من ذاكرة الأسر..(3)../ راسم عبيدات

-

من ذاكرة الأسر..(3)../ راسم عبيدات

عند الحديث عن القائدين المناضلين محمد زياده أبو منصور والملقب "بالمنص"، ومخلص برغال من مدينة اللد المحتلة عام 1948، فإنه لا يسعك إلا أن تقف أمامهما، وقفة عز وافتخار واحترام وتقدير، فهما يختزنان من المعنويات والطاقات والشحنات الثورية والقناعات النضالية وصدقية الإنتماء، ما يوزع على كل الأسرى المناضلين، وخصوصاً أن هذين الأسيرين القائدين، من مناطق فلسطين المحتلة عام 1948.

فهما يحملان فوق هموم أسرى شعبنا في 1948، هموما وأعباءا إضافية، حيث الإحتلال يستثني أسرى الـ 48 من أية صفقات إفراج، والسلطة تنازلت طوعاً عن حقها بالتكلم باسمهم، وفي الفترة التي أعتقل المناضلان فيها قبل أكثر من عشرين عاما ، كان المنتمون لفصائل العمل الوطني الفلسطيني لا يتجاوزون أصابع اليد الواحد.

ألمناضلان هما بحق رائدان للعمل الوطني والقومي في مدينة اللد، وخاضا معارك عز وفخار متعددة الأشكال ضد تهويد المدينة وأسرلة سكانها، كما كانا داعيين ومحرضين لنشر الوعي الوطني والقومي والفكر التقدمي بين أبناء مدينة اللد، وفي المدن والبلدات العربية المجاورة. وكانا من المبادرين لتأسيس اللجان الطلابية والإطار النسوي التقدمي في مدينة اللد. كما انهما شنّا حملة شعواء على الذين يحاولون إسقاط مدينة اللد في براثن وقبضة تجار المخدرات وناشري الفسق والرذيلة، وبمعنى آخر تجهيل السكان العرب، وإغراقهم في دوامة الصراعات العشائرية والقبلية والجهوية، وتدمير وهتك النسيج المجتمعي، وإفراغ السكان العرب من أي محتوى وطني وقومي. وعليه، أدرك الإحتلال انهما يشكلون مخاطر جدية على أهدافه ومراميه ومقاصده، علما أن النظرة الإسرائيلية إلى أبناء شعبنا في الثمانية وأربعين، أنهم سرطان يجب إجتثاثه وإقتلاعه، وأنهم قنبلة ديمغرافية يجب التخلص منها بالطرق المشروعة وغير المشروعة.
إننا نلحظ في هذه المرحلة والتي يتزايد ويتنامى فيها الحس والوعي القومي والوطني عند أهلنا في 1948 ، وتتصاعد الهجمة الإسرائيلية بشكل غير مسبوق عليهم، وما جرى مع النائب عزمي بشارة، وما يجري بحق قادة الحركة الوطنية والإسلامية وفي مقدمتهم الشيخ رائد صلاح، يندرج في هذا الإطار والسياق، وأبو منصور ومخلص برغال، بالحتم نظراً لمواقفهما ورؤيتهما سيكونان ضمن الإستهداف لجهاز "الشاباك" الإسرائيلي، وبالمناسبة فإنه باعتقالهما وحكمهما الرادع والقاسي جداً، حيث حكما بالسجن المؤبد، لمجرد إلقائهما قنبلة يدوية على باص للجيش لم تنفجر، فالإحتلال أراد من خلال هذا الحكم القاسي ، أن يوجه رسالة إلى كل أبناء شعبنا في 1948 ،أن من يلتحق منهم بفصائل العمل الوطني الفلسطيني ، فإن ما ينتظره ليس الحكم القاسي ، بل أنه سيتعرض لسلسلة من الإجراءات العقابية على المستوى الشخصي والأسري، تطال سحب الجنسية، وهدم البيت وملاحقة الأسرة والعائلة والتضييق عليهم في في القضايا المعيشية والخدماتية وحرية السفر والتنقل وغيرها .

وللحقيقة يا أخوان لا أظن أيا من قادة وكوادر الحركة الأسيرة وإدارات السجون لا يعرفون أبو منصور ومخلص برغال، وأبو منصور الذي تجاوز عقد الخمسينات، والذي تعرفت عليه في سجن شطة في عام 2001 ، وأعدت الألتقاء به مرحلاً في سجن عسقلان عام 2006، فعدا عن صلابته البنيوية، فهو صلب المواقف والمبادىء، رغم أن رطوبة السجن والأمراض قد فتكت بجسمه، حيث يعاني من السكري، والشيء الذي يعرف عن أبو منصور، انه دائم الطبخ تحت شعار السكري، فهو يقول يا إخوان أنا أطبخ الشوربات، وفي الشوربات يجيز لنفسه كل شيْ، وبعد ذلك تراه يشرب الكولا "الدايت". وأبو منصور لا يغادر جدران الغرفة أو يبرحها إلا للضرورة القصوى، أو لشق عصا ترحاله لسجن آخر. وكأن بينه وبين الترحال "وبوسطة" السجن عشق أبدي. فرغم أن المعتقلين أكثر ما يكرهون هو السيارة الزنزانة "البوسطة"، عدا عن أن كل العنصرية والفاشية تتجمع في طاقمها، ويكبل المعتقلون فيها بأياديهم وأرجلهم، بالإضافة لإفتقارها لأدنى شروط نقل البشر، حيث تبدو كالقبر، وهي مخصصة لتكمل دورة التعذيب. وأبومنصور هذا صاحبنا مستشار قضائي وقانوني لكل أبناء الحركة الأسيرة، وكذلك لحقوق الأسرى، فكل من يريد من الأسرى أن يرفع شكوى على إدارة السجن مثل إدخال وإخراج أشياء قانونية للأسرى ترفضها إدارة السجن أو تماطل بها ،يتوجه "للمنص" والذي يصوغ له دعوى يعجز عن صياغتها أي محامي مختص. "فالمنص" أصبح خبيراً في قوانين السجون، ومن يريد ان يرفع شكوى على إدارة السجن للإنتقال من سجن لآخر "فالمنص" جاهز، "والمنص" عندما يجد من لا يرفع شكوى من المعتقلين، يبدا برفع شكاوي في القضايا العامة ،مثل النقص في كمية الأكل ونوعيته ،أو النقص في مواد التنظيف وغيرها.

وهكذا ترى "المنص" مساءاً في سجن وصباحا في سجن آخر، حتى ان أسرته أصبحت لا تتمكن من زيارته أكثر من مرة في الستة شهور. فأبو منصور تجده إما مرحلاً من معتقل لآخر أو معزولاً.

وأبو منصور هذا يحتفظ بروح شباب دائمة، فرغم كل الذي حصل وما جلبه أوسلو من دمار على الحركة الأسيرة، وما قامت به إدارات السجون من قمع وعزل لمعتقلي 1948 ،ووضعهم في أقسام وسجون خاصة، إلا أنه بقي متجذراً في إنتمائه ومبادئه وقناعاته، أكثر من أي شبل.

أسرة "المنص" أسرة عريقة في النضال، حيث أنها بإعتقال "المنص" لأكثر من عام لم تجد بيتاً تأوي إليه .

أما رفيق دربه مخلص برغال ، فقد رافقته من "معبار" سجن الرملة ، حيث كنت مرحلاً من سجن نفحة الصحراوي عام 2002 إلى سجن شطة في شمال فلسطين ، وكان هو عائدا لسجن شطة من رحلة علاج في مستشفى سجن الرملة.

ومخلص هذا يبدو أنه إسم على مسمى، فهو مخلص لشعبه ولحركته الأسيرة ، وهو أبرز عناوينها النضالية، وهو الذي كان يتعرض لعقوبات إدارات السجون وقمعها من حرمان للدراسة في الجامعة إلى العزل والنقل القسري. ولعل كل أبناء الحركة الأسيرة في كل المعتقلات، يتذكرون الموقف المشرف للأسير القائد مخلص برغال، عندما هاجمتهم القوات الخاصة في غرفة 13 في سجن عسقلان في عام 2000 ، في ذروة هجومها على الحركة الأسيرة لكسر شوكتها وإذلالها وسحب كل المنجزات والمكتسبات منها، حيث أن القوة المهاجمة المدججة بالهراوات والدروع ومدافع الغاز والرصاص المطاطي، عبثاً كانت تحاول إقتحام الغرفة، حيث أن مخلص وكوكبة من الأسرى المناضلين ، تصدت لهم بكل ما وقع تحت أيديها من معلبات وأدوات تنظيف، ويومها أصيب المناضل مخلص بكسر في فكه والمناضل عماد عصفور المريض بالقلب بحالة إختناق شديد كادت تودي بحياته، وهذه شهادة للتاريخ لهذا المناضل الذي لم يخذل أبناء حركته الأسيرة أبداً، والذي لم يدفع الثمن على الصعيد الشخصي، بل والأسري والعائلي كذلك، حيث أن العائلة كانت تلحق به من سجن لآخر من أقصى شمال فلسطين إلى أقصى جنوبها للزيارة.

ومخلص هذا المناضل حاد المزاج ويقلبها ثورة لأتفه الأسباب، ومخلص من المناضلين الأقحاح الذين يتصدون لإدارات السجون والتي حاولت شق وحدة الصف الوطني والإسلامي الإعتقالية، ليس فقط عندما عزلت أسرى 48 في أقسام وسجون خاصة، بل عندما حاولت من خلال بعض مرضى النفوس، أن تبلغهم رسالة، بأنه إذا ما تخلوا عن تنظيماتهم، فإنها ستمنحهم تسهيلات وإمتيازات. إلا أن مخلص والأغلبية الساحقة من الأسرى قالوا لا قاطعة لمثل هذه الألاعيب والتخرصات.

ويبقى أبو منصور والبرغال رمزين وقائدين للحركة الأسيرة، وهما واثقان أنه رغم كل السنوات العجاف التي مرت بها الحركة الأسيرة ،فإن الشرفاء والمخلصين من أبناء شعبنا الفلسطيني والأمة العربية أمثال الشيخ حسن نصر الله، لن يخذلوا هؤلاء المناضلين الذين قدموا واجبهم ودورهم الوطني، ليس دفاعاً عن فلسطين فقط، بل دفاع عن شرف الأمة جمعاء، فهل من مجيب ؟

التعليقات