مقالة صهيونية مدسوسة في كانون الثاني/ يناير 1948../ د.محمد عقل*

-

مقالة صهيونية مدسوسة في كانون الثاني/ يناير 1948../ د.محمد عقل*
بين أيدينا مقالة بعنوان "نداء الإنسانية والواجب – عملاً بمبدأ حرية النشر وخدمة للحقيقة والحق يرجى نشره"، مُؤرّخة في 12/1/1948 موجودة حالياً في أرشيف الهاغاناه في تل أبيب.

قبل عرض هذه المقالة أمام القارئ فيما يلي تحليل لمضمونها ودلائل داخلية وخارجية قاطعة على كونها مقالة صهيونية مدسوسة:

1) جاءت المقالة بصورة نداء على لسان مثقف عربي يُسَمِّي نفسه بالرجل المجهول، وهو، كما يبدو لأول وهلة، من سكان برج البراجنة بالقرب من بيروت، وكان له زملاء في الدراسة من الصهاينة الذين يعيشون في فلسطين، وهو يؤمن بأن لبنان ليس إلا جزيئاً صغيراً من بر الشام الذي أصبح بفضل الاستعمار والانتداب والوطنية المحلية دولاً وبلداناً، وعملاً بمبدأ حرية النشر وخدمة للحقيقة والحق يرجو نشر هذا النداء في الصحف العربية والعبرية وغيرها لوضع حد للفوضى والفظائع في فلسطين.

2) ليس لدينا شك في أن هذه المقالة صادرة عن القسم العربي في الدائرة السياسية للوكالة اليهودية، ومن تأليف إلياهو ساسون رئيس هذا القسم بين السنوات 1933-1948، إذ أن إلياهو ساسون كان قد تعلم في الكلية الفرنسية في بيروت، وكان له زملاء في الدراسة من بين النخب العربية في سورية ولبنان.

وهو، كما برهن د.محمود محارب، كان قد نجح بين سنة 1936 وسنة 1939 في نشر أكثر من 280 مقالاً صهيونياً مدسوساً في الصحف السورية واللبنانية يهاجم فيها الثورة الفلسطينية ويبرر مواقف الحركة الصهيونية وينافح عنها.

في 12 يناير 1948 لم يكن أمام إلياهو ساسون من سبيل سوى أن يصدر نداء، ويطلب نشره عملاً بمبدأ حرية النشر وعلى لسان رجل مجهول ما يدل على أن المساحة التي يعمل عليها أصبحت ضيقة جداً، ولم يبق أمامه سوى العمل على تقسيم لبنان إلى أجزاء، وتأييد مشروع سورية الكبرى إرضاء للملك عبد الله، ملك المملكة الأردنية الهاشمية، الذي كان لا يزال يحلم بتوسيع رقعة مملكته.

3) كانت فكرة إعلان الجهاد في البلاد العربية للدفاع عن فلسطين تقلق بال الحركة الصهيونية، ولذلك عملت على زعزعة ثقة العرب بالذين يدعون إليه حيث جاء في المقالة: " يدعو إلى الجهاد في فلسطين رجال صادقون مخلصون، ولكن ليس كل من دعا إلى الجهاد صادق... فمنهم من يدعو إلى الجهاد وهو استغلالي، إنتهازي، نفعي، ثعلبي يدعو هنا ويتنصل هناك". وهو يشير بطرف خفي إلى مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني ومن يؤيده من العلماء في العالم العربي.

4) قام القسم العربي في الدائرة السياسية للوكالة الصهيونية بدراسة لنفسية العربي، وقدم توصيات حول كيفية التعامل معه، فمن الأشياء التي ترضي العربي وتنفخ أوداجه هو وصفه بالأبي، والشريف والحليم والقوي، فقد جاء في المقالة: "نحن العرب سبعون مليوناً، فإذا دعونا إلى المسالمة والمهادنة فنحن الأقوياء والحلم شيمة العرب... إن أجدادنا العرب قهروا الغزاة المعتدين وردوهم خائبين، فهل يحسب الصهيونيون أنهم هم يفوزون! أجل ما كان الفوز إلا للحق وأصحابه، ولن يكون الفوز للمعتدي ولو كان قوياً كما كان هتلر".

من الواضح أن كاتب المقال قصد أن يُذكِّرَ العرب بأنهم مهما كانوا أقوياء فإنهم لن يبلغوا ما بلغه هتلر من قوة، وأن النصر حليف صاحب الحق لا صاحب القوة، وبما أن المقالة ترجمت ونشرت في الصحافة العبرية والغربية فقد دأب كاتب المقالة على تذكير الصهاينة بالكارثة على لسان العربي بما يلي: "...فهلا عاد الصهيونيون عن غيهم وضلالهم وأذعنوا للحق وسالموا قبل فوات الأوان، إني أخشى كثيراً أن يلقوا في فلسطين وغيرها أسوأ مما لقوا في ألمانيا!...".

هذا الهاجس عبر عنه إلياهو ساسون وقادة الصهاينة بعد صدور قرار التقسيم في 29/11/1947 وكانوا يهدفون من وراء ذلك تجنيد الشعوب الأوروبية في سبيل إقامة الدولة اليهودية بحجة منع تكرار المحرقة. وفي مكان آخر يقول كاتب المقالة: "فلنكن معشر العرب شرفاء أباة جميعاً ولنترفع عن الاغتيال والتقتيل"، وهو يؤيد إعلان الصهاينة الحرب على الفلسطينيين حيث يقول: "إن الحرب بلاء وشر ولكنها خير وصلاح إذا هي قوبلت بالاغتيال والتقتيل والفوضى والتدمير وغيره".

5) ورد في المقالة أن "إخواننا في فلسطين هم كأنفسنا، فإذا أوذي أحدهم فكأن الأذى واقع علينا"، ولكن الكاتب لا ينفك من وصف العنف ورمي القنابل والتقتيل والاغتيال والنهب والسلب والحرق والتدمير وقطع الأشجار في فلسطين على يد من يسميهم بالجبناء الآثمين من الجانب العربي، أما في الجانب الصهيوني فهو يتهم أقلية صهيونية، خرقاء، جبانة كعصابات شتيرن وأخواتها بالشرور والاعتداءات.

6) لا يستعمل كاتب المقالة كلمة "اليهود" بتاتاً، وإنما كلمة "الصهيونيون" بمفهومها الايجابي وليس السلبي، وهو أمر يؤكد على أن كاتبها صهيوني!، والكاتب يرى أنّ على "العقلاء والمفكرين فيهم حل المشكل رأساً بدون وسيط... وإذا هم كانوا يرون أنهم على حق، فليطلبوا تحكيم شخصية عالمية كالزعيم الهندي غاندي لعلهم ينجون من بلاء عظيم". ثم يؤكد على لسان العربي: "الصهيونيون بشر مثلنا، الأكثرية بريئة تنقاد فتتحمل نتائج سياسة الأقلية الخرقاء واعتدائها وشرورها".

في 17 نوفمبر 1947 سافر إلياهو ساسون وعزرا دانين مع غولده مائير إلى مستعمرة "نهارييم" الواقعة على الضفة الشرقية من نهر الأردن حيث اجتمعا إلى الملك عبد الله، واتفقوا على تقسيم فلسطين بحيث يقيم الصهاينة دولتهم على القسم المخصص لهم، ويضم الملك القسم المخصص للعرب إلى مملكته، وقد اتفق الطرفان على أنه يجب وقف "الاضطرابات والفوضى" لتحقيق هذا المشروع. في هذا السياق يمكن فهم أقوال كاتب المقال الذي لا يرى ضرورة لوجود وسطاء، ويمكن حل المشكلة بالمفاوضات المباشرة.

7) منذ صدور قرار التقسيم وحتى بداية شهر أبريل 1948 كانت الحرب في صالح الفلسطينيين حيث كانوا يهاجمون المستعمرات والمدن والمواصلات الصهيونية، وقد عانى الصهاينة من ذلك كثيراً، وينعكس ذلك في المقالة حيث ورد :"إن الاغتيال والغدر والنهب والسلب والحرق والتدمير وقطع الأشجار هو عمل الجبناء، وكل شريف أبيّ يأبى أن يشترك، أو أن يوافق، أو أن يسكت عن تقتيل المارة وعابري السبيل ولغم البيوت والدور ورمي القنابل في الأسواق بل يقف في وجه الاعتداء والفوضى والغدر ولا يتراجع البتة، ولو عَرَّضَ نفسه للخطر، وليس يرضى دوام الفوضى وتقتيل الأبرياء إلا كل جبان لئيم...".

8) يقول كاتب المقال على لسان العربي: "لنعد العدّة لهجوم عسكري، كاسح، صاعق للصهيونيين وكل من يؤيدهم مسخرين جميع ما في البلاد العربية من مال ورجال في هذا السبيل، أما التظاهر والتبرع فما أجدى ولن يجدي وإن هو إلا ذر رماد في العيون... وإذا كنا جادين غير هازلين فليكن عمل صحيح ولتكن حكومة صالحة للعمل... ولا بد من إيجاد مجالس نيابية صحيحة". وفي هذه الأقوال دعوة للتخلي عن الفلسطينيين وعدم تقديم المساعدة المالية لهم، والانتظار إلى حين تأليف حكومات عربية ديمقراطية، وهو يدعو إلى عدم التظاهر بهدف تخفيف الضغط الجماهيري عن الحكام العرب.

9) كاتب المقال مثقف رفيع المستوى، ولغته فخمة، وتخلو تقريباً من الأخطاء اللغوية، ما يدل على أن كاتبها ليس بمستشرق، وهي صفات يمتاز بها إلياهو ساسون الذي ولد في دمشق وتعلم في مدارس عربية، وكان يرئس القسم العربي في الدائرة السياسية للوكالة اليهودية.

10) كان إلياهو ساسون منذ سنة 1946 يرى أنه من أجل إحداث تغييرات في العالم العربي يجب العمل على تقسيم لبنان، ومساعدة الهاشميين على السيطرة على سورية الكبرى، وإخراج شمال إفريقيا من إطار الجامعة العربية، وتشجيع الأقليات على الثورة، وجميع هذه المشاريع تصب في خدمة المصالح البريطانية في الشرق وتمكن بريطانيا من الحفاظ على جيوشها في هذا الجزء المهم من العالم.

خلال سنة 1947 وفي الأشهر الأولى من عام 1948 أكد إلياهو ساسون في تقاريره التي قدمها إلى رئيس الدائرة السياسية على التناقضات الداخلية التي ازدادت حدة في العالم العربي، حيث كتب يقول: "ليس سرّاً بأنه بين الزعماء العرب في الدول المجاورة هناك من لا يتعاطفون مع المقاومة الصلبة التي يبديها الفلسطينيون، وهم مستعدون لإعادة النظر في قبول التقسيم"، ويضيف ساسون: "بأن الصعوبة لدى الزعماء العرب ليس فقط في رفض قيام دولة يهودية على جزء من فلسطين، وإنما في الأساس بسبب عدم الاتفاق على مصير الجزء العربي من فلسطين".

11) تكشف هذه المقالة الجهد المتمادي الذي بذلته الوكالة الصهيونية منذ ثلاثينيات القرن العشرين للتأثير في الرأي العام العربي عن طريق استغلال المنشورات والصحافة، وفيما يلي نص المقالة المذكورة:


نداء الإنسانية والواجب- عملاً بمبدأ حرية النشر وخدمة للحقيقة والحق يرجى نشره

يدعو إلى الجهاد في فلسطين صادقون مخلصون، ولكن ليس كل من دعا إلى الجهاد صادق... فمنهم من يدعو إلى الجهاد وهو استغلالي، انتهازي، نفعي، ثعلبي يدعو (هنا) ويتنصل (هناك)!..

نحن العرب سبعون مليوناً فإذا دعونا إلى المسالمة والمهادنة فنحن الأقوياء والحلم شيمة العرب...

إن أجدادنا العرب قهروا الغزاة المعتدين وردوهم خائبين فهل يحسب الصهيونيون أنهم هم يفوزون!

أجل! ما كان الفوز إلا للحق وأصحابه ولن يكون الفوز للمعتدي ولو كان قوياً كما كان هتلر... فهلّا عاد الصهيونيون عن غيهم وضلالهم وأذعنوا للحق وسالموا قبل فوات الأوان، إني أخشى كثيراً أن يلقوا في فلسطين وغيرها أسوأ مما لقوا في ألمانيا!...

إن العنف والفوضى لأشرُّ ما يمكن أن يُمنى به بلد، وإن إخواننا في فلسطين هم كأنفسنا فإذا أُوذي أحدهم فكأنَّ الأذى واقع علينا!.. والصهيونيون بشر مثلنا، والأكثرية بريئة ولكنها تنقاد فتتحمل نتائج سياسة الأقلية الخرقاء واعتدائها وشرورها...

عسى يثوب الصهيونيون إلى رشدهم ويسمحوا للعقلاء والمفكرين فيهم بأن يحلوا المشكل رأساً بدون وسيط... وإذا هم كانوا يرون أنهم على حق فليطلبوا تحكيم شخصية عالمية كالزعيم غاندي لعلهم ينجون من بلاء عظيم!...

إن الاغتيال والغدر والنهب والسلب والحرق والتدمير وقطع الأشجار هو عمل الجبناء، وكل شريف أبيّ يأبى أن يشترك، أو أن يوافق، أو أن يسكت عن تقتيل المارة وعابري السبيل ولغم البيوت والدور ورمي القنابل في الأسواق بل يقف في وجه الاعتداء والفوضى والغدر ولا يتراجع البتة ولو عَرَّضَ نفسه للخطر وليس يرضى دوام الفوضى وتقتيل الأبرياء إلا كل جبان أثيم...

إن الشعب الأبيّ الشريف عند وقوع اعتداء عليه يصلح من أموره ما اعوّج ولا يدع حجة للاعتداء عليه ويعد عدته للحرب بقوة وحزم حتى يهابه العالم أجمع. إن بعض الصهيونيون (كذا) جبناء وأشرار فلنكن معشر العرب شرفاء أُباة جميعاً ولنترفع عن الاغتيال والتقتيل، ولنعد العدّة لهجوم عسكري كاسح صاعق للصهيونيين وكل من يؤيدهم مُسخّرين جميع ما في البلاد العربية من مال ورجال في هذا السبيل. أما التظاهر والتبرع فما أجدى ولن يجدي وإن هو إلا ذر رماد في العيون... وإذا كنا جادين غير هازلين فليكن عمل صحيح ولتكن حكومة صالحة للعمل... ولا بد من إيجاد مجالس نيابية صحيحة.

إن الحرب بلاء وشر ولكنها خير وصلاح إذا هي قوبلت بالاغتيال والتقتيل والفوضى والتدمير وغيره.

إن في المعسكر الصهيوني رفاق دراسة بالجامعة فأرجو أن يكون لبعضهم الشجاعة الكافية لقول الحق في وجه عصابات الشِّتِرن (الشتيرن) وأخواتها كما وإني أرجو أن يؤيد كل عربي أبيّ كلمة الحق، وعسى أن تنشر الصحف العربية والعبرية وغيرها هذا النداء لوضع حدّ للفوضى والفظائع...

يصدر هذا النداء عن برج البراجنة قرب مدينة بيروت في الجزيء اللبناني من الجزء الشمالي- بر الشام- الذي أصبح بفضل الاستعمار والانتداب والوطنية المحلية دولاً وبلداناً...

12/1/48 الرجل المجهول



.

التعليقات