان للذل والإهانة وامتهان الكرامة في سجون الاحتلال بالنسبة لهم. وللكثيرون منهم لهم حكاية وحكايات في"البوسطة"، وهي عبارة عن سيارات مصفحة ومحكمة الإغلاق يتم فيها نقل الأسرى الفلسطينيين من والى المحاكم الإسرائيلية، أو للنقل والترحيل بين السجون المختلفة، أو في حالات الاستدعاء إلى مراكز التحقيق الإسرائيلية. و"المعبار" هي محطة يتم فيها تجميع الأسرى من سجون مختلفة أثناء تنقلهم وترحيلهم بين السجون الإسرائيلية المختلفة ، أو ذهابهم للمحاكم الإسرائيلية.

و"البوسطة"و"المعبار" هما امتداد آخر لمسلسل التعذيب النفسي والجسدي الذي تمارسه المخابرات الإسرائيلية وإدارات السجون بحق الأسرى الفلسطينيين. وهناك حالات كثيرة اضطر فيها الأسرى الفلسطينيون، إلى القبول بأحكام تزيد عن أحكامهم بسنة أو أكثر، في سبيل التخلص من معاناة السفر بـ"البوسطة".

وسيارة "البوسطة"، مصفحة حديدياً وتفتقر لأدنى شروط الراحة، حيث ينفذ إليها الهواء، من خلال فتحات صغيرة جداّ على الجوانب، ربما تكفل للأسير البقاء بصعوبة على قيد الحياة، وبعض سيارات "البوسطة"، مقاعدها حديدية ومصممة أيضاً كجزء من عملية تعذيب للأسرى. وتكون بشكل متقابل، أو كراسي حديدية على غرار كراسي سيارات الباص، ولكن الكراسي بما فيها الأرضية تكون من الحديد.

وتقسم بعض سيارات"البوسطة" داخلياً إلى عدد من الزنزانات، ويحشر فيها الأسرى كل ستة في عزل خاص. وفي سيارات "البوسطة" تلك، وعدا عن أن كراسيها حديدية ضيقة ومتلاصقة جداً، فالأسير عندما يوضع فيها يكون مكبل القدمين واليدين، ويمكث فيها على الأقل ما بين ساعتين إلى خمس ساعات، وفي بعض الأحيان عشر ساعات متواصلة، وحتى في المحطات التي تتوقف فيها"البوسطة" لإحضار أو إنزال أسرى فإنه لا يسمح تحت أي ظرف أو سبب مغادرة سيارة "البوسطه".

وفي العديد من المرات، أصيب العديد من الأسرى بحالات إغماء وفقدان للوعي، وكذلك كثيراً ما زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر، من شدة الحر داخل هذا الصفيح الساخن، والذي هو أشبه بصفيح خزان الشهيد غسان كنفاني في رائعته "رجال في الشمس"، حيث يتلذذ طاقم "البوسطة" المسمى"بالنحشون" بعذابات الأسرى.

وبالمناسبة فإن طواقم سيارات "البوسطة"، وهم من وحدات القمع الخاصة بالسجون، يغلب عليهم الحقد والعنصرية والسلوك الفاشي والهمجي، ناهيك عن القوة الجسدية، وعادة ما يكونون من المتطرفين الحاقدين ليس على كل ما هو فلسطيني وعربي، بل وكل من له علاقة بالإنسانية والبشرية، حيث يقومون قبل صعود الأسرى إلى سيارة "البوسطة" بممارسة طقوسهم السادية، فهم من ساعات الصباح الباكر يوقظون الأسرى المتكدسين في غرفة "المعبار" والتي غالباً ما تتجاوز طاقتها بالضعفين على الأقل، حيث ترى أجساد بشرية متلاصقة متكدسة فيها، بحيث لا يبقى ممر للذهاب للحمام أو غيره، وينادونهم بأسمائهم، ومن ثم يتم تكبيل أيديهم من خلال فتحة في الباب، لا يزيد طولها عن 60 سم وارتفاع لا يزيد عن 20 سم.

بعد ذلك يخضع كل أسير يخرج من الغرفة لجولة من التفتيش الجسدي المهين والاستفزازي. وإذا ما كان بين الأسرى من سينقلون لسجن لآخر أو متجهين لمحاكم القدس أو بئر السبع وحيفا والناصرة، والنوم في "معبار" سجن الرملة، محطة توزيع الأسرى وترحيلهم على السجون الأخرى، فتخضع أغراضهم الشخصية عدا التفتيش الجسدي، للتفتيش من خلال جهاز الأشعة.

وبعدها يقوم طاقم "البوسطة" بتكبيل قدمي الأسير وتفتيشه جسدياً مرة أخرى. ولكم أن تتصورا معاناة الأسرى المرضى أو الذين يعانون من إعاقة جسدية في سيارات"البوسطة" تلك، والتي غالباً ما يتلذذ رجال "البوسطة" فيها على عذابات الأسرى، من خلال السير بسرعة جنونية، أو التوقف المفاجئ وغيرها، حيث يفقد الأسرى المقيدة أيديهم والمكبلة أرجلهم السيطرة على أنفسهم، ويتدحرج العديد منهم على الأرض أو فوق بعضهم البعض، ناهيك عن معاناة أخرى يتعرض لها الأسرى المتجهين لمحاكم القدس أو بئر السبع، حيث يحشر الأسرى السياسيون مع سجناء مدنيين، منهم اليهود والذين يقومون بتدخين الحشيش في سيارات "البوسطة".

وبسبب قسوة وفاشية وعنجهية رجالات "البوسطة"، قام أسرى فلسطينيون في العديد من المرات بضربهم، انتقاماً منهم على سوء معاملتهم وعنجهيتهم وتنكيلهم بالأسرى. وقد تعرض العديد من الأسرى إلى الضرب والتنكيل والعزل والحرمان من الزيارات وغيرها، وإلى محاكم وأحكام إضافية فوق الحكم الأصلي، بسبب ذلك.

وعند وصول "البوسطة" إلى "معبار" سجن الرملة، تقوم بإنزال الأسرى المتجهين إلى محاكم القدس والمنقولين لسجون الجنوب، بئر السبع ونفحة وريمون والنقب، أو سجون الشمال شطة والجلبوع والدامون وغيرهم، من أجل المبيت في "معبار" الرملة.

وهنا يخضع الأسرى لطقوس التفتيش من جديد، التفتيش الجسدي والتفتيش للإغراض الشخصية من خلال جهاز الأشعة، وحتى هذه المرحلة، تفك قيود الرجلين للأسير، مع البقاء مقيد اليدين بقيود حديدية انجليزية، تجعلك تشعر بالعذاب والذل والمهانة في كل لحظة، ولا تفك هذه القيود ،إلا بعد إدخال الأسير إلى "الإكس". و"لأكس" جزء من مجموعة" إكسات" عددها عشرة" تشكل"المعبار"، وكل "إكس" مساحته لا نزيد عن 8 أمتار مربعة، بما فيها المساحة المخصصة للمرحاض والحمام، وفيها أربعة أسرة، على نمط الطوابق، وفي أغلب الأحيان يحشر فيها ما لا يقل عن ستة أسرى.

ناهيك عن عدم القدرة على الحركة والنوم في هذه الاكسات، فالصراصير ضيف دائم فيها، وأغلب الأحيان تمضي الليل في تسليك"المجاري والمراحيض"، حيث تتخوف من فيضانها إلى داخل "الأكس" فيضطر الأسير إلى السباحة في مياه المجاري، كما حصل معي ومع العديد من الأسرى في أكثر من مرة وحادثة، وأنت لا تستطيع النوم بالمطلق في "المعبار"، فعدا عن شروطه الحياتية المذلة والمهينة والمفتقرة لأدنى الشروط الإنسانية من رطوبة وعفونة، كونه موجود تحت سطح الأرض، ولا تصل إليه الشمس بالمطلق، فالمساجين المدنيون اليهود وحتى العرب، يصرخون طوال الليل أو يتكلمون ويغنوّن بشكل متواصل وصاخب، ناهيك عن أصوات مفاتيح السجانين وطرقهم على الأبواب، أبواب "الإكسات" وإجراء عمليات العد للأسرى المتواصلة، وكذلك عدم توفر الفرشات والحرامات للنوم، يزيد من معاناة الأسير وشعوره بالذل والمهانة.

وختاماً أقول إن "البوسطة" كجسم والتنقل فيها، وكذلك غرف "وإكسات المعبار"، هي جزء من طرق وأساليب التعذيب التي تمارسها المخابرات الإسرائيلية وإدارات السجون بحق الأسرى الفلسطينيين، من أجل كسر إرادتهم ودفعهم لليأس والاستسلام، وهذه الممارسات المهينة والمذلة بحق أسرى شعبنا الفلسطيني، يجب العمل على تعريتها وفضحها باستمرار، وناقوس خطر يجب أن تتنبه له السلطة الفلسطينية أولاً ، قبل غيرها، بأن نهج التفاوض من أجل التفاوض والمفاوضات العبثية لن تنهي معاناة أسرانا، ولن تحررهم من السجون والمعتقلات الإسرائيلية، ولا بد من بحث عن أساليب وخيارات أخرى لتحريرهم بعزة وكرامة.

التعليقات