23/05/2023 - 18:45

الصمود في مواجهة المحو المنهجيّ: كيف شكّلت النكبة الهويّة الجماعيّة للفلسطينيّين؟

الاحتلال الإسرائيليّ الحاليّ ونظام الفصل العنصريّ الراسخ في فلسطين ليسا مجرّد نتائج مقصودة أو غير مقصودة للنكبة، بل هما مظاهر مباشرة لنكبة لم تنته أبدًا

الصمود في مواجهة المحو المنهجيّ: كيف شكّلت النكبة الهويّة الجماعيّة للفلسطينيّين؟

(Getty)

مضى على النكبة الفلسطينيّة في 15 مايو/أيّار الماضي 75 عامًا، وأحيا الفلسطينيّون في جميع أنحاء العالم ذكرى هذه المناسبة المأساويّة الّتي هجر على إثرها ما يقرب من 800,000 فلسطينيّ، وطهرت خلالها ما يقرب من 500 بلدة وقرية عرقيًّا من سكّانها الأصليّين التاريخيّة بين أواخر عام 1947 ومنتصف عام 1948.

استمرّ تهجير فلسطين لعدّة أشهر ولعدّة سنوات بعد تاريخ النكبة المسجّل، وما تزال النكبة مستمرّة. ما تزال المجتمعات الفلسطينيّة في القدس الشرقيّة، وفي تلال الخليل الجنوبيّة، وفي صحراء النقب وأماكن أخرى، تعاني من عواقب سعي إسرائيل إلى السيادة الديموغرافيّة، وبالطبع، ما يزال ملايين اللاجئين عديمي الجنسيّة، ويحرمون من الحقوق الإنسانيّة الأساسيّة والحقوق السياسيّة.

في خطاب ألقته أمام مؤتمر الأمم المتّحدة العالميّ لمناهضة العنصريّة في عام 2001، وصفت الدكتورة حنان عشراوي الشعب الفلسطينيّ بأنّه «شعب أسير، ورهين للنكبة المستمرّة»، وأوضحت عشراوي قصدها بالمستمرّة، وقالت إنّها أكثر أشكال التعبير تعقيدًا وانتشارًا عن استمرار الاستعمار والفصل العنصريّ والظلم. وهذا يعني ألّا نفكّر بالنكبة على أنّها حدث في زمان ومكان واحد فقط.

على الرغم من التدفّق الهائل للّاجئين بين 1947 و1948 كان نتيجة مباشرة لحملة التطهير العرقيّ الصهيونيّة كما وضعت في «الخطّة دالت» أو الخطّة د، إلّا أنّ النكبة بوصفها حدثًا معيّنًا كانت إيذانًا رسميًّا بنكبة أكبر تستمرّ حتّى يومنا هذا. بدأت القيادة الصهيونيّة الخطّة دالت ونفّذتها الميليشيات الصهيونيّة بهدف إفراغ فلسطين من سكّانها الأصليّين، ونجحوا في ذلك، ومهّدوا طريق قيام دولتهم بعقود من العنف والمعاناة على حساب الشعب الفلسطينيّ.

الاحتلال الإسرائيليّ الحاليّ ونظام الفصل العنصريّ الراسخ في فلسطين ليسا مجرّد نتائج مقصودة أو غير مقصودة للنكبة، بل هما مظاهر مباشرة لنكبة لم تنته أبدًا. من المعترف به وعلى نطاق واسع، وإن لم يتحقّق للأسف، أنّ اللاجئين الفلسطينيّين يتمتّعون بحقوق "غير قابلة للتصرّف" بموجب القانون الدوليّ بغضّ النظر عن الأحداث المؤدّية إلى تهجيرهم القسريّ. ويلغي قرار الأمم المتّحدة 194 شرعيّة أيّ انتهاك لهذه الحقوق، والّذي ينصّ على «وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن للّاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الّذين يقرّرون عدم العودة إلى ديارهم وكذلك عن كلّ فقدان أو خسارة أو ضرر للممتلكات بحيث يعود الشيء إلى أصله وفقًا لمبادئ القانون الدوليّ والعدالة، بحيث يعوّض عن ذلك الفقدان أو الخسارة أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة» .

وبما أنّ إسرائيل هي الحكومة المسؤولة، فقد تحرّكت تلّ أبيب بسرعة لتخليص نفسها من أيّ لوم أو مسؤوليّة. والملفّات «السرّيّة للغاية»" الّتي استعادها باحثون إسرائيليّون ونشرتها صحيفة "هآرتس" الإسرائيليّة، تتضمّن ملفًّا باسم GL-18/17028. توضّح الوثيقة كيف حاول رئيس الوزراء الإسرائيليّ الأوّل، ديفيد بن غوريون، «إعادة كتابة التاريخ» بعد فترة وجيزة من اكتمال المرحلة الأولى والرئيسيّة من التطهير العرقيّ لفلسطين، حيث اختار لتحقيق هدفه أكثر الاستراتيجيّات الفاضحة: إلقاء اللوم على الضحايا الفلسطينيّين أنفسهم لهروبهم المزعوم.

لكن لماذا يهتمّ الصهاينة المنتصرون بقضايا السرديّات، والّتي تبدو من بعيد تافهة؟

أشار موقع هآرتس «مثلما صاغت الصهيونيّة رواية جديدة للشعب اليهوديّ في غضون عقود قليلة، أدرك (بن غوريون) أنّ الشعب الآخر الّذي أقام في البلاد قبل ظهور الصهيونيّة سيسعى أيضًا إلى صياغة سرديّة له»، وهذا الشعب الآخر خو الشعب الفلسطينيّ طبعًا. وهكذا، فإنّ جوهر الرواية الصهيونيّة حول التطهير العرقيّ لفلسطين، كان مبنيًّا على الادّعاء الدائريّ بأنّ الفلسطينيّين قد غادروا «باختيارهم»، على الرغم من أنّه أصبح واضحًا للصهاينة أنفسهم أنّه «عدد قليل فقط من القرى قد غادرت بناء على تعليمات قادتها (المحلّيّين) أو مخاتيرها».

وأيضًا حتّى في هذه الحالات القليلة المنعزلة، لا يعتبر البحث عن الأمان في أماكن أخرى خلال الوقت الحرب جريمة، ولا ينبغي أن يكلّف اللاجئ حقّه غير القابل للتصرّف. إذا أصبح المنطق الصهيونيّ الغريب هو المعيار في القانون الدوليّ، فإنّ اللاجئين من سوريا وأوكرانيا وليبيا والسودان وجميع مناطق الحرب الأخرى سيفقدون حقوقهم القانونيّة في ممتلكاتهم والمواطنة في أوطانهم.

لكنّ المنطق الصهيونيّ لم يكن يهدف فقط إلى تحدّي الحقوق القانونيّة أو السياسيّة للشعب الفلسطينيّ، بل هو جزء لا يتجزّأ من عمليّة أكبر عرفها المثقّفون الفلسطينيّون باسم المحو: التدمير المنهجيّ لفلسطين وتاريخها وثقافتها ولغتها وذاكرتها، وبالطّبع شعبها. انعكست هذه العمليّة في الخطابات الصهيونيّة المبكّرة، حتّى قبل عقود من إفراغ فلسطين من سكّانها، حيث كان ينظر إلى وطن الشعب الفلسطينيّ بشكل خبيث على أنّه «أرض بلا شعب».

عبر الخطاب الصهيونيّة عن إنكار وجود الفلسطينيّين مرّات عديدة، وما يزال حاضرًا حتّى الآن. كلّ هذا يعني أنّ 75 عامًا من النكبة المستمرّة وإنكار وجود جريمة إسرائيل الهائلة وداعميها يتطلّب فهمًا أعمق بكثير حصل وما يزال يحصل مع الشعب الفلسطينيّ. يجب على الفلسطينيّين الإصرار على أنّ النكبة ليست نقطة سياسيّة واحدة يجب مناقشتها مع إسرائيل أو المساومة عليها مع من يزعمون أنّهم يمثّلون الشعب الفلسطينيّ. «ليس لدى الفلسطينيّين أيّ التزام أخلاقيّ أو قانونيّ لاستيعاب الإسرائيليّين على حساب وجودهم»، يكتب المؤرّخ الفلسطينيّ الشهير سلمان أبو ستّة في إشارة إلى النكبة وحقّ العودة للّاجئين الفلسطينيّين، ويكمل «بل على إسرائيل، بكلّ المقاييس، أن تحقّق التزامًا بتصحيح هذا الظلم الهائل الّذي ارتكبته».

النكبة قصّة فلسطينيّة شاملة عن الماضي والحاضر والمستقبل. ليست قصّة ضحايا فقط، بل قصّة صمود ومقاومة. المنصّة الأكثر توحيدًا وتجميعًا للفلسطينيّين، بعيدًا عن قيود الفصائل أو السياسيّة أو الجغرافيا. النكبة بالنسبة للفلسطينيّين ليست تاريخًا واحدًا، بل قصّة يكتب خاتمتها هذه المرّة الفلسطينيّون أنفسهم.


رمزي بارود صحافي أميركيّ-فلسطينيّ ومستشار إعلامي ومؤلف وكاتب عمود ومحرر فلسطين كرونيكل (1999 حتى الآن) ومدير التحرير السابق لميدل إيست آي.

التعليقات