في ذكرى النكبة: كفر عنان المهجرة وذاكرة تأبى النسيان

"وفيما الناس مجتمعين بدأوا بنسف عدد من البيوت والغبار المنبعث يتطاير فوق رؤوسنا ليدبوا الرعب في النفوس، ثم أخذوا يضعون الشباب في مكان والنساء والشيوخ والأطفال في مكان آخر قريب ثم اختاروا ثمانية من الشباب وأطلقوا النار"

في ذكرى النكبة: كفر عنان المهجرة وذاكرة تأبى النسيان

("عرب48")

خمسة وسبعون عامًا والأستاذ، حسن أحمد مصطفى منصور، من قرية كفر عنان المهجرة، ومن سكان قرية الرامة الآن، وهو يحثُّ الخطى مسافة ستة كيلومترات يوميًا ذهابًا وإيابًا ليصل إلى قريته المهجرة سيرًا على الأقدام.

الأستاذ حسن اصطحبنا في موقع عرب 48 في جولة لنقف على أطلال قريته في الذكرى الـ 75 للنكبة. ليبدأ حديثه مؤكدًا أن أهالي قريته "سيعودون عاجلاً أم آجلاً ليعانقوا ترابها الطاهر"، ولتفيض ذاكرتُه علينا بتاريخ بلدته منشدًا لها أبيات من الشعر في حبه لمرتع الطفولة قائلا; "بلدي الحبيب متيم بهواك... ما كان عمري إن رضيت سواك... بلدي الحبيب أفديك بمقلتيَّ... روحي وما أملك الجميع فداك... بلدي السليب سنعود يوماً إليك... لنعيش أحراراً في حماك".

يكفكف الأستاذ منصور دموعه وقد فاضت به عيناه، وصدره حشرج عند أطلال منزله وركام حجارة بيت العائلة متذكرًا أيامًا خلت; "بكيت الدار وناديتها فلا الدار داري ولا الجيران جيراني".

الأستاذ منصور عمل مدرسًا للتاريخ والدين في مدرسة الرامة الإعدادية، ويعلم عن تاريخ قريته كفر عنان مواضع المنازل المندثرة، ومن كان يقطنها، يذكر أبناء قريته صغيرهم وكبيرهم ومصيرهم بعد التهجير، بل ورسم خارطة القرية مع أسماء أصحاب البيوت بحسب موقعها إضافة إلى كتابة جميع أسماء شخصيات وكبار كبرى العائلات في القرية قبل تهجيرها.

نرى لافتة عند مدخل القرية الشرقي وقد كُتب عليها أسماء للدلالة على وجود قبور لثلاثة شخصيات يهودية وقد ذكر الأستاذ منصور بأنها "محض كذب وافتراء، فلا يوجد أي مقبرة يهودية في زمن الانتداب أو قبله، وإنما هي ذريعة لتثبيت ادعاءات الصهاينة بملكية الأرض، وتدعيمًا لرواياتهم التي تزوّر تاريخ القرية".

يحمل تاريخ بلدته كمن يحمل أمانة أبت الجبال أن تحملها وبه أوصى قائلاً: "راودتني نفسي وأنا الأن في الثامنة والثمانين من عمري، لا بل رأيت من واجبي ومن حق بلدي علي مسقط رأسي كفر عنان المهجرة أن أكتب شيئًا عنه، قبل أن تخرج هذه الروح إلى بارئها، وقبل أن يوارى هذا الجسد في ثرى الوطن الطيب الحبيب، البلد الذي ولدت وترعرعت فيه واحتضنني حتى سن الثالثة عشر من عمري، بلد الآباء والأجداد كفر عنان البلد الذي نشأوا وتربوا فيه قرونًا طويلة وانجبل ترابُه بعرقهم ودمهم، هذا البلد الذي ما زلتُ أزوره وأتذكر كل شيء فيه; البيوت وأصحابها، الحارات والملاعب والساحات، أتذكر القرية وما حولها وكل ما فيها وآمل أن نعود يوماً إليها"

تضاريس كفر عنان وموقعها الجغرافي

تقع كفر عنان في أقصى الجزء الشرقي من قضاء عكا، وتبعد عن عكا شرقًا حوالي 33كم، وحوالي 16كم إلى الجنوب الغربي من مدينة صفد، وهي مبنية على ربوة ترتفع حوالي 325 كم عن سطح البحر، وتشرف على سهل واسع الأطراف خصب، يمتد غربًا حتى زيتون الرامة وجنوبا حتى جبل حازور، وشرقًا حتى حدود قرية فراضة المهجرة.

تعتبر كفر عنان مركزًا لتوزيع المناطق، فمثلاً قرية مغار وحازور اللتان تبعدان عنها حوالي 4 كم جنوبًا تابعة للجليل الأسفل، وقرية فراضة التي تبعد عنها أقل من 1 كم شمالاً تابعة للجليل الأعلى، وقرية الرامة التي تبعد عنها حوالي 6 كم غربًا تابعة للجليل الغربي، أما قرية كفر عنان نفسها، فكانت تابعة للجليل الأعلى ثم جعلوها تابعة للجليل الغربي. تبلغ مساحة كفر عنان 5827 دونمًا جميعها صالحة للزراعة ولم يكن للدولة شبرًا واحدًا فيها. بلغ عدد سكانها عام 1948 حوالي 400 نسمة، يوجد في القرية ثلاث عائلات كبيرة، وهي: شقير، منصور، وخشان، وهناك عائلات أخرى صغيرة.

مصادر المعيشة في كفر عنان

وعن مصدر معيشة أهالي كفر عنان يقول الأستاذ منصور: "يعتاش من أراضي كفر عنان الآن أربع مستوطنات: كيبوتس فرود، كفار حناينا، شيفر، حزون. أما قبل النكبة فكانت المياه تأتي إلى كفر عنان عبر قناة مكشوفة من قرية فراضة المجاورة، فيشرب الأهالي ويزرعون شتى أنواع الفواكة والخضار، أما المياه الزائدة فكانت تصب في مجمع للمياه يسمّى السيح; وتستعمل مياهه للري ولسقي الحيوانات، وقد تعلم جميع أبناء القرية السباحة فيه.

اعتمد أهالي كفر عنان في معيشتهم على الزراعة، حيث زرعوا سهلها الخصب بشتى أنواع المزروعات الصيفية والشتوية، مثل القمح الشعير العدس، الفول، الذرة، الحمص البطيخ والشمام وغير ذلك، كما غُرس القسم الشمالي منه بأشجار الزيتون. أما منطقة الجوابي، وهي الأرض الواقعة بين قريتي كفر عنان وفراضة، فقد غُرست أو زرعت بالأشجار والخضار المروية، مثل أشجار الليمون، التين، الرمان، الجوز، اللوز والعنب، والخضار مثل: الفجل، الخيار، البندورة، الباذنجان والفلفل، كذلك المنطقة الموجودة غرب القرية والقريبة من منطقة السيح، وهي كرم التوت، كرم حسان وحاكورة الليمون والبستان، فقد غرست وزرعت هي الأخرى بالأشجار والخضار المروية.

التعليم والمناسبات الاجتماعية

يواصل أستاذ التاريخ حسن منصور قص رواية بلدته ويستذكر المناسبات الاجتماعية وطقوسها، والحياة التعليمية فيها، قائلاً: "أما المدرسة فكانت في فراضة وهي مشتركة للقريتين والتعليم فيها حتى الصف الرابع الابتدائي، وكان على من يرغب في مواصلة التعليم، أن يلتحق بمدرسة المغار أو الرامة، فيما كان يفضل أغلب الطلاب الذهاب إلى مدرسة المغار لقرب المسافة، وأنا شخصيًا درست الصف الخامس في المغار".

لقد كان أهالي كفر عنان "يعيشون كعائلة واحدة وتجلى روح التعاون بينهم في مناسبات عدة، فمثلاً أيام الحصاد إذا أنهى أحدهم حصاده قبل جاره، فكان يهب لمساعدته ولا يتركه حتى ينهي عمله، كذلك في المناسبات والأفراح حيث يشارك الجميع في العرس، حيث أقيمت السهرات في الساحات على ضوء النار التي يشعلها الناس بعد ان جلبت النسوة الحطب نهاراً لإشعاله ليلاً أثناء سهرة العرس، فيما يجلس الرجال على الفراش، ويصطف الشباب في صفوف السحجة أو الدبكة أو الحداية، وفي اليوم الثاني كنا نزف العريس إلى الشارع العام، فيجلس العريس في ظل شجرة المال الكبيرة مع أغاني وأهازيج كثيرة منها:

عريسنا زين الشباب زين الشباب عريسنا
يا شمس غيبي من السما عالارض في عنا عريس
يا شمس غيبي واختفي بنور العريس بنكتفي

هذا وكانت تقام مسابقات للخيالة على مقربة من مكان زفة العريس التي تجوب القرية وصولاً لبيته حيث يتم تقديم مائدة طعام الفرح. نعم هكذا كان أهالي كفر عنان يعيشون حياة هادئة مطمئنة لا يشوبها شيء، بل كلها رجاء ومحبة وأمل.

ثم يستدرك قائلاً: "كان والدي أحمد مصطفى منصور رحمه الله تعالى مختار القرية، وعنده يجتمع أهلها، ليحتسوا لديه القهوة العربية السادة، ويستمعوا إلى الحكواتي يوسف العاصي، الذي كان يروي حكايات الزير سالم وتغريبة بني هلال، ومآثر عنترة بن شداد وبطولاته".

يأخذنا الأستاذ حسن إلى مقبرة القرية، ليخرج مصحفًا كان قد خبأه تحت الحجارة، ويقول: "أنا كل يوم أخرج هذا المصحف لأقرأ سورة يس على أمواتنا من أبناء القرية"، ويخبرنا أن هناك مقبرة تضم رفات سبعة شهداء قتلتهم العصابات الصهيونية على مفرق كفر عنان. ويذكر لنا أن الصغار لطالما رافقوا ذويهم في زيارة المقابر، "وكانوا يأكلون كعك العيد، وكانت أيامًا مليئة بالخير والمحبة والسلام ولا تنسى".

ويستذكر الأستاذ حسن حادثة استشهاد جميل خالد اليوسف، الذي اصطحبه عسكريان إسرائيليان لإخراج البندقية التي كان يمتلكها والده وتسليمهم إياها، فأخبرهم أنه لا يعلم مكانها "فأردوه قتيلاً داخل منزله، ثم جاء عسكريان آخران لمنزل نايف سليم يوسف منصور وطلبا منه تسليمهما البندقية فأخبرهما أنه قام بدفنها بين أشجار السدر، ودخل بين الأشجار الكثيفة، وخرج من الناحية الأخرى ولاذ بالفرار، وبعدما طال عليهما الانتظار صارا يطلقان النار باتجاهه بدون جدوى، فلقد اختفى عن الأعين، وهرب إلى لبنان وعاش هناك حتى قضى نحبه".

احتلال القرية وهدمها وخداع أهلها

وسرد الأستاذ حسن أحداث احتلال القرية وهدمها الذي بدأ في عام 1948 إلى أنها دُمرت بالكامل عام 1952: "كانت الحياة هانئة في وطني وبلدتي إلى أن أتى ذلك اليوم المشؤوم.. يوم اُحتلت البلدة في 30/10/1948 دون مقاومة، ودون إطلاق رصاصة واحدة، لا من جانب الأهالي الآمنين، ولا من قبل قوات الاحتلال حينها، ومر الجيش قرب القرية، وخيّم على مفرق كفر عنان، وهو ما يسمى اليوم مفرق سبعة على بعد 1.5كم غربًا عن القرية، ولم يقاوم حينها أهل القرية لأن جميع المناطق المحيطة كانت قد سقطت وهي: طبريا، الناصرة، حيفا، عكا، صفد، ولم يتبقَ إلا بعض القرى من قضائي عكا وصفد. كما أن جيش الإنقاذ الذي كان يرابط قرب القرية انسحب ليلاً، قبل يوم واحد من احتلال القرية ودون علم أحد. عدا عن ذلك فان عددًا من أهالي قرية عيلبون كانوا قد وصلوا إلى كفر عنان هاربين إلينا، فأخبرونا بأن الجيش قد احتل قريتي المغار وعيلبون وهو في طريقه إليكم، عندها رُفعت الأعلام البيضاء على أسطحة المنازل.

وفي 31/10/1948 جاءت مجموعة من الجيش الإسرائيلي، وقالوا للمختار أن يطلب ممن تركوا القرية العودة إليها وقال الجيش حينها مخادعًا: لقد أصبحتم الآن في آمان، لكن في صبيحة اليوم الثاني بتاريخ 2/11/1948 استيقظ أهالي القرية ليفاجؤوا بتطويقها من جميع الجهات، وطلب الجيش من السكان أن يتجمعوا في مكان يسمى الربعان أو مراح العجال وأن يتركوا البيوت مشرعة الأبواب. تجمع الأهالي في المكان المطلوب، وفي هذه الأثناء وفيما الناس مجتمعين بدأوا بنسف عدد من البيوت والغبار المنبعث من الركام يتطاير فوق رؤوسنا ليدبوا الرعب في النفوس، ثم أخذوا يضعون الشباب في مكان، والنساء والشيوخ والأطفال في مكان آخر قريب، ثم اختاروا ثمانية من الشباب وأطلقوا النار بعد أن عصبوا أعينهم والشباب هم:
1. حسن إبراهيم طه شقير
2. فواز إبراهيم طه شقير
3. سليمان احمد إبراهيم شقير
4. جميل خالد يوسف طه شقير
5. سعود اسعد محمد ناصر
6. عيسى كايد خشان
7. محيي الدين الشيخ طه
8. عبد القادر صفوري

ثم اقتادوا 36 شابًا في السيارات وأخذوهم إلى المعتقل من بينهم والدي والذي شغل منصب مختار القرية وكان عمره حينئذٍ ستين عامًا، أما نحن ومن تبقى من أهالي القرية فقد اقتادونا وهم يطلقون الرصاص فوق رؤوسنا إلى مفرق كفر عنان، ومنه اتجهنا إلى عين الأسد ثم بيت جن وأكملنا إلى حرفيش حتى وصلنا إلى بنت جبيل وبقينا هناك حتى 15 يومًا، ثم تم نُقلنا إلى صور ومنها إلى عنجر وهي قرية قريبة من مدينة زحلة ومن الحدود السورية، ثم إلى نهر البارد قرب طرابلس".

مصير القرية بعد تهجير أهلها وتقديم شكوى للعودة إليها

وتابع الأستاذ منصور; "هذا وقد بقي في القرية بعد الاحتلال الشيوخ الذين لا يستطيعون المشي، وكذلك بعض الناس الذين كانوا قد اختبؤوا في القرى القريبة أو المغر وعادوا إليها بعد أسبوع أو أسبوعين، أضف إلى ذلك أنه أثناء وجودنا في بنت جبيل في لبنان وصور عاد قرابة أكثر من ثلثي أبناء القرية إلى كفر عنان سرًا، وبدت القرية عامرة بأهلها، ولكن هذا لم يرق لصناع السياسة الإسرائيلية، إذ أنهم فرضوا طوقًا حول القرية بتاريخ 4/2/1949 وقاموا بترحيل السكان; قسم إلى قرية مجد الكروم والقسم الأكبر إلى الضفة الغربية حيث كانت حينها تحت سيادة الأردن. وفي عام 1952 قامت القوات الإسرائيلية بهدم القرية كليًا عندما شعرت بأن أهلها الذين بقيوا في إسرائيل قد وكلوا المحامي محمد نمر الهواري للمطالبة بإعادتهم الى قريتهم".

الشتات والأمل بالعودة

لا ينفك الأستاذ منصور متمسكًا بالأمل بأنه لا بد للحق أن ينتصر وتعود الأرض لأصحابها الشرعيين وبقول إن أهالي كفر عنان اليوم "مشتتون في أصقاع الأرض وأنحاء المعمورة: في لبنان، سورية، ألمانيا، الدنمارك، السويد، أستراليا وغيرها من الدول. إلا إنهم متمسكون بأرضهم رغم ما حل بهم من تشريد وتجويع وفقر، وهم ينتظرون ذلك اليوم الذي يعودون فيه إلى أرضهم ووطنهم".

وإلى أن يأتي "ذلك اليوم المنشود"، يتابع، "سيبقى أهالي كفر عنان، ثابتين على عهدهم ووعدهم، وستبقى وصية الكبار للصغار، وصية الأجداد للآباء والآباء للأبناء، والأبناء للأحفاد، وصية تنتقل من جيل إلى جيل، مفادها بأن لنا أرض وهوية ووطن انتزعه الاحتلال منا بالقوة، وتم اقتلاعنا من أرضنا اقتلاعًا، فلا يجب علينا نسيان أرضنا، بل الحفاظ عليها والتمسك بها، وأقول إياكم والتفريط بذرة تراب منها".

الأستاذ حسن منصور
الأستاذ حسن منصور
خارطة القرية مع خارطة البيوت وترتيبها وأسماء أصحابها قبل النكبة
أسماء 76 أسرة (عائلات) سكنت كفر عنان

التعليقات