الجاليات الفلسطينية في المهاجر (2)../ صبري حجير*

-

 الجاليات الفلسطينية في المهاجر (2)../ صبري حجير*

سنين طويلة مضت على الهجرة الثانية للفلسطينيين، من دول اللجوء ومناطق الشتات، إلى الدول الأوروبية. كانت الهجرة لأسباب شتى، منها ما هو متعلق بالحياة الكريمة، ومنها ما هو متعلق بأسباب سياسية. أنىّ يهاجر الفلسطيني، وأينما يسكن، في أقاصي الأرض أو على حوافها، تبقى القضية الفلسطينية تسكنه، وتتفاعل أحداثها في أعماقه، لأنّ قوة الانتماء للهوية الوطنية الفلسطينية، كما يبدو، تعلو، في المهاجر، فوق الاعتبارات الأخرى، وتدفعه حيوية الالتزام بقضيته الفلسطينية إلى بذل التضحيات العظمى، في سبيل تلك القضية الراسخة في وجدانه.



 


مثلَ كلّ الفلسطينيين، تتابع الجاليات الفلسطينية، في أوروبا، أخبار الأهل، في الوطن والشتات، وتراقب عن كثب، أوضاعهم، وما آلت إليه أحوالهم، وتتفاعل مع قضيتهم الوطنية، ومع ما تتعرض له من هجمات، وما يعتريها من مآس وأحداث، وما تتركه تلك الأحداث من آثار عينية، وضغوط مادية، وأبعاد نفسية، تنعكس، في كثيرٍ من الأحيان، عليهم في المهجر الأوروبي، فترتفع دينامية حركتهم الجماهيرية، وتكتسي قوة دفعٍ وعنفوان ونشاطٍ تارةً، وتارة أخرى تجعلها تركن وتستكين.


 




لكنّ الفلسطينيين في معيشتهم اليومية، في أوروبا، وبكلّ الأوقات والمراحل، وخلال كلّ الظروف يعيشوا تحت وطأة الشعور بالمسؤولية الوطنية، التي زادت من تأجيجها في داخلهم ظروف الهجرة والإبتعاد، فالشعور لديهم لا ينقطع بمسؤولية نقل المشهد الدرامي الفلسطيني الى مساحات الإدراك والمشاعر لدى الأوروبيين.


 




المشهد الفلسطيني، بما فيه من مكونات، وما يحتويه من مؤثرات، أصابت حياة الفلسطينيين بكراماتهم وإنسانيتهم، وجعلت قوة بقائهم على تراب الوطن ضرباً من ضروب المعجزات الإلهية، جرّاء التأثير المتواصل لإجراءات القوة الإحتلالية، وما ترتكبه الآلة العسكرية؛ من قتل وإجرام وسادية صهيونية مقيتة.




 


والمشهد الآخر، هو مشهد قوة الشعب الفلسطيني القابع في المخيمات، ذات البيوت السكنية الرثة، والأزقة الموحلة والضيقة، في دول اللجوء ومناطق الشتات، لا تقلّ تأثيراً، فهي القوة الخلاقة التي أسست، رغم التباعد الجغرافي والتمزق المجتمعي، الكيانية السياسية الواحدة الموحدة؛ منظمة التحرير الفلسطينية، هو مشهد الشتات الفلسطيني الذي تحاول فيه الجاليات الفلسطينية في المهاجر أن ترسم ملامحه، وترفع صوره أمام عيون الأوروبيين.


 





التلاقي.


 






التلاقي الطارئ، الذي جمع الفلسطينيين القادمين من الشرق العربي، بالأوروبيين، فوق أرضهم، وفي مناخات طبيعتهم الضبابية، المعبأة بغيوم الدعاية الصهيونية، وأمطارها وعواصفها العاتية، وضع الطرفين " الأوروبي والفلسطيني " في دائرة التوافق والتلاقي والصراع في آنٍ واحد.



 


حيثُ فرضت ظروف الهجرة على الفلسطينيين التعايش والتلاؤم مع الحياة الأوروبية، بكلّ تفاصيلها، ومقاييسها الرتيبة ومستلزماتها، ومعطياتها الفكرية والسياسية والقيمية. هذا التلاقي الطارئ اقتضت ضروراته على الفلسطينيين الإندماج في الدوائر الإجتماعية والثقافية والفنية الأوروبية، وفقاً لمقتضيات العيش المشترك، والحياة الواحدة، كما هو حال كلّ المهاجرين في أوروبا.



 


رغم قوة الشروط الإقتصادية والإجتماعية والثقافية، وقوة شروط الحياة في أوروبا بشكل عام، بقي الفلسطيني متمسكاً بقضيته الوطنية، وانتمائه إلى الشرق العربي، بدليل تعبيره المتواصل على تمسكه بالمواقف المدافعة عن القضية الفلسطينية، وعن القضايا العربية.



 


في مجريات حياته، يستدعي الفلسطيني، في بيئته الأوروبية، صورة ذلك الأوروبي الذي وصل الى الشرق العربي مستعمراً وغازياً ومضطهداً، ويحاول أن يجد المبررات النفسية والفكرية التي تجعله يباين بين الحقب التاريخية، ويفرق بين الشعوب الأوروبية وحكوماتهم الإستعمارية تاريخياً، أو المعادية، على الدوام، لقضيتهم الوطنية بفضل تأييدها الدائم للسياسة الإسرائيلية، تلك السلطات الأوروبية المستعمرة والمعادية، جاءت نتاج تطور تاريخي ومادي في أوروبا الصناعية.


 




اتجاهات الرأي الأوروبي.




 


كانت اتجاهات الرأي في أوروبا، قبل عقدين من الزمن، منحازة بكليتها الى كلّ ما هو معادٍ للقضايا العربية، وخاصةً القضية الفلسطينية، ومؤيدة للسياسة العدوانية الإسرائيلية، ومدافعة عن حقّ اسرائيل بالبقاء والهيمنة على فلسطين، وتلك الإتجاهات الأوروبية أنشأتها عوامل مختلفة، منها ما هو تاريخي، ومنها ما أملته عليهم مشاعر عقدة الذنب لديهم، بسبب الجرائم التي ارتكبوها بحقّ اليهود الذين كانوا يعيشون بين ظهرانيهم، وأشعلوا فيهم المحارق. استمرت تلك الإتجاهات سائدة عقوداً مديدة، نتيجة غياب حركة التنوير السياسي للمجتمعات الأوروبية، تاركة المجال للدوائر الصهيونية تشيع ما تشاء من دعايات التضليل والكذب، مستفيدة من تواصل التعاطف الجارف مع معاناة اليهود، في أوروبا، جراء الممارسات العنصرية والإجرامية للنازية بحقهم، ومستفيدة من حالة الغياب العربي والفلسطيني، ممّا أتاح لها سهولة اقتحام العقل الأوروبي، وإرساء ثوابت الإقناع الراسخة بجدوى وأهمية المشروع الصهيوني في فلسطين.



 


جرياً وراء القناعة التي رسختها الدوئر الصهيونية في الفكر والوجدان الأوروبيين، جاءت الأدبيات والدراسات والثقافات والفنون الأوروبية تجسد الفكرة الصهيونية الداعية الى حقّ الدولة الإسرائيلية في البقاء والأمن، وبما يؤكد على الاستهتار، وعدم المبالاة بمعانات الفلسطينيين، وفي أفضل الأحوال؛ الالتفات إليهم بقليل من المساعدات الإنسانية.


 




التغييرات.




 


في العقد الأخير، اشتعل النشاط الفلسطيني في الساحات الأوروبية، وحققت الجاليات الفلسطينية تقدما، قد نجيز فيه الوصف، في كثيرٍ من الأحيان، بالانجازات الوطنية على المستويين الأوروبيين، الشعبي والرسمي، وانتصارات ملموسة ضدّ دوائر الحركة الصهيونية في أوروبا، ممّا لفت انتباه الجميع إلى تلك الفئات الفلسطينية المغيبة.



 


كما استطاع الفلسطينيون، في أوروبا، استنهاض قدراتهم الذاتية وكفاءاتهم وخبراتهم، ممّا أهلهم من تحقيق الحضور المناسب والفاعل في قلب المجتمعات الأوروبية، وفي كلّ المجالات، وفوقَ هذا وذاك، أبقوا العلم الفلسطيني مرفوعاً، وشعلة القضية متقدة في الشوارع والساحات الخضراء، والمدن الشقراء.



 


لم يحظَ الفلسطينيون في المهاجر الأوروبية، لسنين طويلة، بالاهتمام، رغم ما قاموا به من أدوار وطنية، على مدى تاريخهم في هذي البلاد، سواء في مجابهة السياسات والأنشطة الخبيثة للدوائر الصهيونية، وهي الدوائر ذات القدرات الهائلة، والتي تمتلك أدوات التأثير في صنع الآراء وتحديد اتجاهاتها، أو في دعم النضال الفلسطيني الذي يجابه الاحتلال، بكلّ أوجه الدعم.

التعليقات