ستون عاماً على النكبة.. حلم بن عامي وميلاد برلسكوني!../ عبداللطيف مهنا

ستون عاماً على النكبة.. حلم بن عامي وميلاد برلسكوني!../ عبداللطيف مهنا
لاحتفالية الغرب وإسرائيل بمرور ستين عاماً على نكبة فلسطين وقيام إسرائيل على أنقاضها مفارقاتها. أول ما يمكن ملاحظته لمن يتتبع وقائعها، هو ما يبدو وكأنما الغرب، أو جوقة القادمين لتمثيله فيها، أو من جاؤوا للإيهام بمشروعية الجريمة، وليسهموا في استمرارية فرضها، هو أو هم أكثر تصديقاً لما يراد لها أن تعنيه هذه المناسبة وأشد حماسة للمشاركة في إحيائها من الإسرائيليين أنفسهم.

وإذا كان الطرفان، الأصل الغربي، والفرع الإسرائيلي، يبتهجان لها في مغالاة مدروسةً تعطي انطباعاً بنوع من الافتعال، إلا أن هذا لا يحجب هاجساً طغى وكبر وازداد تعمقاً مع الستين عاماً من تكريس الاغتصاب الناجم عن سطو مسلّح على أوطان الغير، ليغدو اليوم وكأنما هو حديث المناسبة... ماهو:
إنه ما يطرح اليوم، أو تكثّف هذه المناسبة طرحه، حول نهاية ما يحتفل راهناً بفرضه بالحديد والنار وسياسات المذابح لستين عاماً دمويةً خلت... نعني ما يعبّر عنه الإسرائيليون أنفسهم ب"نهاية إسرائيل"...

هذا الكلام ليس من عندنا، وإن شئتم تابعوا اللغط الإسرائيلي حول المناسبة، أو ما أثارته لدى الإسرائيليين من خليط من زهو وقلق يصل مرتبه الذهان.

نحن هنا إزاء كيان غير طبيعي، ويعاني، رغم كل ما يتاح له من أسباب القوة الغربية المصدر والأساس، هشاشة تلازمه منذ كان اختلاقه المفتعل... كيان لا يتمكن، مثلاً، من الاحتفال بذكرى اصطناعه بدون إحكام أقفال كل منافذ الحياة على أهل البلاد الحقيقيين الذين يغتصب وطنهم. لكن قبل الاستطراد في مقاربة هذا، نعود إلى المفارقات التي وسمت هذه الاحتفالية الغربية-العبرية، التي أشرنا إليها آنفاً، وإذا كنّا قد سردنا بعض الأمثلة في مقال سابق، فيما يتعلق بالغرب المحتفي المتحمس، فنعرض اليوم لمثالين جديدين، نختارهما من غير المعهود الأنكلوسكسوني والفرنسي السائد، هما، إيطالي هذه المرّة، وألماني مرّة أخرى:

برلسكوني العائد قريباً إلى السلطة في إيطاليا، يكتب في صحيفة "يدعوت أحرونوت" الإسرائيلية مقالاً يوقفه على هذه المناسبة العزيزة على قلبه، مبالغاً في إبداء عواطفه تجاه شعب الله المختار ربما بما يفوق حتى غلاة الإسرائيليين أنفسهم، لدرجة قوله، أنه "فينا جميعاً يوجد بعضاً من بنى إسرائيل. يوم ميلاد إسرائيل هو بالتالي يوم ميلادنا"... هذا الميلاد، أو ميلاده المعجزة التي لا تقارن عنده بما دعاه "ميلاد جيرانها الذين لازالوا يبحثون عن هوية"، ويقصد طبعاً العرب!
لكن وزير خارجية ألمانيا، وهنا نأتي إلى المثال الثاني، يكتب في ذات الصحيفة ليقول قولاً يجمع بين افتتان برلسكوني العبري وبين تملق هواجس الإسرائيليين الوجودية المزمنة، عندما يعتبر مسؤولية بلاده تجاه إسرائيل إحدى الأسس التي ترتكز عليها الدولة الألمانية، فيقول:

"إن أي أحداً في العالم ليس مخولاً بأن يشكك بحق وجود دولة إسرائيل، إذا تجرأ أحد على عمل ذلك، فنحن سنقف بتصميم ضده. بلادي واعية للمسؤولية التي تتحملها تجاه إسرائيل، والاعتراف بذلك هو أحد الحجارة الأساس التي بنيت عليها بعد الحرب العالمية الثانية ألمانيا الأخرى".

إسرائيلياً، لعل مزيج النقيضين، الزهوّ والقلق، والارتباك الناجم عن الإحساس المتضخم بالقوة إلى جانب عقدة الاحساس العميق بالهشاشة هو ما لم يقو على إخفائه تبججات بيرز أو مكابرات أولمرت رئيس الوزراء في هذه المناسبة، حيث ينوء الأخير تحت طائلة التحقيق الغامض في فضيحة فساد مكتومة نبشت له من الأرشيف عمرها إحدى عشر عاماً، ومما يقوله في هذه المناسبة، أنه "في الذكرى الستين، يمكننا القول أن الله قد أوفى بوعده"، لشعب الله المختار!

لكنما، ونحن هنا نختار غيضاً من فيضٍ، فإن خير ما يعبر عن كيان مأزوم بعد ستين عاماً من إيجاده هو ما كتبه شلومو بن عامي وزير الخارجية السابق ملاحظاً، من أن "الآباء المؤسسين حلموا بمجتمع منسجم من مواليد البلاد، بالإنسان الجديد للثورة الصهيونية، ولكن هذا الحلم تحطّم إلى شظايا". وليس هذا فحسب، وإنما يُفزع بن عامي أن "إسرائيل ولدت في الحرب، ومنذئذٍ وهي تعيش على الحراب". والأهم هو، كما يقول، أن هناك "مشكلة لا حلَّ لها! تحويل الدولة اليهودية إلى شرعية في نظر أولئك الذين يشعرون بأنهم ضحاياها"...

الإحتفالية الغربية - الإسرائيلية كانت مزيجاً من عرض للقوة، والإيغال في الاحتياطات الأمنية المشددة التي حولت الكيان إلى ثكنة تحتفل، وهذا أمر منطقي بالنسبة لمخلوق غير طبيعي لا يطمئن إلى مستقبله في بيئة يدرك أنه غريب عليها وفرض وجوده فيها بالقوة والقهر، وديدنه أن يلح دائماً على اعترافها به والتطبيع معه، وعلى انتزاع قبولها به عنوةً، إلى جانب مواصلة تحصنه الملازم لوجوده ضدها، واعتباره أن انفتاحه عليها يشكل نهايةً له. وحيث يظل يدرك قبل سواه أن القوة لا تمنحه شرعية، كما أشار بن عامي، ولا اطمئناناً، كما يعكسه قول لصحيفة "يدعوت أحرنوت"، من مثل: "ستون عاماً، ولا يزال ليس مقبولاً علينا مجرد هذه الفكرة، في أن من المؤكد أننا سنكون هنا بعد في زمن مضاعف من هذا". وقول لمدير مكتب رابين سابقاً، مثل: "يقولون أن الشعوب لا تختفي، لكن هذه أقوال سخيفة"!

لماذا، كل هذا القلق الإسرائيلي، رغم أن الغرب يجيء يومياً، ساسة وسلاحاً ومالاً وسياسية، لتثبيت هذا المخلوق، مخلوقه الهجين المرفوض من جسد المنطقة، ويتفنن في محاولة إعادة ترتيب وتصميم ورسم خطوط هذه المنطقة طولاً وعرضاً لتصبح فيها إسرائيله مركزاً ومقرراً، أو يقدم على تمزيق التاريخ والجغرافيا والبشر والحضارة لتغدو ربيبته المدللة ليست في حكم الأقلية فيها؟!

إنهما سببان، طبعاً إلى جانب إحساس المجرم دائماً بأن أمنه مفقود، لأنه، كما يقول المثل الدارج، ما ضاع حق وراءه مطالب، لا سيما وأن صاحب الحق العربي الفلسطيني لازال موجوداً رغم كافة أشكال محاولات الإبادة الوطنية والمعنوية المادية التي مورست ضده، وهما:

الأول: الاحساس بالهشاشة التي مصدرها، أنه بلا المال والسلاح والدعم الغربي الدائم، وفي مختلف الأوجه، وحماية وتغطية الفيتو الأمريكي الجاهز أبداً لجعلها المعصومة وفوق القوانين والشرائع والمواثيق والقيم الدولية والإنسانية، لايمكن لها الاستمرار لا راهناً ولا مستقبلاً، ومن هنا تأتي حالة الرعب الدائم من مجرد فكرة احتمال فقدان حنان الحاضنة الغربية التي تجيء اليوم للاحتفال يإختلاقها الذي مر عليه ستين عاماً.

الثاني: وبما أن استمرار اسرائيل الذي يعادل استمرار نكبة فلسطين، رهن بالقوة التي تفرض هذا الاستمرار، فإن أي تقصير في تفوقها يعادل رعباً يلتاثها، وقلقاً يطرح مصيرها قيد البحث، أو ما يدعونه هم دائماً "نهاية إسرائيل"، فاليوم، وبعد الانكفاء من جنوب لبنان اندحاراً عام الألفين تحت ضربات المقاومة، الذي عنى اصطدام المشروع الصهيوني بحدود قدرته على التوسع، ودروس الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ثم ما تلقنه في حربه العدوانية الأخيرة الفاشلة على لبنان، ومؤشرات التطورات التي تشهدها المنطقة إثر تعثر المشروع الأمريكي الذي يواجهه مقاومة عنيدة في العراق المحتل، يدرك الإسرائيليون قبل سواهم، وأكثر من برلسكوني، أن أسطورة الردع التي هندسها بن غوريون الراحل وشمعون بيرز الذي لا يزال حياً، قد انهارت تماماً، لدرجة أن يحذر جنرال دموي مثل باراك من "ضعف الجبهة الداخلية"، مذكراً بأن إسرائيل عليها دائماً "أن تنتصر بسرعة"، وإلا زالت، ويصارح الإسرائيليين، منذراً: أن حزب الله يمتلك "أربعين ألف صاروخ... يصل بعضها إلى منازلكم وإلى هذا المقر"، أي إلى وزارة الحرب التي هو وزيرها... بمعنى أن توازن الرعب قد غدا واقعاً وإن غاب حتى الآن توازن القوة.

... لذا ولما تقدم، يجهد الغرب والإسرائيليون لفرض تسويات سياسية مرحلية، تفضي إلى تصفية القضية الفلسطينية، وليس سلاماً ينافي أصلاً طبيعة هذا المخلوق الذي يحتفلون اليوم بمرور ستين عاماً على اختلاقه... ولهذا قدمت كونداليسا رايس، مثلاً، خمسة عشر مرة إلى المنطقة خلال عامين، ويجيئها بوش هذه الأيام، لآخر مرة وهو في السلطة، محتفلاً بنكبتنا، ليسبقه إليها كلاماً منه من نوع: "مازلت آمل أننا سنتوصل إلى اتفاق بحلول نهاية ولايتي الرئاسية"، ثم تأكيده بأن حماساً تشكل "مشكلةً مهمة للسلام العالمي"... واتهامه سوريا التي مدد العقوبات ضدها بدعمها... ودون أن ينسى القول بأنه هناك ثمة "شائعات" بأن إيران تساندها..!

... الغرب وإسرائيل يحتفلون بمرور ستين عاماً على نكبتنا، على قيام إسرائيل على انقاض فلسطين، ولهذه الاحتفالية بهذه الجريمة مفارقاتها... مفارقات لازمت وجود ثكنته المتقدمة إسرائيل، أو هذا الكيان الذي يقولون في الغرب نفسه أنهم "لو أدخلوا جميع المعطيات عن دولة إسرائيل في الحاسوب لانهار الحاسوب وانفجر"!!!

التعليقات