أسطورة "جوليات" الفلسطيني..هل انتصرت أقلية على اكثرية في عام 1948؟../ مهند مصطفى*

-

أسطورة
تلعب الأسطورة (Myth) دورا هاما في الذاكرة الجماعية للشعوب، وفي صياغة الرواية التاريخية الجماعية، وكان دور الأسطورة فاعلا اكثر قبل ظهور البحث العلمي التاريخي وقبل ان تتحول الكتابة التاريخية الى عمل مهني في القرن الاخير. والأسطورة ببساطة هي القصص والروايات التي نقلها الاسلاف للاخلاف حول احداث تاريخية، ووجدت مرتعها في الذاكرة الجماعية والتاريخية للشعوب. وبرزت الأسطورة التاريخية بالذات في المواقع واللحظات التاريخية التي عجز فيها العقل عن تفسير أحداث تاريخية وسياسية، فتكونت حولها أساطير تحولت الى مركب هام في الهوية الجماعية والرواية التاريخية.

لست هنا بصدد دراسة ونقاش ونقد الادبيات التي تتعرض للأساطير، ولكن لا بد من القول إن كل ذاكرة جماعية لأي شعب تحمل أسسا أسطورية، واهتمام المؤرخين وعلماء السياسة والاجتماع بالأساطير هو فقط من زاوية تأثيرها على هذه الذاكرة الجماعية وعملية بلورتها.

في هذا المقال سأحاول ان اتطرق بعجالة الى احدى الاساطير التي تأسست عليها الذاكرة التاريخية الاسرائيلية، وهي أسطورة "جوليات الفلسطيني"، والتي تدعي ان أقلية (المجتمع اليهودي) غلبت أكثرية (الفلسطينيون) في حرب 1948، وقد غذت أبحاثا علمية وروايات وقصصا تاريخية وتقارير صحفية هذه الأسطورة بوعي وبدون وعي، بشكل مقصود وبشكل غير مقصود. ولا تحمل هذه الأسطورة معاني تاريخية فقط، بل تحمل معاني ايديولوجية كانت ملحة للحركة الصهيونية في عملية بناء الدولة. ولكن لم تبق هذه الأسطورة حكرا على الذاكرة التاريخية الاسرائيلية، بل تسربت الى الذاكرة التاريخية الفلسطينية، والتي بدورها انتجت أساطير أخرى مبنية على هذه الأسطورة، أساطير تشير الى مؤامرات وخيانات العرب والفلسطينيين في عام 1948، لأن التفسير العقلاني لا يمكن له ان يقبل انتصار أقلية على أكثرية بدون "مؤمرات وخيانات". بينما في الحقيقة إن ما حدث هو انتصار أكثرية (كما ونوعا) على أقلية، يحاول هذا المقال الادعاء انه يمكن تفسير النكبة عقلانيا رغم عدم غياب بعض خيوط المؤامرة في تفسيرها.

وتتلخص قصة جوليات في الذاكرة التاريخية اليهودية، والتي تذكرها الكتب الدينية اليهودية، (كتاب شموئيل، المجلد الاول، الفصل 17)، بانتصار داهود (الذي سيصبح ملكا فيما بعد) على جوليات من قوم العمالقة، وتشكل هذه القصة التاريخية رمزا هاما في الهوية الجماعية اليهودية، والتي تمثل انتصار الأقلية على الاكثرية، الضعف على القوة بسبب قوة الفكرة، الخير امام الشر، وقائمة طويلة من الثنائيات المطلقة التي تزخر بها الذاكرة التاريخية والتي غذتها أساطير أحاطت بالقصة.

انتقلت هذه الأسطورة الى كتب ومناهج التعليم في المدارس اليهودية، والتي كانت تدرس الطلاب ان المجتمع اليهودي (الييشوف) كان معرضا لخطر الإبادة ومحاطا بالجيوش العربية الكثيرة، ولكن استطاعت الاقلية بسبب صدق فكرتها واخلاقيتها هزيمة الاكثرية الفلسطينية. وقد ساهم في تكريس الأسطورة، التي تحولت الى قناعة تاريخية وحافز ايديولوجي، ابقاء الاحصائيات حول قوة المنظمات العسكرية اليهودية وفيما بعد قوة الجيش الاسرائيلي خلال الحرب في طي السرية والكتمان.

في العام 1999 اصدر المؤرخ "ايال نافيه" كتابا لمنهاج التاريخ للصفوف التاسعة في المدارس اليهودية، وقد ورد في الكتاب في الصفحة 143 الجملة اليتيمة التالية: "تقريبا في كل جبهة وفي كل معركة كان للجانب اليهودي أفضلية على العرب، سواء من الناحية التخطيطية، التنظيمية وتفعيل المعدات، وسواء من ناحية عدد المقاتلين المدربين الذين شاركوا في المعركة". أثارت هذه الجملة غضبا كبيرا في المجتمع الاسرائيلي، وطالب سياسيون، معلمون ولجان آباء وصحفيون وحتى مؤرخون بإلغاء هذا الكتاب ومقاطعته، واستمرت المعارضة للكتاب حتى تم تغيير كلمة "مدربين" في النص. في الحقيقة فان مراجعة الكتاب تبين ان الكاتب أشار في صفحات سابقة ان "العرب كانوا متأكدين من الانتصار بسبب تفوقهم العددي"، وليس مفهوما حتى الآن لماذا أورد الكاتب هذه الجملة بشكل يتناقض مع ما سبقها، ولكني أورد هذا المثال للإشارة فقط أن جملة واحدة في كتاب، تتناقض مع البناء الأسطوري للذاكرة التاريخية قد تثير مجتمعا بأكمله.

ما أدعيه في هذا المقال أن القوات اليهودية انتصرت في حرب 1948 لأنها ببساطة كانت أكثر عتادا، ولكن الأهم أكثر عددا. ففي الجدول المرفق في المقال يتبين من المعطيات، ان القوات اليهودية التي احتلت المدن الفلسطينية كانت في الحقيقة أكبر من القوات العربية- الفلسطينية التي تكونت بالأساس من متطوعين. وقد اخترت في هذا المقال حالة المدن الفلسطينية لأنه كان من المفروض أن تكون أكثر استعداد للحرب، فالريف الفلسطيني كان أضعف من المدن من حيث القوة الدفاعية، كما وكيفا. ولكي اثبت ما ادعيه اشير من الجانب الآخر من المعادلة، وهو ان البلدة القديمة والقدس الشرقية لم تسقط في عام 1948 لأن القوة اليهودية كانت اقل عددا من القوة العربية-الفلسطينية، حيث وصل عدد المقاتلين اليهود الى 200 مقاتلا فقط.

لست بصدد تحليل تاريخي لماذا كانت القوات العربية- الفلسطينية أقل عددا وعدة من القوة اليهودية، ولكن تحليل اللحظة التاريخية تشير إلى أن الأكثر عددا هو الذي انتصر، فعلى الرغم من ان تعداد الشعب الفلسطيني مقارنة مع تعداد المجتمع اليهودي كان بمعدل 1:2 لصالح الفلسطينيين، الا ان تعداد القوات اليهودية مقارنة مع القوات الفلسطينية-العربية كان بمعدل 1:2 لصالح القوات اليهودية في كل فترات الحرب. هنلك نقطة اخرى لا بد من الاشارة اليها ان سقوط المدن الفلسطينية تم قبل خروج القوات البريطانية من فلسطين، فيافا كانت آخر المدن التي سقطت قبل يومين فقط من موعد خروج القوات البريطانية، اي ان الحديث حتى الان يدور عن المرحلة التي سبقت دخول الجيوش العربية الى فلسطين، ولكن حتى دخول هذه الجيوش لم يغير شيئا من "أسطورة جوليات الفلسطيني"، وهو موضوع لمقال آخر باذن الله.

 






























 


القوة اليهودية


القوة العربية-الفلسطينية


تاريخ سقوط المدنية


طبريا


مئات


30


18/4/1948


حيفا


2000- لواء كرملي


500


22/4/1948


صفد


1000- لواء البلماح


400


29/4/1948


يافا


5000- الهاغاناة والارغون


1500


13/5/1948


 

يقف الادعاء الذي نناقشه أمام ادعائين نقديين مركزيين، الادعاء النقدي الاول يقول ان الأسطورة صحيحة لانه عاش في فلسطين عشية حرب 1948 اكثرية فلسطينية واقلية يهودية، بمعدل يصل الى 1:2 لصالح الفلسطينيين. هذا الادعاء صحيح بالمعنى التقليدي لمفهوم الاقلية والذي يركز على الاكثرية العددية للسكان فقط، وهذا الادعاء غير صحيح بالمفهوم المعمق للاكثرية، والتي هي بالاساس التي تملك الموارد والقوة والقدرة النوعية. فالتجارب التاريخية والسياسية تؤكد قدرة اقليات عددية من السيطرة على الاغلبية بفضل سيطرتها على الموارد وقوتها النوعية، ولكن هذه الاقلية لم تدخل ضمن الاطر المعرفية لدراسة الاقليات بسبب اختلافها عن الاقليات المهمشة والضعيفة، بسبب سيطرتها على الموارد المادية والرمزية في الدولة، واكبر مثال على ذلك هي حالة الابرتهايد في جنوب افريقيا.

وكما اشرنا فانه حتى انسحاب القوات البريطانية من فلسطين في منتصف ايار 1948، كان التفوق العددي والنوعي للقوات اليهودية واضحا في المرحلة الاولى من الحرب، والتي تسمى في علم التاريخ الاسرائيلي "حربا اهلية". واستحضرنا كمثال سقوط المدن الفلسطينية والتي اظهرنا من خلال المعطيات التفوق العددي للقوات اليهودية على القوات العربية-الفلسطينية التي دافعت عن المدن، وكان غالبيتها من المتطوعين.

اما الادعاء النقدي الثاني فيشير الى ان الادعاء الذي نفترضه كان صحيحا في المرحلة الاولى من الحرب، اي حتى دخول القوات العربية الى فلسطين بعد انسحاب اخر جندي بريطاني في منتصف ايار 1948، حيث نبع التفوق اليهودي العددي والنوعي بسبب النتائج الكارثية للثورة الفلسطينية الكبرى على المجتمع الفلسطيني والجاهزية الدفاعية والقتالية (والتي سنناقشها في مقال لاحق)، ولكنه غير صحيح بعد دخول الجيوش العربية الى فلسطين في منتصف ايار 1948، حيث ان دخول هذه الجيوش باعدادها المؤلفة كسر عمليا التفوق العددي للقوات اليهودية، بالاضافة الى ان 600 الف يهودي عاشوا في فلسطين استطاعوا الانتصار على 40 مليون عربي، هم تعداد الشعوب العربية للدول المشاركة في الحرب في ذلك الوقت. وحتى هذا الادعاء الثاني غير صحيح من ناحية المعطيات التاريخية لعدد القوات المشاركة في الحرب.

يبين الجدول المرفق في المقال تطور القوات العربية واليهودية خلال الحرب، ففي شهر ايار، دخل الى فلسطين حوالي 28 الف جندي عربي، ولكن كان يبلغ تعداد القوات اليهودية حوالي 32 الف جندي، وبعد خمسة شهور وفي ذروة استمرار السيطرة اليهودية على البلاد، ازداد عدد القوات العربية ليصل الى 53 الف جندي، بينما ارتفع عدد القوات اليهودية الى 95 الف جندي، وواضح من هذه المعطيات الماخوذة من كتابات البروفيسور "يهوشوع بن ارييه" وكان هو نفسه الضابط الذي كلفه قائد هيئة الاركان موشيه ديان، في منتصف الخمسينات بجمع المعطيات عن حرب 1948، بعد ان تم تعيينه كرئيس لشعبة التاريخ في الجيش. وقد ذهل "بن ارييه" عندما وقعت يديه على معطيات تشير الى عدد القوات العربية في فلسطين، ولكن بقيت هذه المعطيات سرية حتى نشرها "بن ارييه" في العديد من مؤلفاته ومقالاته، وانا بدوري اقوم باستحضارها للقاريء العربي في هذا المقال، وذلك للتأكيد على الادعاء الذي اناقشه في هذه السلسلة.

اذن، نصل الى نتيجة انه على الرغم من دخول الجيوش العربية الى فلسطين في منتصف ايار عام 1948، فان ذلك لم يغير من تفوق القوات اليهودية والتي حاربت اقلية عربية في كل الجبهات تقريبا، وانتصرت عليها بسبب تفوقها العددي وتفوقها النوعي، ولكن ذلك لا يمنعني من القول انه كان هنالك بطولات سطرها المقاتلون اليهود في مختلف الجبهات على الرغم من تفوقهم العددي في غالبية المواقع، ولا تمنعني هذه الحقيقة من القول ايضا ان التفوق العددي كان مدفوعا ايضا بايمان كبير بالانتصار وبمعنويات عالية، والاهم بتخطيط محكم وتحضير سابق للحرب.

 









































عدد الجنود


نهاية ايار 1948


تشرين الاول 1948


العراق


5,000


18,000


مصر


5,500


15,500


الاردن


6,500


9,000


سوريا


6,000


6,000


لبنان


2,000


2,000


قوات غير نظامية


3,000


3,000


مجمل القوات العربية


28,000


53,000


القوات اليهودية


32,000


95,000


 

التعليقات