معتصم ياسين: مقاتل بقلب عصفور!

أُعجبَ معتصم في داخل قسم العزل الجماعي في "هداريم" بتجربة المناضل مروان البرغوثي، وقد لمس فيه صلابة مناضل لم تكسره قسوة السجن وظروف الاعتقال، وقد استطاع بفضله أن يستأنف دراسته الجامعية التي أُجبرَ على تركها بسب الاعتقال "مروان البرغوثي شخصية

معتصم ياسين: مقاتل بقلب عصفور!

ياسين مع ماجدة المصري - الجبهة الديمقراطية

لا يعرفُ الأسير المحرر معتصم ياسين، حتى اللحظة، سِرَ احتجازِه عشرات العصافير داخل قفصٍ من الطوب والحديد. ودون أن يُدرك حجم هذا التناقض الكبير، بين انتظاره طوال ستة عشر عامًا لتحرره من قبضة السجَّان، وبين تقييد حُريَّة عصفورٍ خُلق ليحلق في السماء دون قيود.

ولا يجد، في الوقت نفسهِ، تحليلًا نفسيًا، لسبب اقتنائه سُلَّمًا خشبيًا ومطرقةً مركونتينِ باهتمامٍ تحت شرفة منزله دون استخدام، لعل المطرقةَ والسِلَّم يُشكلان في العقل الجمعي لمن تلظوا بجحيم الاعتقال، طوقَ نجاةٍ لاجتياز جدران المُعتقل، ونزع الأسلاك الشائكة التي تحاصرهم من كل اتجاه! من تحتِ شجرة الزيتون في حديقة منزله، راح معتصم يروي تفاصيل سيرته الكفاحية الشّاقة، منذ اعتقاله في صيف 2002 في قرية عصيرة الشمالية قرب نابلس، حتى تحرره من سجنه سنة 2018.

في صبيحة الثاني والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2003، شقَّت حافلة نقل الأسرى (البوسطة)، طريقها باتجاه سجن "هداريم" قرب تل أبيب، قادمةً من سجن "مجدّو" وسط البلاد، متجاوزة قرية مصمص موطن شاعر المقاومة راشد حسين، وقريتي مشيرفة والبياضة، تُقلُ أربعة أسرى من ذوي المحكوميات العالية، وهم: معتصم ياسين، وعبد الفتاح زيدان من نابلس، ونافز الطمبوز من طولكرم، ورابعٌ فلت اسمه من قبضة ذاكرته.

وبعد يوم واحدٍ من تلقي معتصم في محكمة سالم العسكرية، حكمًا بالسجن ستة عشر عامًا، بحضور محاميه، وغياب عائلته لأسبابٍ أمنية، ومرض والدته المُسنة. راح معتصم يدقق بألم من نافذة البوسطة بالبيوت، وحركة المارة، والسيارات التي تسيرُ على الطريق، وعندما توقفت الحافلة عند الإشارة الضوئية في مدخل مدينة أم الفحم، اندفعَ أمام رفاقه، للحديث عن ذكرياته مع المدينة وقراها: يا إلهي لو أنني عصفور صغير أطير خلف هذه الجبال حيث قريتي، وأحلقُ فوق رأس أمي لأطبع قبلة على جبينها، لعلِّي يا حبيبتي استمدُ من طهر دعائك تماسكي وأنا أسيرُ مرغمًا في طريق آلامي؟ كيف لي يا نجمتي أن أبتلع مسافة ستة عشر عامًا، لأضع رأسي قُربانًا في طريقك الشاق على بوابات السجون وأنت تفتّشينَ عني خلف جدران الإسمنت والأسلاك الشائكة؟ واصلت الحافلة طريقها متجاوزةً، أيضًا، أم الفحم وقرى عارة وعرعرة وكفر قرع باتجاه بيارات مدينة نتانيا، ومرورًا بمدينة الطيرة في المثلث، قبل أن يتوقف محركها عند بوابات سجن "هداريم".

الأسرى المحرّرون: معتصم ياسين، ظافر جبارين، هاني منصور
الأسرى المحرّرون: معتصم ياسين، ظافر جبارين، هاني منصور

في الثاني والعشرين من نيسان/أبريل 1978، دوَّت صرخة آخر العنقود، معتصم، في بيت متواضعٍ في قرية عانين شمال جنين، لأسرة مكونةٍ من سبعة أفراد يعمل الأب آذن مدرسة في القرية، ولأم تعمل في الفلاحة، وعندما كان في الثانية عشرة من عمره، رحل والده بعد صراع قصير مع المرض. اضطرّ شقيقه الأكبر حسن لمغادرة مقاعد الدراسة والتفرغ مع والدته لتربية أشقّائه. التحق معتصم بمدرسة قريته في السنة الدراسية 1984، وأكمل المرحلتين الابتدائية والإعدادية قبل متابعته دراسته الثانوية في مدرسة السيلة الحارثية القريبة من قريته. انتسب في وقت مبكرة لاتحاد لجان الطلبة الديموقراطيين، وبسبب انشغاله بنشاطات الحركة الطلابية، لم يوفّق سنة 1996 بالحصول على الثانوية العامة، لكنه في العام 2000 عاد إلى مقاعد دراسته وحصل على شهادة الثانوية العامة، والتحق بقسم الفيزياء في جامعة النجاح الوطنية. واصل معتصم ياسين نشاطاته التنظيمية داخل أروقة الجامعة، وقد أُنتخب نائبًا لسكرتير كتلة الوحدة الطلابية - الذراع الطلابي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. ومع اندلاع انتفاضة الأقصى، اختار طريق الكفاح، فالتحق بالجناح العسكري للجبهة الديموقراطية. وكوَّن خلية تنظيميةً امتدت جذورها مع رفاقٍ من فلسطينيي الداخل، وبالتعاون أيضًا، مع قيادات فصائل المقاومة للقيام بعمليات عسكرية نوعية في الداخل المُحتل.

ظَّلَ المقاتل الصلب أبو حلب (هذا الاسم الذي اختاره لنفسه منذ أن كان يافعًا) طوالَ سنتينِ كاملتينِ يعمل بسريةٍ تامةٍ مع رفاقه في الجبهة الديموقراطية، قبل أن يعتقل جهاز مخابرات الاحتلال، أحد رفاقه من مدينة أم الفحم ويدعى ظافر جبارين، وقد انتزع ضُبَّاط المخابرات اعترافًا منه تحت وطأة تعذيب وحشي، تفاصيلَ كثيرة عن خلية عسكرية يقودها معتصم مع رفاقه: أمير ذوقان وعلَّام الكعبي من مخيم بلاطة، وظافر جبارين من أم الفحم، وهاني منصور وبلال ياسين من قرية عانين، وقد بدأت بالتخطيط لتفجير مركزٍ تجاريٍ في ريشون لتسيون. أدركَ، بعد انكشاف أمر الخليّة وتفاصيل العملية، أنه ورفاقه في مرمى قنَّاصة الاحتلال.

في وقت مبكرٍ من يوم العاشر من تموز/ يوليو 2002، فشلت قوة من جيش الاحتلال من اعتقاله بعد مداهمة منزله، وعند غروب شمس اليوم نفسه كان معتصم في طريقه إلى مدينة نابلس لاستلام بعض المعدات العسكرية من أحد الرفاق والعودة بها إلى القرية. وبعد أن علم بمداهمة الاحتلال بيته حرصَ على أن يبقى متواريًا عن الأنظار، فقضى ليلته متخفيًا، بضيافة أحد أصدقائه في قرية عصيرة الشمالية قرب نابلس، لكن جهاز الشباك استطاع، بعد منتصف تلك الليلة، رصدَ تحركاته عبرَ هاتفه الخليوي. احتشد المئات من جنود الاحتلال على مداخل قرية عصيرة وبين حارتها وطوقت المنزل الذي تواجد فيه، وراح ضبَّاط المخابرات وعبر مكبرات الصوت يطالبونه بتسليم نفسه. وحرصًا منه على سلامة عائلة صديقه لم يبدِ أيّة مقاومة، وقد باءت بالفشل محاولته الفرار عبر الباب الخلفي للمنزل. كانت ليلة موحشة. يقول عنها "اقتادني جنود الاحتلال مسافة طويلة، عبر أزقّة وحارات قرية عصيرة تحت وابلٍ من الشتائم والضرب الوحشي، وقد أجروا معي تحقيقًا ميدانيًا، واقتادوني إلى مركز تحقيق ’كادوميم’ قرب قلقيلية، قضيتُ فيه ليلة ما زالت تفاصيلها المروِّعة عالقةً على مشجب ذاكرتي. وفي الصباح الباكر نُقلت إلى مركز تحقيق بيتاح تيكفا سيّئ الصيت، وهناك بقيت شهرين متواصلين داخل الزنازين ومتنقلًا بين أروقة غرف التعذيب، واجهني المحققون بملفات اعتراف الرفاق حول نشاطي العسكري، انتهيت من التحقيق، ونُقلت بعدها إلى سجن مجدو بانتظار تقديمي للمحاكمة".

في مساء الثاني والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2003، أطفأ سائق البوسطة محرّكها عند بوابة سجن "هداريم" بعد ساعتين من هدير عجلاتها، خلال رحلةٍ قاسية، كانت انطلقت من سجن مجدو وسط فلسطين المحتلة، استلمَ حُراس السجن السجناء الأربعة وقد بدا عليهم الانهاك والإعياء. وُزِّعوا على أقسام السجن، بحسب كشوفات مسبقة رتبتها إدارة السجن. قضى معتصم تسعة أشهر في قسم 8، ثم انتقل في اليوم الأول من حزيران/ يونيو 2004 إلى قسم 4 عاش هناك أربعة أشهر قبل أن تُلفق إدارة السجن تهمة له بالتواصل مع خلايا تنظيمية خارج السجن، والتحريض على إضراب آب/ أغسطس، فنقلته تعسفًا إلى قسم العزل الجماعي في مبنى رقم 3، وهو القسم الوحيد في السجن الذي يُحكم فيه ضباط السجن قبضتهم الأمنية عليه بشدة، وهو مجهّز بكاميرات، ومجسّات صوتية عالية التقنية، ومراقب طيلة 24 ساعة، ويقطنُ فيه 120 أسيرًا جُلهم من قيادات الصف الأول في الحركة الأسيرة وهم: كريم يونس، وماهر يونس، مروان البرغوثي، أحمد سعدات، وعاصم الكعبي، وعبد الرحيم ملوح، وبسّام السعدي، وناصر عويس، وسعيد الطوباسي وغيرهم من القامات الوطنية العالية.

أُعجبَ معتصم في داخل قسم العزل الجماعي في "هداريم" بتجربة المناضل مروان البرغوثي، وقد لمس فيه صلابة مناضل لم تكسره قسوة السجن وظروف الاعتقال، وقد استطاع بفضله أن يستأنف دراسته الجامعية التي أُجبرَ على تركها بسب الاعتقال "مروان البرغوثي شخصية قيادية وعقلية فذة، وحريص جدًا على إشغال وقته بالقراءة والتعليم والتثقيف، لقد كان محرضًا بارعًا لنا من أجل مواصلة تعليمنا".

لم تكن التجربة الأكاديمية سهلة على السجناء الأمنيين في سجون الاحتلال كافة، واحتاج الأمر نضالًا شرسًا، قُوبلَ بمعيقات رتبتها ادارة السجون في محاولة بائسة لثني الحركة الأسيرة عن مواصلة كفاحها بالعلم الى جانب السلاح. تقاسم معتصم مع ثلاثين سجينًا مقاعد الدراسة داخل أروقة السجن، فالتحق بالجامعة العبرية مدّة سنتين قبل أن تسُنَّ إدارة السجن قانونًا يَحرِم السجناء من الحصول على شهادات من الجامعة نفسها. لكنّ الإرادة الصلبة كانت أيقونةً تسلَّحَ بها كافة الأسرى. واصل معتصم ورفاقه مخاطبة الجامعات الفلسطينية لمتابعة دراستهم وقد حصلوا على الموافقة فالتحق بقسم العلوم السياسية، في جامعة الأقصى في غزة ودرس ستة فصول قبل أن تتعطل دراسته على وقع اضرابات سنة 2012، التي خاضها الأسرى طوال تسعة وعشرين يومًا لانتزاع حقوقهم المشروعة، بتمكين أهالي غزة من زيارة أبنائهم المعتقلين، وإخراج الأسرى المعزولين في زنازين انفرادية معتمة، إضافة لبعض المطالب البسيطة التي تتعلق بيوميات الأسرى. وفي أيلول/سبتمبر العام نفسه، استأنف دراسته في جامعة القدس أبو ديس في كلية العلوم السياسية، وقد تخرج منها سنة 2014، بعد أن وافقت إدارة الجامعة على احتساب الفصول السابقة التي اجتازها في الجامعة العبرية. وبإشراف الدكتور الأسير مروان البرغوثي، حصلَ على درجة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية من الجامعة نفسها وبتقدير امتياز.

كان حوارنا يُشعل نارَ حزنٍ دفين في أعماقه وهو يروي لي حادثة وفاة والدة رفيقه في الكفاح، الأسير محمد جابر عبدو من بلدة كفر نعمة قضاء رام الله. الحاجة عزيزة محمود توقف قلبها فجأة عند حاجز قلنديا أثناء عودتها من زيارة نجلها. يبدو أن قلبها المُمزق لم يستطع أن يتحمل فرحة احتضانها لنجلها وتقبيله بعد حرمانها سنوات طويلة من زيارته "في ليلة الثالث من تموز/يوليو 2012، زفَّ ممثلو أسرى القسم على وقعٍ تراتيل صلاة المغرب، خبر رحيل الحجة عزيزة والدة محمد، وفي اليوم نفسه، كان محمد محتفيًا بتقبيل والدته واحتضانها بعد زيارة استمرت نصف ساعة، إنه الوداع الأخير! دخل محمد بنوبة بكاء هستيري، وقد بذلنا جهدًا كبيرًا للتخفيف عليه عبر تسليحه بالصبر والأدعية". وفي أحد الأيام انهارَ "رفيقنا الأسير عمر أبو سنينة، أثناء توديعه رفاقه وهو في طريقه للانتقال لسجن آخر، تقدم منه أحد الأسرى وقبَّله مُعزيًا بوفاة أمه، ولم يكن يعلم برحيلها".

انفجر معتصم غاضبًا في إحدى الزيارات، بعدما منعت إدارة السجن أفراد عائلته من الدخول لزيارته "حُرمتُ خمس سنوات من رؤية عائلتي، وفي إحدى الزيارات كنت قد هذَّبتُ لحيتي واستعددتُ للقاء الوالدة وشقيقتي بعد حرمانٍ طويل، لكن إدارة السجن أخبرتني، قبل موعد الزيارة بقليل، أن عائلتي ممنوعةٌ من زيارتي وقد تم طردها إلى خارج غرفة الزيارة".

أفاق في صبيحة أحد أيام تموز/ يوليو 2017، على وقع خطوات رفيق طفولته وكفاحه وابن قريته، الأسير هاني منصور قادمًا من سجن شطة، كان العناق بعد انفصال 15 عامًا مغلفًا بالألم والحنين، لكنه لم تكتب له الحياة سوى شهر واحد، وتفرَّق الرفيقان، بعد أن تعمّدت سلطات الاحتلال نقل معتصم إلى سجن النقب الصحراوي لتبدأ معها رحلة تنقلات قصيرة بين سجنيّ "إيشيل" و"ريمون"، قبل أن يعاود الرجوع إلى محطته الأخيرة "هداريم"، في طريق تحرره من القيود.

في عتمة الزنازين وخلف الأسوار الشائكة، كان معتصم يقتات على أمل الخلاص من آلامه، ولم تفقده سنوات اعتقاله الطويلة الإيمان بأن الأجمل قادم لا محالة، فقررت عائلته أن تشعل على ضفاف قلبه شمعة تنير عتمة طريقه، بعد ثماني سنوات من الأسر، فخطبت له ابنة خاله التي تقيم في الأردن، وقد قبضت الشابة الجامعية على جمر انتظار مقاتل صلب زرعت فيه الأمل عبر رسائل شوق أبرقتها طوال ثماني سنوات، من الضفة الشرقية للوطن، إلى الداخل المحتل، وقد أصرت إدارة السجن على اعتقالها داخل أدراج إدارتها: يا إلهي ما أكثر هشاشة هذا المحتل الذي ترعبه رسائل العشاق؟!

حطَّم الفارس قيوده وحول مخالبها إلى ورق، ورفع شارة النصر عاليًةً، معلنًا انتصارهُ على سجَّانه، بعد غياب ستة عشر عامًا ظل فيها قابضًا على جمر المبادئ، فكان مساء العاشر من تموز/ يوليو 2018 يوم الخلاص وعرسًا وطنيًا احتفل فيه أحرار قريته وكل شرفاء الوطن. وبعد أقلّ من شهر عانق سيدة الانتظار ورفيقة درب آلامه خطيبته في بيت واحدٍ، وقد ازداد البيت رفعة حينما خرج إلى نور الدنيا طفله الأول "محمد حلب"، وقد ركّب اسمه على نحوٍ رأى فيه أن الأول تيمنًا بالشهيد محمد ياسين ابن قريته، والثاني لقبه الكفاحي. في شتاء العام الماضي كاد قلب المحرر أن يعلن استسلامه ويرفع الراية البيضاء أمام قسوة الحياة، حينما خانه شريانٌ بسيط رفض ضخ الدم إلى قلبه، وقد سلَّمه إلى غيبوبة ظلت طوال ثلاثة أيام، تضرّع فيها أبناء قريته ومحبيه إلى السماء علها تنجيه من محنته، وبعد جهودٍ كبيرة من كافة فصائل العمل الوطني، ومؤسسات السلطة، أُدخلَ إلى مستشفى "إيخيلوف" في الداخل المحتل، وظل هناك سبعة أيام قبل أن يترجّل بصلابة من على سرير الشفاء ليعود سالمًا إلى بيته.

المجدُ لقامات وطنية حملت عبء قضية شعبها ورفعتها عاليًا في سماء التضحية والكفاح.

التعليقات