من ذكريات المعتقل يرويها مروان شاهين - الشيخ فضي..

-

من ذكريات المعتقل يرويها مروان شاهين - الشيخ فضي..
.....الصدمة كانت كبيرة والهزيمة أكبر، والرهان على العرب في تحرير فلسطين سقط، وشعارات "تجوع يا سمك" و"بأسنانكم وأظافركم" ضيعت فلسطين من نهرها إلى بحرها، والشعب الفلسطيني وفصائله قرروا وأيقنوا أنه لا "يحرث الأرض إلا عجولها"، والشاب مروان شاهين المفعم بالحيوية والنشاط ابن التسعة عشر عاماً، والذي شاهد سقوط مسقط رأسه مدينة القدس بطريقة مخزية ومهينة، والتي حاول الدفاع عنها، ولكن ما لديهم هو وصحبه من أسلحة وذخائر غير متجانسة وقلة الخبرة والتدريب لم تنجح في إنقاذ المدينة..

ويؤسر مروان ومعه عدد كبير من شباب ورجالات القدس، ويتم تجميعهم في ساحة الأقصى.

يقول مروان بمرارة عن حالة الجهل وقلة الوعي والتجربة والتي كانت موجودة بين الشعب عامة في تلك الفترة "جمعونا في الساحة وألقى ضابط إسرائيلي خطابا فينا.. وخلال الخطاب قال بتبجح: هللا أجاني خبر أن قواتنا احتلت يريحو".. وبدلاً من أن نحزن أو نشتم هذا الضابط ونلطم على وجوهنا وصدورنا بدأنا بالتصفيق.

ويتابع مروان: أنا لا أصدق أن مدينتنا سقطت بتلك السهولة.. لا بد من مقاومة ومقارعة الاحتلال حتى نستعيد وطننا، والشباب في تلك الفترة كان مستعداً للالتحاق والعمل مع أي فصيل من فصائل المقاومة، ولم نكن نعرف الهوية الفكرية أو الخط السياسي لهذا الفصيل أو ذاك، بل المهم أن نلتحق بالمقاومة.. فانتظمت في منظمة "أبطال العودة" إحدى المنظمات التي تشكلت منها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لاحقاً، وكنا بالأساس في تلك الفترة نركز على العمل العسكري والكفاح المسلح واللذين كانا في عنفوانهما في تلك الفترة.. وشاركنا في أكثر من عمل، وعشت فترة مطاردة في جبال الخليل في كهوفها ومغرها، وكانت الجماهير في تلك الفترة حاضنة حقيقية للثورة، تحرص على الفدائي حرصها على حدقات عيونها، وكانت ترى فيه الأمل والرد على الهزيمة وعنوان عزتها وكرامتها.

ويستطرد مروان بالقول كانت علاقتنا كمطاردين من أطياف سياسية مختلفة تعلو فوق لغة الفصيل أو الحزب وكنا أسرة واحدة فلسطين قبلتنا وهدفنا ووجهتنا.

ويضيف الشيخ فضي.. في يوم من الأيام طوقت قوات كبيرة من الجيش الإسرائيلي تساندها المروحيات المنطقة التي نختبئ فيها في جبل الحاووز"البصة"، وتمكنوا من اعتقالي حيث تم نقلي بطائرة مروحية إلى سجن الخليل. وهناك تعرضت إلى شتى أنواع التعذيب، والتي كانت في تلك الفترة تركز على التعذيب الجسدي أكثر من النفسي، وخضعت للتحقيق في سجن الخليل والمسكوبية وأبو كبير لمدة قاربت الشهرين، ومن بعدها نقلت إلى سجن الرملة وحكم على بالسجن مدى الحياة.

وكانت أوضاع الحركة الاعتقالية والسجون في بداياتها غاية في السوء والصعوبة، والسجون تفتقر إلى مستلزمات الحياة الأساسية، وكميات الأكل غير كافية لا كماً ولا نوعاً.

وفي هذا السياق يروي مروان: كنت أعمل في المطبخ، وكان عدد من الأخوة والرفاق يعملون في النظافة منهم الرفيق صلاح أبو قطيش، كنت أهرّب لهم الأكل من خلال وضعه في "كرادل" القمامة، حيث يقوم الأسرى بنبشها واستخراج أكياس الأكل التي أضعها لهم.. وأيضاً كان يعمل في المطبخ كل من الأخ المرحوم سعيد الددو والرفيق سليم نسيبة، حيث كانوا مسؤولين عن أكل المرضى"الديتا".. وكان الرفيق سليم ولكي يسد رمق جوعه يسرق بيضتين من المطبخ ويشربهما..

ويتابع فضي: شاركت في سنوات اعتقالي السبعة عشر من عام 1968 وحتى فترة تحرري من الأسر في صفقة التبادل أيار/ مايو 1985 في العديد من الإضرابات منها إضراب سجن الرملة شهر شباط 1969 وإضراب سجن نفحة الشهير 14/7/1980.

وعن سجن نفحة والإضراب يقول الشيخ فضي إن هذا السجن أقيم في صحراء النقب، لكي يكون مقبرة للإحياء والموت البطيء والتفنن في إذلال الإنسان وامتهان كرامته.

ويضيف أن إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية قامت بنقل 80 مناضلاً فلسطينياً من مختلف السجون إلى هذا السجن ممن تعتبرهم النواة الصلبة، والذين يتصدرون ويتزعمون الحركة الأسيرة.

"أنزلونا من سيارة البوسطة كل إثنين سوية، وكانت مجموعات من الجنود تصطف على الجانبين ومعهم كلاب بوليسية، وكانوا يصرخون علينا وكلابهم تحاول الهجوم علينا.. وطلبوا منا أن نخلع ملابسنا، وعندما بقينا في ملابسنا الداخلية، أصروا على خلعها فرفضنا وحاولوا خلعها بالقوة، وهنا صرخ علينا المناضلون الذين سبقونا إلى الساحة بضرورة الخلع وعدم التصادم معهم الآن.. لكي نجد بعد الخلع أنهم قاموا برش أجسادنا بمادة شبيهة بالبودرة، قالوا لنا لنا إنها ضد القمل.. وعندما وصلنا إلى الساحة عراة كان منظراً مضحكاً مبكياً، والكل يحاول ستر عورته بيديه".

ويضيف فضي: عندما دخلنا السجن كان يفتقر إلى كل مقومات الحياة البشرية، حيث العقارب والأفاعي وغيرها من الحشرات، وقلة ورداءة الطعام، بالإضافة إلى القمع والتفتيشات والاستفزازات المستمرة والمتواصلة من إدارة السجن والسجانين.. واحتجاجا على ذلك خضنا إضرابا مفتوحاً عن الطعام استمر 34 يوماً، استشهد خلاله الأسيران راسم حلاوة من مخيم جباليا في غزة، وعلي الجعفري من مخيم الدهيشة في بيت لحم.. وقد استشهدا وإدارة السجن تحاول كسر الإضراب بالقوة، وكانت تجبر الأسرى على التغذية بالقوة من خلال التغذية الفمية بالأنابيب.. ونقلوا عددا من الأسرى المضربين عن الطعام إلى مستشفى سجن الرملة، حيث مارسوا طقوسهم السادية عليهم.

ويقول فضي هنا أنه لولا حالة التضامن العالية من شعبنا وأهلنا في الخرج ولولا صمود أسرانا لسقط عدد كبير من الشهداء، ويضيف أنه في هذا الاضراب لم يستشهد فقط الجعفري وحلاوة، بل انضم إليهم الرفيق اسحق مراغة "أبو جمال" والذي استشهد من تأثيرات ذلك الإضراب في شهر تشرين ثاني/ 1983.

وعن العلاقات الاعتقالية في ذلك المعتقل، يقول فضي إن الأسرى كانوا أسرة واحدة وعائلة واحدة، حيث غابت الفئوية والحزبية في سبيل المصلحة الوطنية والعامة.

والشيخ فضي والذي جمعتني به علاقات صداقة وعمل روي لي بعض"القفشات" التي حدثت في المعتقل، كما وسأروي لكم عدد من"نهفاته" خارج المعتقل.

والحديث هنا للشيخ فضي يقول: كنت غير مغرم أو مولع بالجلسات، حيث كنا نتلقى في ثلاث إلى أربع جلسات يومية تنظيمية وسياسية وفكرية عدا التعاميم. وفي يوم من الأيام جاء الرفيق المسؤول جبريل عوض وطلب مني أن أكتب موضوعة عن هيئة الأمم، وقلت له"شو بتحسابني خريج اكسفورد"..

وفي سياق آخر يقول عندما انتقلنا من سجن الرملة إلى سجن بئر السبع، ولكي يحثني الرفيق الشهيد "أبو جمال" على حضور الجلسات، قال لي يا شيخ فضي هذا ليس سجن الرملة، هنا الرفيق أو المناضل الذي لا يحضر جلسات يقولوا أنه إما محقق معه أو عميل.. فقلت له يا رفيق أبو جمال لا أريد حضور الجلسات، وليكتبوا عني "عميل" على كل جدران السجن.. وكان هناك رفيق آخر لا يميل إلى حضور الجلسات مثلي هو الرفيق عبد القطب، سألني هل تحضر جلسات، قلت له طبعاً أربع جلسات، وليكتشف لاحقاً عدم حضوري، وبالمناسبة أصيب بأزمة قلبية في المعتقل، وكان يقول إن ذلك له علاقة بالجلسات.

والشيخ فضي على درجة عالية من البساطة والمثالية، وأحياناً تحس وتشعر بأن درجة نقائه وانتمائه وإخلاصه قد اختفت في هذا الزمن.. فعندما جاء أوسلو وكان الأسرى يتسابقون من أجل نيل الرتب والنياشين والرواتب مقابل سنوات السجن التي قضوها، نأى الشيخ فضي بنفسه عن ذلك.. حتى عندما تم تخصيص راتب دائم للأسرى الذين قضوا خمسة أعوام فما فوق، كان الشيخ فضي يشعر بالخجل، بأن يتلقى راتبا أو معاشا مقابل واجب وطني، ولكن الحاجة وتخلى الثورة عنهم دفعته لذلك..

وفضي الذي يعمل حارساً في جمعية الشبان المسيحية/ القدس، عندما تتحدث معه تشعر أن الزمن عنده متوقف منذ وجوده في المعتقل، والمعتقل وطول المدة أوجدا له حالة من النسيان.. فعلى سبيل المثال كان يقود مركبة ذات يوم وأنا أرافقه في الرحلة، وفي الطريق شعر أن البنزين ينفد من السيارة ودخلنا إلى المحطة لتعبئة البنزين، والنتيجة كما دخلنا خرجنا، حيث أن الشيخ أخذه الكلام مع صديق ونسي الهدف الذي من أجله دخلنا المحطة..

وفي حادثة أخرى طلبت من الشيخ باعتباري مسؤولا عنه وظيفياً وهو عامل صيانة أن يقوم بتركيب جسر للبرادي في قاعة المؤسسة، وبعد ساعة عدت إليه ولم يكن قد ركب الجسر بعد بحجة أنه لا يوجد كهرباء أو المقدح لا يعمل، والمسألة كانت يا أخوان أن الشيخ قام بقطع الكهرباء من الأمان – أي المفتاح الرئيسي..

وهناك عشرات"القفشات" على صديقنا الشيخ، والذي في طيبته وإخلاصه أضحى عملة نادرة في هذا الزمان، ويبقى الشيخ وأمثاله من رواد العمل الوطني والكفاحي وحرسه القديم، وبجهودهم وتضحياتهم حققت الحركة الأسيرة الفلسطينية الكثير من المنجزات والمكتسبات.

التعليقات