واقع العمال الفلسطينيين في المناطق الصناعية الإسرائيلية الكئيب؛ دون قوانين أو حقوق..

-

واقع العمال الفلسطينيين في المناطق الصناعية الإسرائيلية الكئيب؛ دون قوانين أو حقوق..
وثق صحفي هولندي ما يحدث في المنطقة الصناعية "نيتساني شالوم"(براعم السلام) وهي منطقة صناعية إسرائيلية تعتمد على العمالة الفلسطينية.

الساعة السادسة صباحا. والشتاء بارد في طولكرم. ومقابل البوابة الحديدية الضيقة المثبتة في الجدار الإسمنتي الممتد على طول شارع الطيبة، يتجمع مئات الفلسطينيين يرتدون المعاطف والكنزات الصوفية. يحملون أكياسا فيها شطائر وينتظرون بهدوء أن تفتح البوابة. وفي هذا الوقت يفركون أيديهم لتدفئتها. ويصدر نفسهم بخارا. من وراء البوابة الحديدية توجد البلاد الموعودة: المنطقة الصناعية الإسرائيلية واسمها "نيتساني شالوم"، التي تعتبر بالنسبة لكثير من الفلسطينيين الفرصة الأخيرة للعمل.

تقع المنطقة الصناعية "نيتساني شالوم" بين طولكرم والجدار الفاصل وشارع رقم ستة. أقيمت عام 1995 كواحدة من تسع مناطق صناعية في الضفة الغربية. تضم اليوم سبع مصانع وتزود فرص عمل لأكثر من 700 فلسطيني في مجالات الصناعة المختلفة، كصناعة الكرتون والبلاستيك والمبيدات والسوائل السامة.

" هذا أفضل من أن لا نعمل بتاتا" يقول محمد، 35 عاما، عن عمله في مصنع الكرتون "طال إيل"، هو أب لخمسة، ويعمل ستة أيام في الأسبوع، تسع ساعات في اليوم، مقابل 11 شيكل للساعة- أي سبع شواكل أقل من أجر الحد الأدنى الإسرائيلي. ويشعر أنه محظوظ، إذ يستطيع أن يوفر الغذاء لأسرته وإرسال أبنائه إلى المدارس.

ولكنه أحيانا صامت وخائف. فإذا مرض أو تأخر عن العمل أو طلب علاوة على مرتبه، يفصله صاحب العمل. وقد حدث في الماضي. فالعمال الذين تأخروا عوقبوا ولم يعملوا أو لم يحصلوا على أجر أسبوع على الأقل. المتمردون والمرضى والضعاف يفصلون على الفور. " يمكن أن يجد صاحب العمل عشرات آلاف العمال مكاني في لحظة"، يقول. لهذا، يخرج كل صباح من بيته قبل الساعة الخامسة، ولا يطالب بمرتب الحد الأدنى، ويعمل حينما يكون مريضا وخلال أيام عيد الأضحى، ولم يحصل على إجازة بتاتا.


جمال أكبر منه بعشر سنوات، ويعرف جيدا ماذا يحصل لمن يتجرأ أن يعترض. "أعمل منذ عشر سنوات في مصنع إسرائيلي للأخشاب. للشركة لا يوجد اسم. أعمل تسع ساعات يوميا وأتقاضى 100 شيكل. يوجد في المصنع ثلاثون عاملا، ليس لدينا تقريبا حماية من الشمس والشتاء. في الشتاء نقف طيلة اليوم في الوحل، لا يوجد مراحيض ونمنع من الخروج، لأن البوابة الحديدة تفتح عند الساعة الرابعة فقط. قبل سنتين، استجمعت الجرأة لأشتكي. هل تعرف ماذا جرى؟ فصلت فورا وطردت من العمل دون راتب. وبعد أسبوعين رن جرس الهاتف، وكان صاحب العمل على الخط. وقال أنه سيمنحني فرصة أخيرة، ولكن علي أن أصمت. وهكذا فعل.

في الحقيقة، بناء الحاجز حول "نيتساني شالوم"، والبلدات وباقي المصانع القريبة من الحاجز يعتبر جاذبا لرجال أعمال إسرائيليين، حسب أقوال شاهية يعقوب، ممثلة وزارة العمل في السلطة الفلسطينية في طولكرم.

وتقول يعقوب "من ناحية، فاقم بناء الجدار من مشكلة البطالة المزمنة لدى الفلسطينيين". "150 ألف فلسطيني عملوا داخل إسرائيل قبل عام 2000 ولم يعد بمقدورهم الدخول إليها، وعشرات آلاف المزارعين منعوا من الوصول لأراضيهم بسبب الجدار الفاصل. اليوم يستطيع عشرة آلاف عامل تقريبا، فقط، الدخول إلى إسرائيل وذلك متعلق بالوضع الأمني. لهذا، القوة العاملة الفلسطينية الرخيصة آخذة في الازدياد. هؤلاء الناس يائسون ومستعدون للعمل في أي عمل مقابل أي أجر. ومن ناحية أخرى تشعر المصانع الإسرائيلية بالراحة في منطقة الجدار بسبب مستوى الحراسة العالي.

حسب معطيات الدائرة المركزية للإحصاء في السلطة الفلسطينية، وصلت نسبة البطالة في الربع الأخير من عام 2006 إلى 28.4%. ويجب أن نتذكر أن أكثر من نصف المجتمع الفلسطيني هم أطفال، ويعيل العامل أحيانا عشرة أنفار.

" رسميا، يعمل حوالي 18 ألف فلسطيني في المصانع الإسرائيلية في الضفة الغربية، ولكن لا يمكنني حتى تقدير عدد العمال الذين لا يحملون ترخيصا، وبالأساس في المجال الزراعي ." تقول يعقوب.

عبد اللطيف أبو ريا، شاب صغير عيناه زرقاء فاتحة، ويقول أنه قبل عدة شهور قطعت يده حينما كان يعمل على ماكينة قص في مصنع الكرتون. وفصله صاحب العمل وأرسله إلى البيت وتوقف عن دفع راتبه. وفي أعقاب الحادثة أصبح أبو ريا مشلولا بشكل جزئي. ولم يستطع الأطباء في مستشفى طولكرم من إجراء العملية المعقدة الذي كان يمكنها أن تنقذ حركة يده، وهو ممنوع من الوصول إلى المستشفيات الإسرائيلية التي يمكنها أن تقدم له المساعدة.

" صاحب العمل لم يدفع لي أي تعويضات، وبسبب الإصابة لا يمكنني إيجاد عمل في أي مكان آخر"، ويضيف " ألغيت البطاقة المغناطيسية التي بحوزتي(تصريح عمل في إسرائيل). واستشرت محاميا وبدأ بإجراءات قضائية في إسرائيل، ولكن لا يمكنني حتى لقاءه لأنني ممنوع من المرور من نقطة المراقبة".

عامل آخر، محمد أبو حمرة، لم يعد على قيد الحياة لسرد قصته. قبل خمس سنوات طلب منه إقامة جدار حول المصنع الذي يعمل فيه في "نيتساني شالوم"، ويقول ابنه. " استخدموا حاويات بلاستيكية مليئة بفضلات كيماوية لدعم الجدار، وانفجرت إحدى تلك الحاويات وأصيب أبي برأسه. وبعد أربعة أيام توفي متأثرا بجراحه، وترك أمي وثمانية أولاد. ولم نتلق أي مرتب تقاعد أو تعويضات".

ماجد، الذي كان حينذاك ابن 22 عاما، اضطر إلى وقف دراسته من أجل إيجاد عمل كي يتمكن من إعالة أسرته. "قبل سنتين قدمنا شكوى ضد صاحب مكان عمل أبي ، ولكن القضاة لم يتخذوا قرارا بعد في القضية".

في الساعة السادسة تماما فتحت البوابة الحديدية واختفى الحشد من الرجال. أغلقت البوابة عند الساعة السابعة وستبقى مغلقة طيلة التسع ساعات القادمة.

الشعور في المنطقة الصناعية في جانبه الآخر، الإسرائيلي، للبوابة، هو غريب. هنا لا يوجد بوابات حديدية مغلقة، لا يوجد طوابير طويلة، لا يوجد جدار فاصل. في مفرق شارع ستة تتوجه إلى اليمين وتمر عن حارس ناعس على بوابة المدخل. الجدران العالية المحيطة في المنطقة الصناعية تخفي طولكرم وتمنحك إحساسا أنك في إسرائيل.

غيل لطرمان هو صاحب "راشونال سيستيم" وهي شركة تنتج أجزاء للمطابع وللأجهزة الطبية. قتل محمد أبو حمرة في مصنعه نتيجة انفجار حاوية مواد كيماوية. أقام لطرمان الشركة قبل 25 عاما في نتانيا، ومع اندلاع الانتفاضة أصبح من الصعب على الفلسطينيين الوصول إلى مكان العمل. لهذا نقل جزءا من نشاط الشركة إلى المنطقة الصناعية. "ويقع المصنع قرب الجدار لهذا من السهل الوصول إليه"، يقول لترمان، الأمر الآخر أن المصنع يقع في منطقة "سي" ونحن لا ندفع ضريبة للسلطة المحلية".
يقع مصنع الكيماويات "صناعات غشوري" إلى جانب مصنع لطرمان. كان يتواجد حتى عام 1985 في "كفار سابا"، ولكن سكان المدينة اشتكوا من الروائح الكريهة التي تصدر من المصنع، فنقل إلى الضفة. واشتكى سكان طولكرم والبلدات الإسرائيلية المجاورة للمصنع من الروائح، ولكنهم لم يتمكنوا فعل أي شيئ.

يبدو مصنع "راشونال سيستيم" منظما بشكل جيد، وهناك تشديد على متطلبات الأمان. لطرمان يصر أنه ليس هناك مشكلة في الرواتب أو في وسائل الأمان للعمال. وماذا بشان حادثة أبو حمرة؟ يعترف أنه كان هناك مشاكل في الماضي مع مقاولين ثانويين مثل أبو حمرة، ولكنها حلت بطرق قانونية. " هناك فلسطينيون يعملون عندنا منذ إقامة الشركة، واليوم انضم إلينا الجيل الثاني، أبناؤهم. أعرف عائلاتهم، وكنت في أعراسهم، هم أناس متعقلون وأمينون ويحصلون على أجر منصف. من المهم الإشارة إلى أن الفلسطينيين يستفيدون من المصانع الإسرائيلية. فلديهم على الأقل مكان عمل . أنا واثق أن في "نيتساني شالوم" يتقاضون أجرا أكثر مما يمكنهم أن يتقاضوه لدى مشغل فلسطيني في طولكرم".

في واقع ودود 50% من الفلسطينيين تحت خط الفقر، قد يكون لطرمان على حق. ومن شبه المؤكد أن الفلسطينيين مسرورون لانهم يعملون ويعيلون أسرهم. ولكن السؤال هو بأي ظروف وبأي ثمن.؟

هنا، بين الجدار الفاصل وطولكرم، المفارقة الفلسطينية الإسرائيلية تبدو أكثر وضوحا. الاحتلال والصراع خلقا تبعية وثيقة بين أصحاب العمل الإسرائيليين، الذين انتقلوا إلى الضفة بدافع التسهيلات والامتيازات التي حصلوا عليها، وبين العمال الفلسطينيين الذين هم بحاجة إلى عمل.

هذه القصص مذهلة في سنة 2007، ولكنها ليست نادرة الحدوث. ممثلة "خط للعامل" سلوى علينات، التي أسست قبل سنة ونصف مؤسسة لمنح المساعدة والاستشارة للعمال الفلسطينيين الذين يعملون في مصانع إسرائيلية في الضفة الغربية، سمعت قصصا شبيهة، بل وأكثر خطورة. سمعت عن عمال من اريحا يعملون في قطف التمر في إحدى المستوطنات الإسرائيلية، وخلال فترة القطف اجبروا على قضاء 8-9 ساعات على شجرة النخيل تحت أشعة الشمس الملتهبة، ودون أن يتمكنوا من الذهاب إلى المراحيض، ودون أن يتقاضوا راتب الحد الأدنى. وتقول "الأمر الأكثر سوءا هو عمل الأطفال. في أشهر الصيف صادفت طفلا عمره 10 سنوات يعمل في مخزن في غور الأردن في عطلة الصيف وبعد ساعات الدوام، لأن أباه عاطل عن العمل وهم بحاجة للنقود".

وتقول علينات، بسبب صعوبة الحصول على تصريح عمل، يعمل قسم من العمال بصورة غير منظمة، دون اتفاقية أو تأمين. وتضيف " الدوافع لمنح التصريح أو إلغائه غير واضحة. فبعض العمال لا يحصلون على التصريح لأسباب أمنية، رغم أنه ليس لديهم ماض جنائي أو أي علاقة بما تسميه إسرائيل تنظيمات إرهابية". ونتيجة لذلك يضطر أصحاب العمل لطلب تصاريح العمل لهم ويضطر العامل إلى دفع تكاليف التصريح، حوالي 1200 شيكل، قبل أن يبدأ العامل في عمله.

"هذا التصريح مهم جدا بالنسبة للفلسطينيين ويستخدم ككرت قوي من قبل أصحاب العمل، الذين يستغلونه أحيانا من أجل ابتزاز العمال. فإذا لم ينصع العامل لتعليمات صاحب العمل يخسر عمله ويخسر التصريح".

من الصعب أن نصدق أن النظام شبه الاستعماري قائم أمام أنوفنا، دون أن يعلم أحد بوجوده، أو يعمل من أجل تغييره. قررنا سوية مع مرشدنا الفلسطيني وهو ناشط في مجال حقوق الإنسان، زكريا سادح، أن نجري بحثا ميدانيا صغيرا: وكانت المحطة الأولى في المنطقة الصناعية "كارني شومرون"، وقد أحصينا هناك عشر مصانع إسرائيلية. ومقابل مصنع الفولاذ "جي تي" صادفنا حسان عمره 46 عاما. حسان يعمل في المصنع منذ عشر سنوات، ولكنه لا يستطيع الاستمرار. "أعمل عشر ساعات يوميا وأتقاضى 100 شيكل. ليس لدي تأمين وأخشى مما قد يحصل لعائلتي إذا أصبت هنا. فهذا ببساطة لا يساوي الثمن". وحاولنا الحديث مع مشغل حسان إلا أن البوابة بقيت موصدة.

في ساحة وقوف السيارات للمصنع المجاور اقترب ولد فلسطيني إلى سيارتنا وهمس من خلال النافذة: "أنا أعمل هنا وأتقاضى 9 شيكل في الساعة، ولكن لا يمكنني إثبات ذلك، لأنني لا أحصل على إيصال راتب أو أي وثيقة أخرى". وحينما اقترب منا رجل بالغ أكثر، مدير العمل، همس الولد: " لا تقولوا له شيئا" واختفى. يصر فالح، وهو المدير الفلسطيني على أن ظروف العمل في المكان ممتازة ويقو : "على الفلسطينيين أن يكونوا مدينين بالشكر لأنهم يحصلون على عمل هنا. كلهم يتقاضون أجرا معقولا. أنا مثلا أتقاضى 11 ألف شيكل في الشهر".

غادرنا المصنع مع شعور بالاستغراب للتناقض بين الروايات. كيف يمكن أن نعرف من صادق ومن مخطئ؟ هل كل العمال يقولون أشياء كاذبة، أم أن ذلك هو الظاهرة الاستعمارية "فرق تسد" حيث أن قسم من الفلسطينيين "الجيدين" يحصلون على امتيازات مقابل نقل معلومات عن تصرفات العمال الآخرين ومراقبتهم.

يزيد الارتباك حينما نحاول الاستفسار لدى السلطات القانونية أي القوانين تسري هنا- قوانين العمل الإسرائيلية، القوانين العسكرية، أم القانون الفلسطيني. حسب أقوال المحامي يوفال ليفنات المتخصص بقوانين العمل ويعمل كمستشار قانوني لـ "خط للعامل"، الأمر غير واضح. "فالمصانع والبلدات موجودة في منطقة "سي"، والعمال يعملون في منطقة خاضعة للقوانين الإسرائيلية. لهذا من المنطقي أن نتوقع أن قوانين العمل الإسرائيلية هي التي تسري هنا، ولكن محكمة العمل قررت أنه يمكن أيضا أن يسري على العمال الفلسطينيين قانون العمل الأردني، إلا إذا مس ذلك في المصلحة العامة. هذا القرار مفتوح لتأويلات كثيرة. أضف إلى ذلك أن القانون الأردني هو منذ سنة 1967، قبل حرب الأيام الستة ، وهو يمنح للعمال قليلا من الحقوق فقط، في كل ما يتعلق بساعات العمل، ووسائل الأمان وأيام العطل. ونتيجة لذلك، يحصل تمييز قانوني بين العمال الفلسطينيين والعمال الإسرائيليين في نفس مكان العمل، وهذا شيء ولا يمكن أن نوافق عليه.

الحل للإشكالية في دولة ديمقراطية، يبدو مفهوما بشكل ضمني. إذا كان الأمر على هذا النحو، لماذا لا يشتكي الفلسطينيون مشغليهم في محكمة العمل؟ على ما يبدو، لأن هؤلاء الذين كانت لديهم الجرأة لتقديم شكوى، كانوا يواجهون عثرة إضافية: فهم يعتبرون سكانا أجانب في إسرائيل، قد يتهربون من دفع ديونهم. لهذا عليهم رهن مبالغ مالية طائلة من أجل ضمان سداد مصاريف القضاء.

القصص عن الفوضى القضائية، وعدم وضوح حقوق العمال، والنقص في المعلومات بسبب خشية العمال من الحديث وتبعية العمال الكلية بمشغليهم، حولت الضفة الغربية إلى منطقة لا يطالها القانون، وفيها كل شيئ ممكن ولا يوجد فيها ممنوع.
لهذا توجهنا إلى المؤسسة المستقلة الوحيدة الذي يفترض ويمكنها معرفة كل الحقائق، وهي الإدارة المدنية. لم يُسمح للمسؤول عن شؤون العمل في الإدارة، يتسحاك ليفي، بإطلاعنا على أي معلومات حول عدد المصانع الإسرائيلية في الضفة الغربية، أو عدد العمال الذين يعملون فيها، ولم يجب على أسئلة حول تلقي الإدارة شكاوي شبيهة وما الذي ينوون فعله في هذا الشأن.

وجهنا ليفي إلى النقيب تسدكي ممان، الذي وعدنا بالرد على أسئلتنا بسرعة، وقد توجهنا إليه في 18 فبراير/ شباط ومنذ ذلك الوقت لم نسمع منه شيئا.


الكاتبة صحفية إسرائيلية مستقلة وتكتب لصحف بلجيكية وهولندية وبريطانية.





التعليقات