17/07/2022 - 21:47

الشواشنة... ما بين دوْر الوِلي ودار الخواجا

قلَّما انتبهنا نحن الفلسطينيون لذلك الانتباه الألمانيّ، الذي بدأ بوصفه اهتماما دينيًّا - تبشيريًّا بفلسطين، ثم صار استعماريًّا بإنشاء مستعمَرات استيطانيّة، تمايزت عن أيّ محاولة استعماريّة أخرى إلى جانبها، أو لاحقة لها، في فلسطين.

الشواشنة... ما بين دوْر الوِلي ودار الخواجا

صورة قديمة لقرية أبو شوشة

لم يكن يُعرف في حينه، ما إذا كان العُرس قد خُطط له سلفا، أم أن الشواشنة قد ارتجلوه... كما لم يُعرف على وجه التحديد، من الذي قام على ذلك العُرس، الحمولة الغربية والمعروف أهلها بالمصاروة، أم الفلاحون من أهالي الحمولة الشرقية. هكذا كانت تُقسم قرية أبو شوشة الواقعة إلى جنوب شرق مدينة الرملة، بدون أن ينقسم أهلها يوما، إلّا بما قسم الله لهم، بين مصاروة قَدِموا من مصر وتوطّنوا القرية منذ أيام إبراهيم باشا وحملته على برّ الشام في عام 1831، وفلاحين من عرب فلسطين، كلّ ما عرفوه عن أنفسهم، بأن أجدادهم وصلوا إلى مقام أبو شوشة مستجيرين به، ثمّ جاوَروه، مُشكِّلين عِزبة ظلّت مجرورة بالمقام واسمه، حتى عام النكبة(1).

كان ذلك في مطلع صيف عام 1884، حينما ضاق الشواشنة ذرعا بالخواجا وبيتهِ المشرفان على نفوس أهالي القرية وأنفاسهم بكل تفصيل، كما لو أنهم أقنان.

يُشرف الخواجة على إدارة القرية وأهلها، في الحرث والزرع ودرسْ المحاصيل، بينما كان يُطلّ بيته بحجارته الصلدة البيضاء الناتئة عاليا من فوق تل أبو شوشة، ومُستعليا على بيوت القرية الطينية.

كان الخواجا يومها في انتظار جمع الغِلال له، وتحديدا من محصول حَبّ العدس المشهور في أبو شوشة، بينما كان أهالي القرية، قد استعدوا له، مُستجمعين "غُلّهم" عليه.

صورة قديمة لمدينة الرملة (Getty Images)

ظَلّ أهالي أبو شوشة يعتزّون بموارس العدس المفلوح على تل "الشمالي" في القرية، إلى الشمال من تل مقام أبو شوشة حتى عام النكبة، وذلك للحدّ الذي كان يأتي فيه تُجّار حُبوب مدينة الرملة إلى القرية لشرائه في الشتاء سلفا، وهو "على أُمّهِ" كما يقولون، قبل حصاده في الصيف(2) ووفق أهله، كان عدس أبو شوشة يكفيه أن يشتمّ رائحة الماء والنار لينضج ويغدو في دقائق معدودة صالحا للأكل(3)، ويُقسِم الحاج عليان الجوهري، بأن صاحب المارس منهم، كان إذا ما وضع العدس في كفّ يده ونفخ فيه، تفَتَّح لون العدس كما لو أنه ما يزال بقشره في قرون شَتلاته.

لم يكن متعارفا على زراعة العدس في فلسطين عموما. غير أن زراعته في أبو شوشة، تقليد فلّاحي حمله مصاروة القرية معهم من مصر، عندما حطوا في القرية، أثناء حَملة الباشا على سورية في مطلع ثلاثينيات القرن التاسع عشر.

أصَرّ الخواجا على استلام محصول العدس قبل القمح والذرة، وبطريقة لم يتحرج فيها "ابن الحرام" من انتزاع لقمة عيش الشواشنة من أفواه أطفالهم. يومها، اتخذ أهالي القرية القرار؛ "صار لازم نزفّه"، وتوعدوه في ما بينهم، ثم تواعدوا معه على لقائه عند مقام "أبو شوشه"، وما إن التقوا به عند مغيب الشمس، وبلا أي مقدمات، هَمَّ بعضهم إليه وذبحوه على باب المقام.

بيتر بيرغمان، مُستثمر يهودي ألماني، الذي عرفه وعرّفه الشواشنة بالـ"خواجا"، و"دار الخواجا"، هو بيته الذي ظل قائما ومهجورا إلى يوم تهجير أهالي القرية عام 1948. وبحسب ألكزندار شولش، صاحب كتاب "تحوّلات جذريّة"، فإن ميلفل بيرغمان الأب، قد وضع يده على أبو شوشة في عام 1872، وتملك القرية وكل أراضيها التي كانت تقدَّر مساحتها في حينه بـ2100 هكتار، أي ما يساوي 21،000 دونم، بمبلغ قدره 46،0000 قرشا، دفعها بيرغمان للدولة العثمانيّة(4)، بدعم من شركة Bergheim الألمانيّة في القدس(5)، والتي كانت في حينه تحظى بحماية القنصليّة الألمانيّة في المدينة(6).

تمّت هذه الصفقة بعد أن بات قانون سنة 1867 العثمانيّ، يُتيح للأجانب حيازة الأرض وتملّكها في الإمبراطوريّة، وتحديدا في فلسطين. وفي هذا السياق بدأت الهجمة الشرسة على أراضي فلسطين. كان أكثرها جشعا ووجعا في ذاكرة الشعب الفلسطيني إلى يومه هذا، هو تكديس سندات المُلكية بأيدي عائلات بيروتيّة مثل: سُرسق، وحبيب، وبسترس، وتويني، وفرح، فعائلة سُرسق وحدها، تملكت ما بين عامي 1869 و1872، أكثر من 800،000 دونم من أراضي فلسطين، منها 230،000 دونم في مرج ابن عامر وحده، وفي صفقة واحدة، بـ"تراب المصاري" كما يقول أهلنا بالتعبير العامي الفلسطيني، إذ ابتاع سرسق أرض المرج من الدولة العثمانية مقابل 6 قروش للدونم الواحد(7).

لم يرضَ الشواشنة بأن تتحول قريتهم وأراضيهم وهم فيها إلى مَحمية تتبع لمستوطن مستثمر أجنبيّ ألمانيّ، لكن العَوَز والفاقة اللذان ألمّا بهم في مطلع عقد السبعينيات من القرن التاسع عشر، قد ترتَّب عليهما عجزهم عن سداد الضرائب المطالَبين بها للباب العالي. إن الـ46،000 قرشا التي قدّمها بيرغمان للباب العالي مقابل تملّكه القرية، هو مبلغ يمثل مجموع الضرائب المتأخرة الذي ترتب على 400 شخص من أهالي أبو شوشة أن يدفعوها للحكومة العثمانيّة(8).

بحسب المصادر، فإن عدد الفلاحين ذوي العلاقة في هذه الصفقة (المعامَلة) بلغ 51 شخصا، والتي بموجبها انتقل 153 سند ملكية إلى يدي بيرغمان. بقي الفلاحون الشواشنة في الأرض بصفة مستأجرين لها، وظلّوا متمسكين في زراعتها بحسب نظام المَشاع، كما كانوا يفعلون من قبل. لكن المسثمرين المستوطنين الألمان، استغلوا القرية بصورة مباشرة، وأقاموا فيها مباني جديدة، ورُكِّبت مضخة ماء على "بئر البلد" في القرية، وأدخلوا آلات زراعية حديثة، فكان مشروعا ناجحا ورابحا بالنسبة لهم(9).

كان ذبح الخواجا، حدثا أفزع قرية أبو شوشة وفزّع البلاد المحيطة بها عليها. وقد اختلطت ليلتها زغاريد بعض نسوة القرية بنواح بعضهن الآخر على رجالهن الذين فروا شرقا إلى جبل "الجايحة"، حيث مغارة الجايحة التي كان يمكن لجيش بأكمله الاختفاء فيها، بحسب ما ظلّ يتذكّره أهالي القرية(10).

تخلَّص الشواشنة من الخواجا عند الولي -بكسر الواو- كما اعتاد أهل أبو شوشة تسميته. ومع أن القرية ظلّت تُعدّ ملكا ألمانيًّا حتى الحرب العالميّة الأولى، إلا أنّ "زفّ" أهلها للخواجا، اعتُبر بمثابة تخلُّص من مالك القرية، واستردادها لصالح صاحبها "أبو شوشة"، وشيخ المقام المُقَبَّب والمُقرَّب الذي قامت القرية منه وله.

شجرة لا تزال موجودة في أراضي القرية

إنّ حكاية قتْل أهل أبو شوشة للخواجا المُستعمِر والمُستثمِر في الشواشنة ولحمهم ووشائج رحمهم، هي دعوة للتقصّي عن شكل انتباه الألمان المُبكّر لفلسطين وأهلها منذ أواسط القرن التاسع عشر. وقلَّما انتبهنا نحن الفلسطينيون لذلك الانتباه الألمانيّ، الذي بدأ بوصفه اهتماما دينيًّا - تبشيريًّا بفلسطين، ثم صار استعماريًّا بإنشاء مستعمَرات استيطانيّة، تمايزت عن أيّ محاولة استعماريّة أخرى إلى جانبها، أو لاحقة لها، في فلسطين.

ظلّت أبو شوشة قرية على بدائيّتها طوال مطلع القرن العشرين وحتى عام النكبة عام 1948، فلم تُقَم فيها مدرسة، ولا حتى جامع للصلاة. وليس من معالم فيها غير مقام الشيخ ودار الخواجا، كما لو أنهما شاهدان، على سيرة وجع القرية وجوعها منذ عام 1872، إلى أن حلّت النكبة ليكون الشواشنة على موعدٍ مع واحدة من أجبَن المذابح، وأكثرها دمويّّة، والتي ذهب ضحيّتها أكثر من ستّين شهيدا... وتلك حكاية أخرى.


الهوامش:

1. عن التقسيم الاجتماعيّ لقرية أبو شوشة، راجع: الجوهري، عليان، مقابلة شفوية، أبو شوشة - قضاء الرملة، موقع فلسطين في الذاكرة - ضمن مشروع تدوين الرواية الشفوية للنكبة الفلسطينية، تاريخ 4/12/2006.

2. الجوهري، عليان، المقابلة السابقة.

3. الحايك، إبراهيم، مقابلة شفوية، أبو شوشة - قضاء الرملة، موقع فلسطين في الذاكرة - ضمن مشروع تدوين الرواية الشفوية للنكبة الفلسطينية، تاريخ 23/5/2006.

4. شولش، ألكزاندر، تحولات جذرية في فلسطين - دراسات حول التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، ترجمة: كامل جميل العسلي، منشورات الجامعة الأردنية، عمان، 1993، ص 141.

5. تعود شركة "بيرغهايم" في القدس، إلى المصرفي اليهودي والتاجر وصاحب المعامل والملّاك الكبير، والمتمتع بالحماية الألمانية في الوقت نفسه بيرغهايم (Bergheim). كانت مؤسسة "بيرغهايم" تمارس العمل البنكي الحقيقي الوحيد في البلاد في حينه، ومثّلت البنك العثماني Banque Imperiale Ottomane وبعض البنوك اللندنية، كما امتلكت -فضلا عن ذلك- أراضي في نهاية أربعينيات القرن التاسع عشر قرب يافا، وفي المقام الأول قرب القدس. كما امتلكت المؤسسة معمل صابون في الرملة. وفي عام 1877 قدّر القنصل الألماني، رأس مال المؤسسة بـ400،000 مارك، استُثمر نصفها في ضيعة أبو شوشة إلى الجنوب الشرقي من مدينة الرملة. راجع: شولش، ألكزندر، المرجع السابق، ص 141.

6. شولش، ألكزاندر، المرجع السابق، ص141.

7. أبو بكر، أمين، ملكية آل سرسق في فلسطين 1869 - 1948، مجلة جامعة النجاح للأبحاث (العلوم الإنسانية)، مجلد 18، 2004، ص399.

8. شولش، ألكزندار، المرجع السابق، ص 142.

9. المرجع السابق، ص 142.

10. الجوهري، عليان، المقابلة السابقة.

التعليقات