30/03/2022 - 17:17

من أيام الأرض في ذكرى يوم الأرض

قلّما جرى الالتفات فلسطينيًّا إلى هذا الطرد المُبكّر السابق على نكبة 48، وهذا ما نسمّيه بـ"النكبة المُبكرة"، إلى حَدِّ أن قدّر المبعوث الإنجليزي "سمبسون" في تقريره عن أحداث البُراق سنة 1929 في القدس، وتحوّلها إلى هبة شعبيّة عمّت سائر مدن

من أيام الأرض في ذكرى يوم الأرض

ملء الجرار في قرية العباسيّة

الصرخة الأولى

في العادة، يجري التأريخ لأول صِدام دامٍ في فلسطين، ضد المهاجرين اليهود الصهاينة، هو ذلك الذي وقع في قرية ملبس المُقتلعة، ضد يهود مستعمرة بيتح تكفا سنة 1886م. إلا أن ذلك غير صحيح، فالصدام الأول الذي وصل إلى حد الاشتباك المسلح مع أول مستعمرة صهيونية زراعية أقامها يهود مهاجرون، قد جرى في الحولة الواقعة شمالي البلاد سنة 1864م، أي قبل بنحو ما يزيد عن عقدين من صدام فلّاحي قرية ملبس مع صهاينة بيتح تكفا.

في الحولة، دار ذلك الاشتباك، بعد أن أنشأ الصهاينة برعاية صندوق اكتشاف فلسطين، أوّل مستوطنة - مستعمرة زراعية في البلاد، حتى أنهم أطلقوا عليها اسم "الموشاف". كانت أول مستوطنة في البلاد اسمها كما هي حقيقتها الـ"مستوطنة". أُقيمت مستعمرة "موشاف" على أراض تعود لقرية تليل الواقعة جنوب بحيرة الحولة قبل اقتلاعها في عام النكبة. كان معظم أهالي تليل من أصول مغربية، وقدموا إلى فلسطين من الجزائر، وتحديدا من مدينة "بليدة" الجزائرية في مطلع القرن التاسع عشر، وأنزلتهم الدولة العثمانية ديار الحولة في حينه(1).

ملبس في عام 1880

كانت عائلة الحاج حسين الكبير التليلية، هي أول من تنطعت للمستعمرة، رافضة استيلاء اليهود المهاجرين على أراضيهم، فاصطدم أبناؤها بالمستوطنين اليهود الذين كانوا قد تسلّحوا، رافضين طلب أهالي تليل المغاربة في الخروج من أراضيهم. نشب اشتباك أدى إلى وقوع عدة قتلى في صفوف المستوطنين اليهود، وثلاثة شهداء من قرية تليل(2).

على إثر ذلك، توجّه بعض من قيادات صندوق اكتشاف فلسطين إلى الأمير عبد القادر الجزائري المقيم في دمشق، من أجل التدخّل لدى أهالي تليل، وإقناعهم بقبول مجاوَرة مستعمرة "موشاف". لكن الأمير لم يتدخل. لا بل دعم مقاومة قرية تليل لمستعمرة "موشاف"، إلى أن تراجع المُهاجرون اليهود عن مشروع مستعمرتهم ومغادرتها(3)، ما دفع الصندوق بعدها، إلى نقل نشاطه الاستيطاني إلى منطقة يافا على الساحل، ليكون المستوطنون اليهود على موعدٍ مع مواجهة أخرى في قرية ملبس بعد عقدين من الزمن.

مأذنة مسجد العباسية (أرشيفية - "عرب 48")

بعد أن أفشل أهالي تليل، مشروع أول مستوطنة في فلسطين على أراضيهم، أُقيمت قرية الحُسينية العربية في الموقع ذاته الذي دارت فيه المعركة. وسُميت الحسينية نسبة إلى عائلة الحاج حسين الكبير التي كانت أول من دفعت بلحم أبنائها لمقاومة المستوطنين الصهاينة.

على أرضيّة الأرض

لما بدأ صندوق اكتشاف فلسطين، نشاطه الاستيطاني على أراضي الساحل، وقعت مواجهة سنة 1886، والتي اصطفّ فيها أهالي قريتي يهودية وملبس ضد مستوطني مستعمرة "بيتح تكفا"، التي صارت "فاتحة أمل" المشروع الصهيوني، بعد فشل مشروع إقامة "موشاف" في الحولة، ومن هنا كان اسمها بيتح تكفا.

في ما يتعلّق بقرية يهودية العربية الفلسطينية الأصيلة، يُذكر أنه رُغم اسمها الذي قد يُثير استغراب البعض، لم تبقَ قرية يهودية التي كانت تقع شرقي مدينة يافا على بعد 13 كم على اسمها، وتحديدا في مرحلة الانتداب البريطاني على البلاد، إذ غيّر أهالي القرية اسمها، من يهودية إلى العباسية التي نعرفها في سنة 1939(4).

بينما كانت قرية يهودية ما تزال على اسمها، عند إقامة مستعمرة "بيتح تكفا" سنة 1878م، بعد أن باع إقطاعي يُدعى سليم كسّار جزءا من أراضي قرية ملبس التي كان يملكها للوكالة اليهودية، مثلما باع غيره من مُلّاك وإقطاعيي جبل لبنان والشام أراضيهم في فلسطين لليهود في تلك الفترة. وقد التحم أبناء يهودية/ العباسية مع أهالي ملبس ضد مستوطني "فاتحة الأمل" الصهيوني سنة 1886(5). في مواجهة اعتُبرت فاتحة شرايين الدم المفتوحة في فلسطين، والنازفة إلى يوم الفلسطينيين هذا.

بعد تهجير قرية العباسية في النكبة عام 1948، أقام الصهاينة مستعمرة يهودية على أنقاض العباسية، وأطلقوا عليها اسمها الكنعاني القديم "يهود".

كانت المواجهة التالية على الأرض، بعد عام واحد من أحداث قرية ملبس وبيتح تكفا، في قرية قطرة الواقعة قبل تهجيرها عام النكبة على بعد 15 كم إلى الناحية الجنوبية - الغربية من مدينة الرملة. اصطدم أهالي قطرة في سنة 1887م، مع صهاينة مستعمرة "خديرة" التي أُقيمت على أراضي القرية سنة 1884م(6). بعد تهجير قطرة في النكبة وإعلان تأسيس إسرائيل، ابتلعت مستعمرة "خديرا" كل أراضي قطرة وتمددت على أنقاضها.

ثمّ أقام المهاجرون الصهاينة سنة 1890، مستعمرة "رحوفوت"، وحدثت المواجهة في هبة عربية مسلحة، بعد عامين من تأسيسها، سنة 1892. ثم في سنة 1896، اقتُلعت قرية المطلة العربية، بعد مقاومة شرسة خاضها سكان القرية الدروز ضد المستعمرين الصهاينة، وظلّت المُستعمرة اليهودية تحمل الاسم العربي للقرية إلى يومنا(7).

مع مطلع القرن العشرين، دارت الدائرة على أهالي قرية سمخ الواقعة على حافة بحيرة طبرية الجنوبية من قضاء طبرية، وذلك حين بادرت مجموعة مهاجرين صهاينة، كان على رأسهم المنظِّر الصهيوني "إحاد هعام" إلى إقامة مُستعمرة "دغانيا الأولى" على أراضي قرية سمخ سنة 1904. هاجم فلّاحو وصيّادو قرية سمخ بقيادة مصطفى يخلف الملقب بـ"أبو السنوسي "، مستوطني مستعمرة "دغانيا الأولى" في مواجهة مسلحة، أجبرت في الأخير "إحاد هعام" على التراجع عن مشروعه وتفكيك المُستعمرة(8).

صورة قرية سمخ قبل النكبة عام 1931

إلا أن الصهاينة لم يتنازلوا عن فكرة مستعمرة "دغانيا" في تلك المنطقة. إذ لاحقا، وفي ظلّ الانتداب البريطاني على البلاد، أقام الصهاينة سنة 1920 مستعمرة "دغانيا الثانية"، بغَرَض السيطرة على المناطق الممتدة ما بين سمخ وبيسان، وبدعم من سلطات الانتداب البريطاني هذه المرة.

بلغت مساحة الأراضي التي استحوَذ عليها الصهاينة في السنوات الممتدة بين عامي 1878 و1918، نحو 400 ألف دونم، من أصل مساحة فلسطين البالغة في حينه 244،632،2 دونما(9). ظلّت أيام الأرض عند نهبها أو بيعها على يَد عائلات غير فلسطينية متنفّذة في فلسطين، مستمرّة طِوال العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، تخللها اقتلاع نحو 60 قرية فلسطينية بعد طرد فلّاحيها منها.

قلّما جرى الالتفات فلسطينيًّا إلى هذا الطرد المُبكّر السابق على نكبة 48، وهذا ما نسمّيه بـ"النكبة المُبكرة"، إلى حَدِّ أن قدّر المبعوث الإنجليزي "سمبسون" في تقريره عن أحداث البُراق سنة 1929 في القدس، وتحوّلها إلى هبة شعبيّة عمّت سائر مدن وقرى فلسطين؛ بأن طرْد الفلاحين من قراهم في العشرينيات، هو الدافع وراء أحداث البراق(10).

خُلاصة

على أيّ فصيل أو حزب فلسطيني اليوم، التواضُع قليلا عند حديثه عن علاقة "الطلقة الأولى" به، فأوّل طلقة وكذلك أيام الأرض الأولى، تعود إلى قبل ما يمكن لأي تيار أو فصيل أن يتخيله، إذ هناك في الحولة، على أراضي تليل التلّية، يعود أصل حكاية الأرض.

صورة جوية لسمخ عام 1931

إن فلّاحي تلك القرى الذين خاضوا المواجهات الأولى منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، لم يكونوا يحتاجون إلى حمولة خطابية ووعي حداثويّ، حتى يعوا خطر المشروع الصهيوني مبكرا، إذ كان يكفيهم إحساسهم بتمادي المهاجرين - المُستعمِرين على ترابهم ولحمهم، حتى يقفوا وقفتهم تلك.

لأنّ الأرض بالنسبة لأهلها، ليست مُلكًا أو مالكانةً أو رأسمالٍ كما صارت عليه بعد النكبة، إنما الأرض بتعبير فيصل درّاج كانت "مرجعية" تماما مثلما الدين أو العائلة هي مرجعيات يعيش الناس فيها ولها. وكذلك هي الأرض كانت بالنسبة لأصحابها. قلنا وما زلنا نقول أصحاب الأرض لا مالكوها، وذلك بما تعنيه الصُحبة من معنى لذلك الجيل الذي عاش معها ولها، ثمّ ليعيش منها.


الهوامش:

1. مغربي، عبد الله صلاح، من جرجرة إلى الكرمل - تجربة عائلة عبد الرحمن مغربي في الهجرة والهوية -، دار أزمنة للنشر والتوزيع، 2005، ص 92.

2. المرجع السابق، ص 93.

3. المرجع السابق، ص 93.

4. الكنش، حسن، مقابلة شفوية، العباسية/ يافا، موقع فلسطين في الذاكرة- ضمن مشروع تدوين التاريخ

الشفوي للنكبة الفلسطينية، تاريخ 11/11/2005.

5. الفاهوم، زهير عبد المجيد، فلسطين ضحية وجلادون - فلسطين في أواخر العهد العثماني، شمس للنشر والإعلام، القاهرة، 2012، ص 372.

6. المرجع السابق، ص 372.

7. المرجع السابق، ص 373.

8. المرجع السابق، 373.

9. المرجع السابق، 373.

10. نحماني، يوسف، مذكرات سمسار أراض صهيوني، ترجمة: إلياس شوفاني، دار الحصاد للنشر والتوزيع، 2010، ص 64.

التعليقات