26/05/2015 - 23:58

جلال الطنطوري..

في تلك الليلة ارتكبت العصابات الصهيونية مجزرة أخرى من مجازرها البشعة، وهذه المرة في الطنطورة، قال الدكتور. فقد قتلت بدم بارد ما يقدر عددهم بـ 230- 250 من أبناء القرية جعلتهم يحفرون قبورهم الجماعية بأيديهم

جلال الطنطوري..

إنّ من أكثر ذكريات طفولتي إيلاما هو ذلك اليوم الذي كنت ابن 7 سنوات حيث أخذونا إلى مخيم صيفي إلى شاطئ الطنطورة الساحلية الواقعة 25 كيلومترا جنوب مدينة حيفا لغرض الاستجمام والترفيه.

وقام أحد المرشدين بالحديث عن تاريخ الطنطورة، فحكى عن مدينة كنعانية قديمة، وأشار إلى بقايا بيوت، وقال إنها تعود إلى العهد الروماني، واستدل بأقوال علماء آثار تواجدوا هناك صدفة وكانوا يقومون بأعمال حفر وتنقيب.

ولكنه لم يلمح ولو بكلمة واحدة إلى البلدة الوادعة المزدهرة التي كانت تشمخ هنا حتى زمن قريب، وكان فيها مدرسة ومقهى ومحطة قطار ومسجد، وحافلة تذهب وتجيء إلى حيفا كل يوم. كان أهلها آمنين في بيوتهم حتى هاجمتها كتيبة السفاحين الصهاينة التابعة للواء إسكندروني لتجعلها خرابا.

في عام 2008 وخلال تواجدي في ندوة قدمتها ناشطة ألمانية في إحدى قرى الريف الألماني حول المعاناة اليومية التي يعيشها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة عام 1967، وقف رجل هرم وتحدث بلهجة ألمانية متقنة معرفا نفسه بأنه فلسطيني- ألماني.

أثار الأمر فضولي، وتوجهت إليه فورا مع انتهاء الندوة للتعرف اليه فبادر بالقول إنه طنطوري وأن اسمه الدكتور جلال يحيى، مضيفا أنه شهد المجزرة، ثم التجأ بعدها إلى ألمانيا عام 1951، وهو يقيم فيها منذ ذلك الحين.

تبادلنا أرقام الهواتف. وفي اليوم التالي قمت بالاتصال به باكرا، فقد استغرقت طويلا قبل أن أنام تلك الليلة، فنبرة صوته التي تغيرت وعيناه اللتان اغرورقتا بالدموع حين أخبرته بأنني فلسطيني من الداخل أستطيع الذهاب إلى الطنطورة متى أشاء ظلت ترافقني ذلك المساء وانتظرت بفارغ الصبر الصباح لألقاه.

مررت بالمخبز وتناولت بعض الشطائر قبل أن أواصل طريقي إليه..

استأنس الطبيب الذي بلغ من العمر آنذاك 78 عاما بزيارتي، فقد كانت له زوجة ألمانية أصابها مرض الشيخوخة (الزهايمر) الذي جعلها تتصرف بشكل غير سوي، ولم يعد بمقدوره تدبر أمرها، فتم تحويلها إلى ملجأ للعجزة. وكان له ابن هو أيضا طبيب اسمه بلال، يسكن في مدينة تبعد أكثر من 500 كيلومتر، ولم يكن نصيبه من العروبة غير اسمه، فكان يزور أباه على فترات متباعدة. وتوجد له ابنة هاجرت إلى أمريكا منذ سنين.

بدا الطبيب العجوز حزينا بعد أن أجهزت الوحدة والغربة على شموخه وكبريائه. كان يتلهف للحديث عن فلسطين وعن الطنطورة تحديدا، ومنذ ذلك اليوم نشأت بيننا صداقة وصرت أتردد عليه كثيرا.

لم أكن أتحدث تقريبا خلال ساعات طويلة كنا نقضيها سويا، فكنت بالنسبة إليه ملاكا هبط من السماء ليصغي إليه بكل جوارحه، فيما هو يقص تفاصيل حكاياته المكبوتة في صدره منذ سنين.

حدثني الدكتور جلال عن والده ذي الهيبة والوقار الذي كان تاجرا وكثيراً ما كان يسافر إلى بيروت، حيث تزوج هناك وأحضر زوجته التي هي والدة الدكتور جلال إلى الطنطورة، ومن يومها اشتهر هو واخوانه بين أهالي الطنطورة والبلدات المجاورة، إجزم وعين غزال والفريدس وجسر الزرقاء وقيساريا بكنية "أولاد اللبنانية"، وكانت لهجتهم في الكلام خليطا من الطنطورية واللبنانية.

حدثني أيضاً عن طفولته وعن صباه وعن شجرة التين التي أشعل سيجارته الأولى تحتها وعن البحر. وعن تلك الليلة المشؤومة ما بين ال-22 وال- 23 من شهر أيار من عام النكبة التي هاجمت فيها العصابات الصهيونية القرية واحتلتها، وجمعت أهلها عند البيدر وصلبتهم ساعات طوال حتى عصر اليوم التالي فيما جثث المقاومين كانت ملقاة في كل مكان، وشاهد والده وإخوانا له يعدمون أمام عينيه، ودفنهم وهو ينتظر دوره ليلحق بهم، ولكنه وفي تلك اللحظة التي ما زال يتذكرها جيدا، ويتردد كثيرا هل كانت سعيدة ً أم تعيسة، فربما لقسوة المشهد الذي لن يغيب عن مخيلته أبدا، ربما كان الذين لقوا الموت أكثر حظا، فلم تطلق عليه تلك الرصاصة.

في تلك الليلة ارتكبت العصابات الصهيونية مجزرة أخرى من مجازرها البشعة، وهذه المرة في الطنطورة، قال الدكتور. فقد قتلت بدم بارد ما يقدر عددهم بـ 230- 250 من أبناء القرية جعلتهم يحفرون قبورهم الجماعية بأيديهم، وشردت من تبقى من الأهالي الذين بلغ عددهم في ذلك اليوم ما يقارب ال 1500 نسمة وحولت منازلهم إلى ركام. وسيق هو وبعض الصبيان ممن كتبت لهم الحياة إلى السجن في مستوطنة زمرين القريبة، ومن ثم الى سجن أم خالد ليمكث فيه قرابة سنة.

بعد خروجه التحق بوالدته التي كانت مع من نجا من إخوانه الثمانية في بيروت التي وصلوها بعد عناء رحلة شاقة استغرقت أشهرا طويلة.

ومن شُح فرص العمل وضيق العيش قرر وصديقيه السفر إلى ألمانيا. كان الطريق مضنيا وخطيرا، وصلها في النهاية تهريبا عبر البحر في سفينة بضائع كانت قد رست في ميناء بيروت ومن هناك اتجهت إلى مرسيليا الفرنسية، وعند وصوله فرنسا لم يكن بحوزته إلا مبلغ زهيد من المال، فقطع مسافات طويلة مشيا على الأقدام، وركب القطار حينا مختفيا عن الأنظار، حتى وصل إلى مدينة فرانكفورت.

منذ وصوله إلى تلك المدينة شرع يعمل ليلا، ويتعلم اللغة الألمانية نهارا. وسكن في بيت سيدة ألمانية عجوز عطفت عليه حينما علمت بأنه فلسطيني.

تعلم جلال الشاب المثابر الطموح الألمانية بسرعة، وذهب بعدها إلى المدرسة لإنهاء امتحانات التوجيهي التي ستمكنه من دخول الجامعة، فتفوق فيها، والتحق بالجامعة ليدرس الطب البشري فتبدأ حياته تأخذ مَنْحًى جديدا.

لم يزر الدكتور جلال فلسطين منذ سنين طويلة حتى صيف عام 1991، حيث تمكن بعد غياب استمر 42 سنة أن يعود إلى فلسطين بجواز سفر ألماني، ولكنه وعند وصول طنطورته لم يجدها!

فقد طمس المحتل معالمها ليخفي آثار جريمته النكراء ظنا منه بأن هذا سيضمن له بأن يكون من سيأتي بعدهم مثل ذلك المرشد، لكن هيهات.. إنه شعب يرشده قلبه النابض الذي يهديه إلى طريق الحق آبياً التضليل والنسيان.

(تنويه: أحداث القصة كلها حقيقية، لكن أسماء شخصياتها مستعارة)

 

التعليقات