فلسطين القضيـة والأبنـاء المتحاربون!../ شفيق الحوت

-

فلسطين القضيـة والأبنـاء المتحاربون!../ شفيق الحوت
يستحيل الحديث عن فلسطين القضية، عن أي بعد من أبعادها، أو ما نتج عنها من تداعيات، أو ما تواجهه من تحديات ومخاطر، دون ربط هذا الحديث بما يحدث على امتداد الوطن العربي الكبير، وبخاصة في تلك الدول التي تحيط مباشرة بالكيان الصهيوني.

فالقول بأن قضية فلسطين هي القضية المركزية للأمة العربية، ليس مجرد شعار سياسي أو أمنية قومية، وإنما هو حقيقة جيوسياسية، تؤكدها مسيرة هذا الوطن الذي يحاول أعداؤه شطب هويته العربية التي عرف بها، بالتدليل عليه بما يسمى بـ «الشرق الأوسط»، ويبشروننا برسم خرائط جديدة له، تزيده تجزئة وتفتيتاً، لتخفف من غربة إسرائيل ونشاز وجودها في قلب هذا الوطن.

إن المساس بالمصير الفلسطيني، يتجاوز أرض فلسطين وشعبها، إلى المساس بمجمل المصير العربي، وإنه لمن الوهم أن يظن الفلسطيني نفسه قادراً وحده على تحرير وطنه، كما أنه من خداع الذات أن يظن العربي أن باستطاعته النجاة بحريته وسيادته طالما فلسطين محتلة وشعبها مشرد.

إلى جانب هذه الحقيقة الموضوعية، هناك حقيقة ثانية تجب الإشارة إليها، وهي أن قضية فلسطين تتميز عن غيرها من قضايا الشعوب التي عانت من تجربة الاستعمار الاستيطاني، بأنها منذ نشأتها، وهي تتصدى لعدو مزدوج، هما الحركة اليهودية الصهيونية وحليف ما لها من دول الاستعمار الغربي، مثل إنكلترا وفرنسا وأخيراً الولايات المتحدة الأميركية.

على الرغم من ذلك، فإن هناك حقيقة ثالثة تؤكدها تجارب الشعوب المناضلة من أجل حريتها، وهي أن القدر يستجيب في النهاية لنداء الإرادة مهما كانت موازين القوى مختلّة، وأن الصراع في جوهره ليس سوى صراع إرادات، ولا أعتقد أننا نجامل الشعب العربي الفلسطيني إذا ما اعترفنا له بالبسالة والصمود والقدرة على العطاء بلا حدود، شأنه شأن الجزائريين والفيتناميين وشعب جنوب أفريقيا وغيرهم، الذين تكللت ثوراتهم بالنصر المبين.

يهمني بعد ذلك التأكيد على أن تعدد الرأي في فهم قضية فلسطين وفي سبل حلها، ليس وارداً وحسب، وإنما هو طبيعي وضروري. وأنا كعربي من فلسطين مؤمن بعدالة قضيتها، وملتزم بالنضال من أجل تحقيق أهداف شعبنا الوطنية دون الحاجة للانتماء لأي فصيل أو حزب أو تنظيم، أعتبر أن غياب الديمقراطية أو تغييبها في الساحة الفلسطينية، كان واحداً من أهم الأسباب التي أدت إلى الأزمة التي نواجهها في فلسطين، ووصلت بالإخوة إلى التحارب، مما لا سابقة له في تاريخ النضال الفلسطيني.

إن الرؤية السياسية الواعية لا تعرف التعصب الفردي أو الفئوي، كما ترفض الجمود والتحجّر، لأنه لا وجود للمشهد السياسي الثابت باعتباره في حركة دينامية مستمرة استمرار التناقض في عناصر تكوينه.


لقد انشغل الفلسطينيون كثيراً، وما يزالون، ولا سيما بعد اتفاقية أوسلو، بالحديث عن الحق الفلسطيني ومواصفاته وكأن هذا الحق غامض أو مبهم أو موضع تساؤل. ففلسطين من النهر إلى البحر كانت حقاً وقانوناً أرضاً حلالاً زلالاً لأهلها ولكل من يقيم فوق ترابها أباً عن جد؛ ولقد تم اغتصاب هذه الأرض بقوى القهر الصهيونية ـ الاستعمارية، وأقيم على أنقاضها ما يسمى اليوم بإسرائيل. هذه حقيقة لا يماري فيها أحد، وليست ولا يجوز أن تكون موضع خلاف.

إن ما يجب أن ينشغل به الفلسطينيون هو كيفية استرداد هذه الأرض وإعادتها إلى طبيعتها التاريخية وعودة شعبها إليها. فهذا هو السؤال الاستراتيجي والأهم، خصوصاً بعد كل هذا التعقيد الذي أصاب القضية وطرق حلها، فلم يعد أمامنا من خيار غير التفكير باستراتيجية معقدة ومركبة لتحقيق أهدافنا على مراحل عبر صراع قد يمتد بمعاركه المختلفة لعقود مديدة وتشارك فيه أجيال عديدة.

من هنا، ومن دون أن يغيب عن عقلنا ووجداننا، حقنا المطلق في فلسطين كهدف استراتيجي، وواجب الإعداد لتحقيقه مهما طال الزمن، علينا في الوقت نفسه أن ندرك أهمية ما علينا مجابهته والتصدي له من تحديات وصعوبات مرحلية على دربنا الصراعية الطويلة، وكيفية التعامل مع المتغيرات رفضاً أو قبولاً، بأقصى درجات اليقظة والحذر؛ وهو ما لم نتقن فعله عندما دخلنا مدريد وخرجنا من أوسلو.

لا بد للمنشغلين في الحديث عن الحق المطلق أن يستشعروا أشواك الواقع لكي يتيقنوا من أن التكتيك حلال وشرعي طالما أنه لا يوصد الطريق أمام الثابت من الأهداف، ولا يشكك في عدالتها وصدقيتها. لا أقول هذا رفضاً لشعار الحق المطلق أو لاستبعاد التعاون مع المؤمنين بضرورة إشهاره ليل نهار، بل على العكس فأنا أرى في وجود هذا الفريق في ساحة النضال أهمية لا يجوز إغفالها، ويجب احترامها واستثمارها للمصلحة الوطنية العليا.

وأرجو أن أكون واضحاً هنا كل الوضوح فأكرر بأني لست ضد أي أسلوب من أساليب النضال لتحقيق الأهداف الوطنية الثابتة وغير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، وبخاصة الكفاح المسلح، بل أدعو لاعتماد كل الوسائل المتاحة، وإنما بشرط واحد، وهو أن يتم ذلك وفق استراتيجية واحدة وبقرار من قيادة موحدة تمثل شعباً لا تنظيماً.


في موضوع «الوحدة الوطنية» يكمن أحد أهم الأسباب التي أدت إلى إخفاق فصائل الحركة الوطنية الفلسطينية ككل في تحقيق أي إنجاز من برامجها الوطنية، سواء من كان منها في السلطة أو خارجها، في إطار المنظمة أم خارجه، فالكل مسؤول عن هذا الفشل الذي أوصلنا إلى ما نعاني منه اليوم من انقسامٍ وصل حدود الاحتراب المهين والانقسام الحرام.

صحيح أن الخلاف الآن يبدو وكأنه بين «حماس» و«فتح» كتنظيمين، ولكنه في حقيقته أعمق من ذلك ويعود إلى ما قبل ظهور «حماس» بعدد من السنين.

لن أتعرض هنا إلى أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية من النواحي الفكرية والعقائدية، لأني أعرف أن مثل هذه الخلافات هي من طبيعة الأمور وطبائع البشر، وعلى المسؤول الواعي إدراك هذه الحقيقة والبحث عن علاج لها من خلال الأطر التنظيمية التي تكفل للجميع حق التعبير، ولممثلي الشعب حق اتخاذ القرار، ولكني سأمر سريعاً على أزمة هذه الحركة من الناحية التنظيمية، لكونها تشكل جزءاً هاماً وأساسياً من الأسباب التي أدت إلى المحنة الراهنة.

تمييزاً لمنظمة التحرير الفلسطينية عن غيرها من حركات التحرر الوطنية، بسبب خصوصيتها وتعقيداتها وما نجم عن ذلك من تفتيت وشرذمة لشعبها، كنا نشبهها بالوطن المعنوي لشعب فلسطين، وبناء على ذلك، كان قرارنا التأسيسي بأن يكون مجلسها الوطني أقرب ما يمكن أن يكون عليه في تمثيله لأبناء فلسطين في جميع مراكز تجمعه داخل الوطن وفي الشتات، فيشمل جميع قواه الحية الناشطة من فصائل وأحزاب وهيئات شعبية واتحادات عمالية وطلابية.

كذلك كان لا بد من الإقرار المسبق بأنه لا يجوز لأي فريق أو تنظيم إلغاء الآخر أو فرض أيديولوجيته أو برنامجه السياسي بالقوة أو بحرمانه الآخرين من حرية التعبير عن آرائهم واجتهاداتهم طالما أنهم ارتضوا المشاركة في إطار المنظمة.
باختصار كان المفروض والمطلوب ممارسة ديمقراطية حقيقية، وهذا ما لم يحدث لأسباب عدة أهمها:

1. غياب الثقافة الديمقراطية داخل التنظيم الواحد، فعلى الرغم من الأشكال المتعددة لهياكل التنظيمات القائمة وتوزيع الصلاحيات على هذه الهياكل، فواقع الأمر أن القيادات بقيت فوقية، والكلمة الفصل فيها لمن في القمة، التي كثيراً ما كانت تختزل بفرد واحد.

2. إن «الاتحاد الكونفدرالي» الذي كان قائماً في منظمة التحرير الفلسطينية سمح لكل تنظيم بأن تكون له رايته، وذكرى يوم انطلاقته، ونشيده الخاص، وغرفة عملياته المستقلة، وأدواته الإعلامية، و«سفراؤه» بالخارج، مما يدل دلالة واضحة أنه لم يكن ثمة نية لتوحيد الفصائل في إطار المنظمة الأم.

3. الخلط بين الولاء للتوجه القومي كنهج عام وضروري وبين الولاء لهذا النظام العربي أو ذاك. بعض التنظيمات التي تسترت بهذا الخلط أصبحت امتداداً مخابراتياً لهذه العاصمة أو تلك ورُسلاً لها في الحركة الفلسطينية بدلاً من أن تكون رُسل الحركة لهذه العاصمة أو تلك.


ليس هناك من يشكك بضرورة تنظيم الشعب في منظمات أو أحزاب تقود نضاله وتكون طليعة حركته الوطنية. ولكن الخطأ أن تتوهم هذه الأطر أنها أصبحت البديل عن هذا الشعب. وقد تجلى فشل هذه المنظمات في تعبئة الجماهير وإشراكها في العملية النضالية بالمعنى الذي شهدناه في انتفاضة 1987 وبخاصة أول عامين من عمرها. بل هناك من يقول إن تدخل الفصائل بتفاصيل النضال اليومي للانتفاضة هو الذي ساهم في إجهاضها، إذ عادت السطوة للتنظيم ومدعي الانتساب إليه لتحل محل اللجان التي أفرزها الشعب بعفوية حرة. وقد تجلت هذه السلبية بوضوح فاضح في أعقاب اتفاقية أوسلو وتسلم «فتح» مقاليد السلطة.

إن استعلاء الهوية التنظيمية على الهوية الوطنية يبرر ويفسر أسباب عزوف الكثيرين من ذوي الكفاءات عن الإسهام المباشر في العمل الوطني، كما يفسر هذا الفقر في كوادر السلطة وما تبقى من المنظمة، في الوقت الذي تعجّ به دوائر القطاع الخاص محلياً وعربياً بأصحاب القدرات المشهود لهم من الفلسطينيين.


إن إشكالية العلاقة بين السلطة ومنظمة التحرير، مسألة في منتهى الحساسية والدقة والخطورة. ومن الواضح أن قيادة فتح، أيام الراحل عرفات، لم تعر هذه الإشكالية ما تستحقه من دراسة واعية، فأقدمت على الخلط بين السلطة والمنظمة، وتحولت بالتالي من حركة تحرر وطني لها مواصفاتها وشروطها وأدواتها، إلى حركة استقلال وطني تنبذ العنف وتدينه وتعد بمحاربته وفق هوامش وملاحق اتفاقية أوسلو.

غير أن ما يثير الدهشة هو وقوع قيادة حماس في المطب نفسه عندما ارتضت تحمل المسؤولية في المشاركة بالسلطة، لتجد نفسها تتخبط بين متطلبات الحكم وواجب المقاومة.

لا بل أكثر من ذلك، أليس ما يثير الغضب أن يتحارب أكبر تنظيمين فلسطينيين، من اجل ما يسمى «سلطة» و«حكومة» أو حتى «رئاسة» في الوقت الذي يدرك الجميع أن هذه المسميات كلها مجازية، لأنها في واقع الأمر قيد الاحتلال الصهيوني المباشر كما في الضفة، وغير المباشر كما في قطاع غزة.

إن شر ما تعاني منه الحركة الوطنية الفلسطينية حالياً، بكل قواها وفصائلها، وبمعزل عن موقف أي منها من اتفاقية أوسلو أو مجمل النهج التفاوضي الراهن، هو هذا الخلط القائم بين المنظمة والسلطة وعدم ترسيم الحدود الفاصلة بينهما، أو توضيح العلاقة بين المرجعية الوطنية السياسية العليا المجسدة بالمنظمة وبين أحد إفرازات العملية الصراعية التي تجسدت بالسلطة الفلسطينية بعد التوقيع على اتفاقية أوسلو.

لقد فات الإخوة في فتح وحماس وغيرهما أن منظمة التحرير ليست تنظيماً عابراً لتأدية وظيفة مؤقتة أو لقيادة مرحلة محددة، وإنما هي مرجعية دائمة وواجبة الوجود المتواصل إلى أن تتحقق أهداف الشعب الفلسطيني الوطنية.

من هنا فإنه من غير المعقول أو المقبول، وبخاصة على المستوى القيادي ورئاسة المنظمة، الجمع بين موقعين واحد في المنظمة وآخر في السلطة، لأن الأولى مخولة حق اتخاذ القرار المصيري على المستوى الوطني وذلك لشمولية تمثيلها لشعب فلسطين بأسره، لا لمجرد قسم منه في الضفة والقطاع، ولالتزامها بأحكام ميثاق وقرارات مجالسها الوطنية، خلافاً لما هو عليه حال السلطة ومجلسها الاشتراعي المحكوم بجزئية التمثيل الشعبي وبصلاحيات إدارية محدودة و«غير سياسية».

إن التماهي بين قيادة المنظمة وقيادة السلطة يهدد بتغييب فلسطينيي الشتات الذين سارعوا للتركيز على حقهم في العودة بعد أن استشعروا غموض موقف السلطة من هذا الحق لكي لا نقول ما هو أكثر من ذلك.

إن إصرار البعض على الجمع بين الموقعين يحرم فلسطينيي الشتات من أي ممارسة فعلية داخل المنظمة وهم الذين يشكلون نصف الشعب الفلسطيني الذي ثار من أجل عودته قبل سقوط غزة والضفة قيد الاحتلال. وإنه لمما يدعو إلى القلق أن يصل اليأس بالبعض من أبناء فلسطين في الشتات لإقامة تنظيمات تتكلم باسمهم وتتصدى لأولوياتهم. إن الموقف من وحدة الأهداف الوطنية هي المدخل الأساس والوحيد لضمان وحدة النضال الفلسطيني ووحدة الشعب.

بعد عرضنا لماهية الأزمة وأسبابها، وسردنا لوقائع مسيرتنا النضالية وصولاً إلى واقعنا الراهن، لا بد من الاعتراف بأن العملية الصراعية ضد التحالف الاستعماري ـ الصهيوني قد دخلت في مرحلة جديدة تختلف نوعياً عن سابقاتها.

بداية، وبغض النظر عن مدى قدرة الخيار السلمي على الصمود، وحتى لو تفجر الوضع العسكري مجدداً، فإن حسم التناقض التاريخي بين العرب وإسرائيل بات أكثر تعقيداً من اي وقت مضى سواء بحل عسكري او سياسي.

لذلك أرى ان الخروج من الأزمة الراهنة للحركة الوطنية الفلسطينية سيتبع سبيلين لا بد من سلوكهما كنتيجة حتمية لهذه الظروف.

الأول وهو ما يمكن تسميته بالسبيل البعيد المدى، المعقد والمركب والممرحل والمعتمد على استراتيجية متكاملة تستشرف الآفاق المستقبلية لحركة التغيير الدائرة في المنطقة العربية بأسرها لاستباق ما يمكن أن يفرض عليها من خارج إرادتها.

وهذا يعني التحرك من أجل بناء حركة نضالية جديدة لا أعتقد بجدواها إذا كانت قطرية الهوية والتوجه. فأنا لا أرى مستقبلاً واعداً لتحقيق اهداف الأمة في فلسطين وخارجها بأداة غير قومية وبفكر غير واع لما طرأ على هذا العالم من متغيرات وما شهده من قفزات ثورية في المجال العلمي ودنيا الاتصالات والآثار الرهيبة لوسائل الإعلام. إننا نطل على عالم القرن الواحد والعشرين، وفي لحظة بات موعد الهبوط البشري على المريخ شبه محدد.

ومن هنا لا بد من استراتيجية تواكب العصر وتحدياته الهائلة، مما يحتاج إلى تفعيل الدور النخبوي لأبناء امتنا بالتخطيط والتنظير من دون ان يعني ذلك ضرورة تكليفهم تنفيذ ما يقترحونه، ولكن شرط أن يكونوا على مستوى القيادات المعادية كفاءة وتدريباً وخبرة.

لن استفيض في الطرح، وأكتفي بالدعوة لعقد خلوة لعدد من «حكماء العرب» من مثقفين وناشطين وأصحاب تجارب نضالية، تستهدف التمهيد والتحضير لعقد مؤتمر أوسع يكون على غرار ما فعله الصهاينة قبل مئة عام عندما اجتمعوا في بازل وأعلنوا عن عزمهم على إقامة الدولة اليهودية.

السبيل الثاني أقل طموحاً من الأول بالطبع، ويقتصر في أهدافه على كيفية التعامل المباشر مع ما يمكن تسميته بالسياسي واليومي من حيثيات الصراع الراهن، في إطار عمل جبهوي مشترك يساهم من خلاله ما هو قائم من قوى تنظيمية وفعاليات شعبية وشخصيات وطنية.

في هذا السياق بحثاً عن حل لا أرى أية صعوبة في الاتفاق على برنامج سياسي متواضع يعتمد على الثوابت المتفق عليها، بآفاق زمنية محددة ومنظورة.

وهناك مسودات لمشروعات تمت الموافقة عليها في اتفاقات مكة والقاهرة، التي تصلح كأساس لانطلاقة جديدة، إذا صدقت نية فتح في فك قبضتها عن المنظمة لتستعيد فعاليتها وشرعيتها، وصدقت نية حماس بقبول المشاركة في إطار هذه المنظمة.

لا حل بدون إطار جبهوي كمرجعية سياسية شرعية تمثل شعب فلسطين عن حق وجدارة، وتتمتع بثقته الكاملة كناطق رسمي باسمه، وباعتبارها صاحبة الحق الوحيدة باتخاذ القرارات المصيرية.

لقد كانت منظمة التحرير الفلسطينية تجسد هذه المرجعية بميثاقها ومؤسساتها حتى 13 أيلول ,1993 عندما أقدمت قيادتها على توقيع اتفاقية أوسلو، متحدية ميثاق هذه المنظمة وأنظمتها الأساسية والداخلية، ما تسبب في شرخها والانقسام من حولها، ثم فقدت هذه المنظمة جزءاً كبيراً من شرعيتها الشعبية بعد العدوان المباشر على ميثاقها وتجويفها من كل المبررات التي أدت إلى قيامها.

والسؤال المطروح في الساحات الفلسطينية المختلفة، يدور حول إمكانية رد الروح إلى هذه المنظمة وإعادة بنائها من جديد، مع الأخذ بالاعتبار، المتغيرات الهامة التي طرأت على المسيرة النضالية الفلسطينية. وأعتقد أن هذا ممكن، بدليل أن أكثر الفصائل والقوى الفلسطينية المعارضة لاتفاقية أوسلو، بل ولنهج التسوية من أساسه، لم تقدم حتى الآن على أي تحرك لإقامة بديل لهذه المنظمة. وذلك لمجموعة من الأسباب.

طليعة هذه الأسباب أن هناك إجماعاً فلسطينياً على أن تأسيس وإقامة منظمة التحرير الفلسطينية كان واحداً من أهم إنجازات الشعب الفلسطيني الوطنية في تاريخه النضالي. فعلى الرغم من كل ما قيل، في حينه، عن نشأة هذه المنظمة سنة ,1964 بأنها وليدة قرار من الأنظمة العربية، أو ما قيل أيضاً بأن اعتبارها الممثل الشرعي والوحيد كان بقرار عربي آخر بعد عشر سنوات على نشأتها، سنة ,1974 فالواقع أن هذا القرار كان انعكاساً لقدرة المنظمة في خلال تلك السنوات العشر الأولى من عمرها على تجسيد مرجعيتها لدى الشعب الفلسطيني بكافة فئاته وفصائله... وبغض النظر عن تقويمنا لما خاضته هذه المنظمة من معارك سياسية وعسكرية، مع هذا النظام العربي أو ذاك، فإن في ذلك الدليل على أنها لم تكن صنيعة هذه الأنظمة وأنها كانت مستقلة الإرادة والقرار مما لا سابقة له في تاريخ كل القيادات الفلسطينية التي سبقتها قبل نكبة 1948.

وثاني هذه الأسباب التي تجعل التفكير في البحث عن إطار سياسي بديل مهمة صعبة وشبه مستحيلة، يكمن في هذه التراكمات من المكاسب التي حققتها منظمة التحرير الفلسطينية طيلة هذه السنوات على المستوى القومي والدولي، والتي لا تجوز المقامرة في الرهان عليها.

ومن المؤكد أنه يستحيل على أي مبادرة فلسطينية، إقامة تنظيم جديد، يضمن وراثة هذه المكاسب، من دون أن يبدأ المشوار من نقطة الصفر كما كان عليه الحال سنة ,1964 هذا إذا وجد بين الأنظمة العربية من يدعم مثل هذا التوجه أصلاً!!

وآخر هذه الأسباب، أن هذه المنظمة، تميزت عن غيرها من حركات التحرير الوطنية التي عرفناها بين شعوب العالم الثالث، فكانت أكثر من مجرد حزب أو تنظيم أو جبهة، إذ تحولت إلى ما يشبه «وطناً معنوياً» لجماهير الشعب الفلسطيني، فحاولت جهدها كي تلبي حاجاته ومطالبه المختلفة في شتى الميادين والمجالات. وهي حتى يومنا هذا، ورغم وجودها في غرفة العناية الفائقة بين الموت والحياة، لا تزال الموئل الأول والأخير الذي يقصده أصحاب الحاجة ـ وما أكثرهم ـ من أبناء شعبنا، سعياً وراء مساعدة ما، تربوية، أو طبية، أو اجتماعية إلى غير ذلك.

هذا هو لب المطلوب، فهل من صعوبة في الاتفاق على ميثاق يعلن فيه الجميع تمسكهم بحقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف، أي العودة، وتقرير المصير، والاستقلال الوطني، في دولة عاصمتها القدس؟ وفي الإقرار بأن شعب فلسطين، الممثل بإطار شرعي، هو في النهاية صاحب الحق الوحيد في اتخاذ القرارات الوطنية المصيرية؟ وأن منظمة التحرير الفلسطينية هي الإطار الذي يجمع كل قوى الشعب وطلائعه وفصائله ومؤسساته قانونياً وواقعياً؟

أمّا بالنسبة إلى الآلية المطلوبة، فإني أرى أن الخيار الممكن وربما الوحيد للتحرك يبدأ بدعوة الفصائل والقوى والشخصيات الوطنية إلى تشكيل لجنة تحضيرية لوضع تصور مشترك لمستقبل منظمة التحرير الفلسطينية، على ضوء ما يتوفر بين أيديها من وثائق ودراسات واقتراحات.

ولكي لا نقطع الصلة بتراثنا النضالي فنخسر تراكمات ما أنجزناه بثمن غال، ولكي لا يبدو كلامنا خارج اللغة السياسية لهذه المرحلة، لا أجد ما هو خير مما تم الاتفاق عليه الى حدود الإجماع من البرنامج السياسي لمنظمة التحرير في دورتها الثامنة عشرة، وليس هناك من يجرؤ على المجاهرة برفضه على المستويين العربي والدولي؛ وأقصد بذلك ما يعرف بحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية غير القابلة للتصرف، والتي لا يزال لها في الأمم المتحدة لجنة معنية لتمكين شعبنا من ممارستها، ممثلة بثلاث وعشرين دولة، ولها من الأدبيات المتخصصة لتحقيق ذلك ما لا يملكه أي تنظيم فلسطيني.

فإذا تم الاتفاق على ذلك عبر تحييدنا للبعد الايديولوجي كعائق مع الاعتراف لكل تنظيم بتبني ما يريد، والجهر به، واتفقنا على مبدأ التعامل الديمقراطي الصادق مع بعضنا البعض، واسقطنا سيف «الفيتو» الذي يشهره البعض ضد البعض، فإني أعتقد انه يصبح في الإمكان تحقيق ما نصبو اليه تدريجياً لتصحيح مسار حركتنا الوطنية الراهنة وإعادة الروح الى منظمة التحرير الفلسطينية.

ولتحقيق ذلك لا أرى، حتى الآن، غير المنظمات المعارضة ذات الوزن الحقيقي مؤهلة للقيام بمثل هذه المبادرة بما لديها من تجربة وبما تملكه من إمكانيات لوجستية لتحقيق الخطوات التمهيدية لإقامة هذا الإطار. كما لا بد من توفير غطاء عربي لأي تحرك بهذا الاتجاه وبخاصة من عواصم التأثير الأكثر أهمية، وهي القاهرة والرياض ودمشق.

ختاماً، أريد أن أهمس في أذني كل من قادة «فتح» و«حماس»، بأنه لن يكون هناك من منتصر في أي احتراب بينكما، ولكل منكما من يتربص لوراثته. فهناك «مفاوض» مستعد لتجاوز ما توقف عنده الرئيس عرفات من خطوط حمر، كما هناك من يتهم «حماس» بالتهاون في عقيدتها ويدعو إلى أصولية أكثر تشدداً وجذرية وعنفاً.

ولعل همسة مماثلة يمكن توجيهها لمن يصنفهم الغرب بعرب «الاعتدال» وعرب «التطرف»، فأقول للأولين أن لا ثمار لاعتدالكم ولا ثمن، وتجربة أنابوليس خير شاهد ودليل، وأقول للآخرين إن وحدة الموقف العربي شرط لا بد من توفيره لتحقيق أي انتصار على العدو.
"السفير"

التعليقات