من كتاب مدفن الأحياء / وليد الهودلي

-

من كتاب مدفن الأحياء / وليد الهودلي
كانت رحلةً عظيمة .. كأنّها جرَت من عالم الأموات إلى عالم الأحياء .. و رغم ما فيها من قسوةٍ و مرارة فلقد كان لها حلاوة لا أزال أجدها في قلبي .. كلما تذكّرت تلك الرحلة غبت في آفاقها الواسعة و آمادها البعيدة .. فأخرج مما أنا فيه بلا استئذان .. أغيب عن كلّ شيءٍ مستذكراً آثارها الدائمة .. أقذِف نفسي في أحضانها الجميلة .. أنطلق بمشاهدها الخلاّبة و أذوب في فتنتها بلا ضوابط .. مسافة هذه الرحلة لا تزيد عن خمسة كيلومترات و لا تسرق من الوقت سوى ربع ساعة .. و في نفس الوقت أعترف أنها سرقت من وقتي و لا تزال تسرق عشرات بل مئات السّاعات .. لبست في هذه الرحلة القصيرة / الطويلة لباس رجال الفضاء .. فسخاء الطبيعة و زخم المشاهد المتسارعة على بوابة قلبي تحتاج إلى الأكسجين الذي يكفي لتحميض هذه الصّورة .. لذلك فإنهم وصّلوني بجرّة أكسجين عاتية ضمّوها للوفد المرافق لي ..

و بعد أن اجتاحتني الصورة المخيفة في مشعوذة السجن / "العيادة" التي أمضيت فيها أربعة عشر يوماً و أنا أتقلّب بين مشاهدها المرعبة .. كنت حبيس غرفة مظلمة .. رطبة ، مكتظة بالروائح العفنة .. تشمُّ منها رائحة الموت .. تُطبق على أنفاسي من كلّ جوانبها .. الهواء راكد ، ساكنٌ لا حياة فيه .. الباب مغلق و الشبّاك مفقود .. فتحة صغيرة في الباب .. تفتح و تغلق كلّما أرادوا أن يتفقّدوا أرواح هذه الأجساد .. إن كانت لا تزال متعلّقة أم صعدت إلى بارئها في السماء .. كانت قبراً يوضَع فيه الأحياء .. حالة من الضّياع .. رماديّة اللون و تستطيع أن تقول لا لون لها .. ماذا سيجري لك في هذه الغرفة السحيقة .. فالداخل فيها مفقود و الخارج منها مولود ، هذا إن قُدِّر له الخروج . حظْر تجوّلٍ طويلٍ فرضته "المشعوذة" على حركاتي و سكناتي .. و ذاك النطّاس البارع استأصلني من السجن كما يستأصل الزائدة الدودية ثم ألقى بي في أدغال طِبّه الأسود .. كنت في حالة صعبة داهمني ضيق النفس فأفرغَ صدري من الهواء و جعلني كمن يغرق تحت الماء .. كان الطبيب لي بالمرصاد .. أحاطني بعنايته الفائقة فوضعني تحت الإشراف المباشر ، بعيداً عن الشمس و بعيداً عن أعين الحسّاد .. تمنّيت العودة إلى غرفتي في السجن .. وجدت أنه أرحم من هذه الحجرة اللّعينة القابعة في طرف هذه "المشعوذة" .. وقّعت على أوراق الخروج من "مدفن" العيادة على مسؤوليّتي الخاصة فموتي عند أخوة النضال و رفاق الأسر أفضل ألف مرّةٍ من كلّ لحظة موتٍ أعيشها حبيساً في ما يسمّى بالعيادة عند هؤلاء المشعوذين المهرة ...

لم يقدّر لي العودة إلى السجن ، فبعد خروجي من المدفن و أنا أُناوِر الطبيب الذي بدا كرئيس كهنة ، داهمتني أمواجٌ هوائية باردة .. نفث المكيّف المعلّق فوق رأسه هواءه الثقيل .. فملأ صدري الخاوي .. شعرت و كأنّ معركةً حمِيَ وطيسها بين الهواء المتعفّن الذي احتلّ مواقع استراتيجية أثناء وجودي في تلك الغرفة اللّعينة ، و بسبب الهواء الجديد الذي حاول السيطرة على الموقف و فرض نفسه بالقوة .. لم تحتمل أرض المعركة هذا الصراع ، فلم أستطع الصمود و شعرت بالاختناق .. تكوّمت على بعضي و سقطت على الأرض كتلة لحمٍ زرقاء تصرخ من شدة الألم .. أطلقت آخر صيحاتي قبل أن أفقد الوعي و كأنّي أُعلِن نهاية آخر مشهدٍ من مسرحية حياتي .. لا أَدري كم مضى من الوقت .. أتذكّر أن صوَراً جاءتني تتراكض .. رأيت أمي ، أبي ، أخي ، و أخواتي .. و كأنّي في حالة وداعٍ نحو عالم مجهول .. ثم رأيت الأشباح من حولي .. فيما حفنة الكهنة يهيّئون رجل الفضاء .. أنبوبة الأكسجين .. إبر و برابيش .. شعرت عندها و كأنّي على سطح القمر أفقد الأكسجين .. أتابع أنفاسي بسرعةٍ و أبذل الكثير لأحصل على القليل .. حملوني إلى سيارة الإسعاف بعد أن قيّدوا يديَّ و رجليَّ .. هناك خوفٌ من حالة انعدام الجاذبية على سطح القمر فأطير من بين أيديهم .. و كما قلت فقد زوّدوني بما يلزم لتحميض الصور .. إنها فرصتي العظيمة لأسترقَ النظر .. إنها المرّة الأولى التي أخرج بها من السجن منذ ثماني سنوات .. تناسيت آلامي و تعاليت على جراحي .. رفعت عينيّ أنظر .. التقطت الصورة الأولى و رحت أصول و أجول في عالمها .. كانت الصورة الأولى : عمليّة ولادة قيصرية .. صورة خروجي من رحم الغول الذي سأعود إليه ثانيةً .. متى يكون الخروج الأخير ؟ .. الله كريم !! هنا سيقف الأَهل بجانب سيارتهم لاستقبال ابنهم بعد خمسٍ و عشرين سنة و قد يريد الله أمراً آخر .. هناك أمّي تنتظر الساعات الطوال لزيارة فلذة كبدها .. أنا ، لقد أشعلت حبستي الشيب في رأسها .. كم دمعةً نزلت و هي تشكو ربّها ظلم هؤلاء الأوغاد و هم يتفنّنون في وضع العراقيل .. و فرض شروطٍ مذلّة ترضخ لها أمي و يطأطئ لها أبي رأسه كي يحظوا برؤية ابنهم ..


شارعٌ متحرّك .. سيارات تسابق بعضها بعضاً في سباقٍ مجنونٍ .. حياة متحرّكة على العكس تماماً من حياة السجن الراكدة ، رجالٌ يقودون تلك السيّارات يختلفون عنّا .. لهم أشكال جديدة .. ذقونٌ ناعمة و شعرٌ أملس كشعر النساء في ألبسة مضحكة ثمّة بقع صفراء و خضراء تتوزّع على قمصانهم .. يضعون نظارات دقيقة كأنها خطّطت على العين بقلمٍ رفيع .. هل هم في "فورةٍ" حوَل الدّوار ؟! إِنهم يدورون كما ندور في السجن .. لكن أحدهم يدور دورة واحدة ثم يمضي مسرعاً في أحد الخطوط المتفرّعة .. أما نحن فندور و ندور كالبرغي الذي أُفْنِي سنّه .. "البايص" رفعت عينيّ و سحبت صورة ثالثة .. حدائق من الورد الأحمر و النبت الأخضر لا أدري ما هو اسمه .. إنه مدخل مدينة عسقلان .. زيَّنوه بالورد .. لا بدّ و أنّ هذا الأحمر القاني قد سقوه من دمائنا .. أما ذاك الأخضر القاتم فإنهم أشبعوه من الهواء الذي صادروه من صدورنا .. كلّ شيءٍ يتنفّس .. ترفع الأشجار أعناقها عالية و تتنفّس .. ينفثون عليها دخان سياراتهم و لا تأبه بهم .. تماماً كما يفعلون بنا .. يضربونَنا بقنابل الغاز .. و لا نتأثّر ، تبقى أنوفنا شامخة ، نموت واقفين و لن نركع ..

أعترف الآن أنهم ، بعد تراكم و تكدّس نتائج هجماتهم الغازية أو النازية على الأجساد في ذاك العالم الضيّق بعد أنْ وقعت فريسةً للضعف الجسدي رغم بقاء الروح شامخة محافظة على مكانتها السّامقة ...

قد تذبل بعض تلك النباتات الطيّبة كالتي رأيتها على حافة مصبّ مداخن تلك الدواب التي تمشي على عجلات ..

كانت بداية مرضي هذا إثر تعرّضنا في سجن عسقلان إلى حملة قمعٍ همجيّة سنة 1992 .. هذا العام الذي انفجر فيه السجن غضباً و ألماً كانفجار قنبلة .. بعد أنّ ضغطوه بسياساتٍ قمعية .. سياسات سحقٍ و استهدافٍ و إذلال .. عندئذ فتحوا "خراطيم" عبوات الغاز المسيّل للدموع و المذهل للأعصاب .. أحدث ما وصلت إليه عقول الإجرام .. كانت فيها كثافة الدخان تفصلك عن كلّ شيء حولك فلا ترى أبعد من أنفك .. سجيناً في سماءٍ بيضاء من الدخان و الغيوم .. كنّا فقدنا أعصابنا و جثونا تحت الأبراش ساجدين .. سجد معنا شعار (نموت واقفين و لن نركع) .. دوّخته كثافة الغاز التي لا ترحم .. كان هذا اليوم بداية الشيخوخة المبكّرة التي غزت رئتاي ...

خطفت صورة رابعة .. ندَّت مني ابتسامة عندما رأيت سيارةً و قد انطفأ محرّكها و تجمّع عليها الناس يدفشوها علَّها تشتغل من جديد .. تذكّرت أول سيارةٍ اشتراها أبي .. غشّوه فكانت لا تشتغل إلا بالدفش و "التعشيق" .. حتى هذه السيارة انقطع نفسها .. تذكّرت حالي بالأمس و حالي اليوم .. حال هذه السيارة الحديثة التي تنطلق بخفَّه و رشاقة و أين هذه السيارة التي ينتظر الناس سماع "جعيرها" بعد أن قُطعت أنفاسها .. كان لي جسداً يناطح السحاب بهمّةٍ و عنفوان تشهد لها ساحات التدريب .. كنت قد اكتنزت من القدرات ما يجعلني من أوائل الصفوف .. أستيقظ في الصباح الباكر و أبدأ يومي بنشاطٍ جذّاب .. أحثّ بنشاطي غيري من الشباب .. كنت بمثابة الدينامو الذي يمدّ الآخرين بالهمّة و الحيوية .. أقودهم إلى الساحة حيث تدريب الكاراتيه و ألعاب القوى المتنوّعة .. أما اليوم فها أنا كتلك السيارات .. "اللي بحبّ النبي يزقّ" ..

كهلٌ أنا الآن رغم أني مازلت في بداية شبابي .. روحي الشابة التي لا تزال بفضل الله أحتفظ بها لا تقدِر على تحمّل أكثر من تلك الأربع و خمسين كيلو غراماً مما تبقّى من لحمٍ و عظم .. بداية تراجع جسدي كانت عندما شعرتُ بالتعب في الدقائق الأولى للساعة الرياضيّة الصباحيّة .. كنت أتحامَل على نفسي و أُجبرها على الاحتفاظ بالمكان المتقدِّم من الطابور .. تضعضعت أنفاسي .. تراجعت "مكرها أخاك لا بطل" .. صفاً وراء صفّ إلى أن بِتُّ محسوباً على طابور "الديتّا" ، طابورٌ فرعيّ للركض لذوي القدرات المحدودة تحت قيادة أحد كبار السن .. لم أكنْ أُعير الأمر أيّ اهتمامٍ جِدّي .. بتواضعٍ شديدٍ و رغم قساوة الأمر تراجع نشاطي الرياضيّ .. برَّرت لنفسي هذا التباطؤ .. رطوبة جدران السجن المستنقع الصناعيّ الذي أُغرِقْنا فيه و كذلك التغذية السيئة التي نتلقَّاها باتت تترك أثراً في أجسامنا ..

أفقْتُ من صورة السيارة المقطوعة الأنفاس و خطفت أخرى .. دخلنا شارع المستشفى المطلوب .. يا للهول .. رأيت نهاية الشارع على مرمى البصر ؟؟ رأيت البحر .. من بعيدٍ رأيت زرقته الصافية .. الأمواج التي تتكسَّر في حضن الشاطئ الدفيء .. تأتيه راقصةً كطفلٍ مدلَّل .. تحني عنقها و تستلقي في حناياه .. تخلِّف وراءها عناء سفرها الطويل و تنام نومة هانئة .. لا شكّ أنها تتنفّس الصعداء .. تملأ رئتها لتعود إلى رحلتها من جديد .. أيستطيع هذا المستشفى أنّ يملأ رئتيّ من جديد ؟! .

هواء البحر يملأ فناء الفضاء الرحب الفسيح .. و لكنّهم هناك و على مسافة قصيرة يصادرونه .. يحشرون الناس في الغرف الضيّقة .. وقفت السيارة على باب المستشفى .. حملوني عبر ممرٍّ محفوفٍ بالشجر .. و أيُّ شجر .. وجدت نفسي غارقاً في الصور .. الأشجار الجميلة ألقت بضياء عيونها على هذا الجسد الصريع .. سمعت بفطرتها السليمة حشرجة صدري .. ربما ظَلَمْتها فقّاعات الهواء الفاسد الذي يخرج من فمي .. ربما أدركت ما أُعاني منه فانهالت عليَّ ببعض هوائها الطاهر .. رددت عليها تحيّتها بابتسامةٍ متواضعة .. رأيت فيها الحرية التي شعرت بأنها أصبحت بعيدة المنال ... أصبحت أشعر بأن الموت أقرب إليَّ من حبل الوريد .. ما هذا الشجر الذي لم أَرَهُ من قبل ؟! .. شجر زمان ما قبل الحبسة .. زيتون ، تين ، لوز ، كلّه شجرٌ مبارك و لكن هذا يختلف .. شجر يناجي الروح و يُعمل سحره بسرعة .. صفحات من الورق الأخضر المدبَّب .. تصطفّ الرزمة منها بشكلٍ أفقيّ .. تجتمع المجموعة و كأنها حول مائدة .. و تنتصف هذه المائدة وردةٌ حمراء تقف مغنّية وسط هذا الحشد الأخضر .. تسمع و تشمّ رائحة هذا الفناء .. ما اسم هذا الشجر ؟! من أين أتوا به ؟! إنّ تخيل شجرة واحدة وسط ساحة السِّجن كفيلٌ بمداواة جروحنا .. كانت نخلة تناجينا و نناجيها فقطعوها قطع الله أعناقهم ..

سلّط الناس كاميرات قلوبهم على هذا الجسد المكبّل .. عفواً رائد الفضاء الذي يخشى عليه من انعدام الجاذبية و انطلاقه في الفضاء بلا حدود ؟؟ ماذا تراهم يقولون ؟! سجينٌ عربيّ !! إذن مخرِّب ، تحضره شرطة السجن للعلاج .. يقولون بما أننا دولة متحضرَّة .. لماذا يكبِّلونه بهذا الشكل القاسي ؟! و يقولون: كلّ دول العالم تفعل هذا .. ضروريات أمنية .. شرطةٌ غلاظ شداد .. قلوب لا ترحم ..

شقّوا بي الطريق عبر أروقة المستشفى .. كلّما أَدخل ساحة تتلقَّفني العيون تماماً كما يحدث لبطل فيلمٍ سينمائيّ .. أرمقهم بنظراتي الخابية .. و أشعر بالغبطة .. أَصبحتُ محطّ أنظار الناس خاصة الأطفال .. الصغار جداً .. منذ فترة طويلة لم أرَ هذه الكائنات الصغيرة .. رأسٌ صغير كحبة الرَّمان .. عيون قططٍ زرقاء و خضراء .. البراءة تضيء جنبات وجداني .. تمنّيت لو أنَّ صحتي معي .. عداؤنا مع آلة الإجرام الحاقدة التي تنهش أجسادنا و أعراضنا ليل نهار .. كبَّلوني بسرير الشفاء .. يعني لو كتب الله لي الشفاء فسيكون شفاءاً مكبّلاً .. دخلت معترك العلاجات و الفحوصات ستّ ساعاتٍ متواصلة كانت روحي ترفرف فوق سريري ، تتردّد ما بين الموت و الحياة . كانت نظراتي التي أَلتقطها خِلسة نظرات مودِّع . أمدّ الله في عمري .. عدت ثانية حتى إذا استيأسوا من تحسِّن حالتي شحنوني إلى مستشفى الرملة . هذا القسم المميَّز بتفانيه في تحقيق أفضل شروط الإقامة في قبرٍ جماعيّ ، تعمر أسرَّته بأجسادٍ أنهكها الأمر و القهر .. حالات مرضيّة منسيَّة خلف القضبان .. تبوَّأت موقعي بين بقايا اللحم و العظم من خيرة أبناء شعبنا .. يودِّع أحدهم الآخر كلّ ليلة خوفاً ، يتبادلون نظرات الوداع الأخير .. في هذا المنفى تموت كلّ لحظة .. تموت من كثرة ما ينسونك .. من روتين الحياة ، من الضغط النفسيّ و انعدام العلاج المناسب .. القهر و المرض يلتهمك ببطء .. قطرة وراء قطرة أشقّ على النفس من بذل التَّضحية دُفعة واحدة .

و الآن و بعد هذه التجربة المديدة على مدار خمس سنوات بعد رحلتي الأولى إلى مستشفى عسقلان لم يتبقَّ في صحبتي سوى ذكريات ، جهازٌ تنفسيّ كهربائيّ يبثّ في صدري همومه الخفيفة أحياناً و الثقيلة أحياناً أخرى .. جرَّة من الأكسجين أتخيَّلها أحياناً كبرميل بارودٍ يوشك على الانفجار .. بخّاخات تطلِق شهيقها الطريّ في محاولات يائسة لمحو آثار سُحُب الغاز السامّ الذي استوطن هضاب صدري العالية ، تماماً كما هي حال مستوطنات أصحاب شَعْرِ السوالف الطويلة و القبَّعات السوداء ... زجاجات الدواء و الأقراص التي أتجرّع سمومها في الصباح و المساء .. هي حصيلة ما أهدتني إيّاه سنون المرض حتى الآن إلى جانب العجز الرئويّ و صعوبة التنقّل من مكانٍ لآخر مهما كانت المسافات قصيرة ..

إنَّ ما يميّز شريط ذاكرتي بعد هذه الرحلة الطويلة في أسر المرض و أسر السَّجان ، هو أني أستطيع أن ألمحَ بوضوحٍ إرادتي القويّة التي بقيت على حالها .. لم تنثنِ و لم تتكسَّر أمام هذه العواصف العاتية .. بقيتُ على حالي أسيراً صاحب رسالة مميَّزة من الكفاح تتطلّب عمقاً في التميّز في الأداء و المواجهة ، و عندما أضفْتُ بُعْداً آخر و أصبحت أسيراً و مريضاً في نفس الوقت .. حملّت رسالتي الكفاحية بعداً آخر ، فَزِدت تميُّزاً على تميّزي .. شعرت بالتَّحدّي في أعلى درجاته .. كان عليَّ أن أبتعد بقوة عن صفوف الضَّعف أمام اختيار المواجهة ؛ لأنّ في ذلك ميلاً لصالح برنامج العدوّ النقيض ..

عندما تشابكت مهمات عملي النضالي بمهمّات ما أحتاجه من رعاية علاجيّة ضاعفت مستلزمات نهوضي و حضوري بواقع الأسر ... لم تطِقْ نفسي التنازل عن أيّ شيءٍ كنت ملتزماً به قبل مرضي .. حتى الجامعة المفتوحة حافظت على التزامي بها رغم ما تحتاجه إلى جهود مُضنيَة .. لم أتنازل عن شيءٍ سوى الرياضة التي لم يَعُدْ جسمي يتحملّها على الإطلاق .. كنت أنظر من نافذة غرفتي على ساحة الرياضة كأسدٍ قعَدَتْ به شيخوخته عن المشاركة في رحلة الصّيد و السعي في مناكب الأرض .

حافظتُ على برنامجي الذي رسمته أَول الحبسة .. و إذا كانت الإرادة لا تعرِف أيّ حدودٍ فعلى ما يبدو فإن الجسد الذي هو الامتداد المادي للروح و ما تحمِله من قيم يعرف معنى الحدود ... يتراجع أمام تدّني إمكانيات مواجهتك للبرنامج الماديّ و المعنوي المدمِّر الذي يريده لك عدوك ... قد تجدُ نفسك أمام تراكم هجماته الشرسة فريسةً للضعف الجسدي و رهينة للتناقض الذي يضع قاتلك في ثوب الملاك الذي يسعى لشفائك و ضمان أمنك الصحيّ .. هذا التناقض الذي ربّما لَن تلْحَظه إلاّ بعد تقدّمك في الاعتقال حينما ترى الرِّسالة الإنسانية تُدنَّس يوم ترى الممرِّض و الطبيب يتمترَسُ خلف مدفع غازٍ خانقٍ يوجّهه نحو صدرك .

التعليقات