21/12/2015 - 19:17

لقائي الأول مع اللاجئين../ محمد يونس

في ذلك الوقت لم يكن بوسعي إخفاء خوفي من لحظة لقاء اللاّجئين التي كنا ننتظرها بفارغ الصبر، فقد سمعنا وعرفنا الكثير عن أحوالهم عند وصولهم الشاطئ، عن المشاق والمعاناة اللّانهائية التي يمرون بها في طريقهم إلى الجزر اليونانية.

لقائي الأول مع اللاجئين../ محمد يونس

كان ذلك فجر الإثنين، الرابع عشر من شهر كانون الأول/ ديسمبر من هذا العام، عندما كنا منهمكين بمراقبة شاطئ جزيرة كيوس اليونانية، المحاذي للأراضي التركية، بأعينٍ تغالب النعاس بتحديقها إلى الشاطئ القريب وإلى الأفق البعيد المظلم، مترقبين وصول قارب لاجئين محتمل.
كان البرد القارس والريح القويةُ في تلك الليلة يشغلان جزءًا كبيرًا من تفكيري بحال اللاجئين في عرض البحر، الحاملين أرواحهم على أكُفِّهِم وجوازات السفر، باحثين في ظلام العالم هذا عن شط أمانٍ منتظر.

في ذلك الوقت لم يكن بوسعي إخفاء خوفي من لحظة لقاء اللاّجئين التي كنا ننتظرها بفارغ الصبر، فقد سمعنا وعرفنا الكثير عن أحوالهم عند وصولهم الشاطئ، عن المشاق والمعاناة اللّانهائية التي يمرون بها في طريقهم إلى الجزر اليونانية.

لم تكن الحرب الرهيبة التي عاشوها وفرّوا منها بأرواحهم بحثًا عن حياةٍ جديدةٍ اَخر معاناتهم، فالطريق إلى أوروبا محفوفةٌ بالمخاطر، فبعد أن قطعوا المسافات الطوال مشيًا على الأقدام، حاملين ما استطاعوا من ممتلكاتهم وأشيائهم، لن يسلم كثيرون منهم من قطاع الطرق المترصدين لقوافل اللاجئين على شواطئ تركيا، وكل هذا، طبعًا، قبل عبورهم المحطة الأصعب والأخطر. أن تكون فردًا من كومة بشريّة على قارب مطاطي متهالك، لا يتجاوز ارتفاعه نصف مترٍ عن مياه بحر إيجة، الفاصل بين تركيا والجزر اليونانية.

الاَن، عليك أن تقطع بضع ساعات أخيرة في عرض البحر وعتمةُ الليل وتتذوّق برد أوروبا وملوحةِ الأمواج المتلاطمة. كأن كل المعاناة التي مررت بها، حتى الآن، ليست كافية لتثبت للعالم بأنك جدير بالحياة، عليك أن تجتاز هذا الامتحان الأخير عسى أن يهبك الحظ، إن شاء، حياتك من جديد.

انتظرنا لساعات طويلةٍ على الشاطئ والأفكار تشغلُني، كيف سوف يكون حالهم يا ترى، هل سنراهم مبللين يرجفون والرعب في وجوههم، أم سنستقبل جثثا ملقاة على الشاطئ (لا سمح الله) كما حصل مع قوارب كثيرة. 

تساؤلات كثيرة كهذه وأخرى كانت تجول في خاطري عندما أتى رفيقي في التطوع مسرعًا بسيارته نحونا صارخًا 'أركبوا السيارة بسرعه وصل قارب عند المينا'. لم أدر كيف تسابقت رجلاي نحو السيارة وبسرعة البرق وصلنا إلى المكان، حيث رسا القارب وبدأ اللاجئون بالنزول منه، بمساعدة المتطوعين، الذين قدّموا لهم الدعم والعلاج.

'ها هو أول لقاء لك وجهًا لوجه مع اللاجئين'، قلت في نفسي قبل أن أنزل من السيارةِ وأركض نحوهم لأسأل المتطوعين عن المساعدة المطلوبة واتفقد أحوال اللاجئين.

كان من بين اللاجئين سوريّون وفلسطينيّون حملت عينوهم حكايات معاناة تعكس مأساة شعب. كنا نستقبلهم بالابتسامة وبعبارات الترحيب محاولينَ تهدئة نفوسهم ونعطيهم الملابس لتدفئة أجسادهم.

كان مشهدًا عظيمًا أن ترى المتطوعين من مختلف بقاع العالم يعملون سويّة بتعاون وانسجام كامل كخلية نحل دون كلل أو تعب. خلال دقائق معدودة، كان كل من في القارب على رصيف الميناء، قد لبس وأكل وجلس في مكانٍ دافئٍ، ينتظر الباص الذي يقله ورفاقه إلى المخيم المؤقت في الجزيرة، تمهيدًا لنقلهم إلى المخيمات المجهزة قرب اثينا.

لم تكن هذه الاّ البداية فقط، فقوارب الموت أو النجاة، سمّوها ما شئتم، لم تتوقف عن القدوم حتى ساعات الظهيرة، الكثير من القوارب وعليها مئات اللاجئين وصلوا تلك الليلة والليالي التي تلتها، كان خلالها المتطوعين على أهبة الاستعداد.

لن أنسى ذلك الطفل الذي لم يتجاوز عمره العامين، الذي جاء وعائلته في قارب قذف به البحر إلى شاطئ صخري، ونزل من على القارب في الماء البارد لكي يصلوا البر.

كان هذا الطفل مبلّلًا حتى رأسه، يبكي بشدة من الخوف والبرد والجوع. كان يمشي بخطواته الصغيرة ملتصقًا بجده الذي لم يقو على حمله وقد أثقلت الأغراض كاهله. ذلك المشهد كان مؤثّرًا جدًا، ما ذنب هذا الطفل الصغير حتى يذوق هذه المعاناة؟ 'فليسقط العالم' قلت في نفسي حين ركضت إليه ورفعته إلى صدري محاولًا أن أقيه من البرد الذي قد غير لون جسده وأن أخفف عنه معاناته. لم يكن بحوزتي سوى كوفيتي الفلسطينية، فلفّعت جسمه الصغير المرتعش بها ومشيت به، حتى وصلنا إلى النقطة القريبة حيث يتواجد المتطوعين.

كنا نظن أننا ذهبنا إلى هناك من أجل مساعدة اللّاجئين وتقديم الدعم المادي والمعنوي لهم، لكن ما اكتشفناه هو أننا ذهبنا إلى هناك لنأخذ منهم لا لنعطيهم، فدمعة أبٍ يحتضنُ أطفالهُ بحرقة وشوق لحظة نزولهم من القارب، وكأنه لم يرهم منذ عام، لا تقدر بثمن، احتضان طفلٍ كان على بعد شعرةٍ من الموت، دعاءُ أمٍ لكَ رافعةً يديها إلى السماء، ضحكة أطفالٍ يتراكضون حولك بعد أن وصلوا إلى بر الأمان لا تقدر بثمن. هذا الكم الهائل من الدفء والحب والأمل المنبعث من قلوب وعيون أناس كانوا على حافة الموت وكتبت لهم الحياة من جديد، لا يقدر بثمن. 

كانت هذه التجربة على جزيرة كيوس اليونانة، رغم قصرها وتواضعها، من أعظم تجارب حياتي.

شكرًا لرفاقي المتطوعين في حملة 'خيرك دفى' في قريتي عارة-عرعرة. 

شكرًا لأصدقائنا المتطوعين المحليين من جزيرة كيوس ولجميع المتطوعين من كافة أنحاء المعمورة؛ والذين أوصلهم حبهم وإخلاصهم للإنسانية إلى هناك. 

 

التعليقات