يُرجّل قائد ويسجن آخر؛ من سيحاسـب قتلة أبو علي مصطفى؟/ حسن عبد الحليم

يُرجّل قائد ويسجن آخر؛ من سيحاسـب قتلة أبو علي مصطفى؟/ حسن عبد الحليم
في حوالي الساعة الحادية عشرة والربع بالتوقيت المحلي من يوم 27 آب (أغسطس) 2001، رن الهاتف الخلوي للأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أبو علي مصطفى، حينما كان جالسا في مكتبه في الطابق الثاني في إحدى البنايات في رام الله، وعندما رد بـ"نعم"، لم يكن المتصل على الطرف الآخر ينتظر أكثر من تلك الكلمة للتأكد من تواجده في المكان الذي كان على شاشات التصويب؛ وخلال ثوان كانت المروحيات الإسرائيلية، تطلق أكثر من صاروخ على المكتب، ودوت الانفجارات ورافقها دخان كثيف، وتناثرت أشلاء أبو علي مصطفى في المكان. وكانت الجريمة المدوية، التي ما زالت تدوي حتى يومنا هذا.

وفي ذلك اليوم كانت قد مرت سنتان فقط على عودته للوطن، ونحو سنة على انتخابه أمينا عاما للحزب، خلفا لحكيم الثورة وضميرها، الدكتور جورج حبش، الذي فارقنا مطلع السنة الحالية، ولم يفارقنا، كما لم يفارقنا أبو علي مصطفى، القائد الإنسان الذي جمع ما بين الصلابة والرصانة والهدوء والحس المرهف وبين الإصرار والاتزان، والثقة والتواضع والبساطة والترفع، والذي عكست عيناه عدالة قضيته وصدقها وصدقه، وإيمانه فيها وبشعبه.

عاد أبو علي مصطفى، وهو من مواليد قرية عرابة جنين عام 1938، إلى الوطن في أواخر أيلول عام 1999 رافعا شعار «عدنا لنقاوم لا لنساوم»، ورغم أنه عاد بناء على اتفاقات أوسلو التي عارضها، لم يخب إيمانه بالمقاومة كسبيل للتحرر، وكان له حضور ونشاط مميز وبعث الحيوية في العمل السياسي وفي العمل المقاوم الفلسطيني، وأعاد ترميم صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة، الأمر الذي قض مضاجع صناع القرار الإسرائيليين، الذين تعتمد سياستهم على القتل والقمع والدم، وإحباط طموح وإرادة التحرر الفلسطينية، ووضعوه على رأس قائمة التصفيات.

كان اغتيال أبو علي مصطفى صاعقا ولقي ردود فعل غاضبة وساخطة في أوساط الفلسطينيين والقوميين العرب ولدى كل من عرفه، خسارة كبيرة ومصيبة أكبر من أن تستوعب، كما قال الكثيرون، لأن حضوره كان استثنائيا وأضفى على المشهد السياسي الفلسطيني بعدا وحضورا خاصا، ومنحه زخما مميزا لا يمكن أن يضيفه سواه. بينما اعتُبر الاغتيال خطا أحمر لدى المسؤولين الفلسطينيين الرسميين. كانت تلك الجريمة هي الثانية التي تستهدف قياديين فلسطينيين في الداخل باستخدام القصف المروحي منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، وسبقها فقط بشهور اغتيال حسين عبيات أحد قادة الجهاز العسكري التابع لحركة فتح. وانفرطت بعدهما المسبحة وتوالت عشرات عمليات الاغتيال التي استهدفت قادة سياسيين وعسكريين فلسطينيين، والتي أصبحت فيما بعد سياسة متبعة بشكل واسع، وسط مواقف عربية وعالمية تتراوح ما بين التواطؤ والقبول والتجاهل والرفض الخجول.

وسرعان ما تلاشى الخط الأحمر الذي تحدث عنه أكثر من مسؤول فلسطيني. ولم يبلور الفلسطينيون إستراتيجية لمواجهة الاغتيالات، ولم يتخذوا موقفا صلبا ضدها، ولم يجعلوا من اغتيال أمين عام لفصيل فلسطيني مركزي، أمرا جللا، ووقف العالم متفرجا، وصمت العرب، وأتاح ذلك لإسرائيل التي لا تولي اهتماما لأي معايير أخلاقية لأن تواصل ارتكاب الجرائم.
لم يتأخر رد محبي أبو علي مصطفى، والمؤمنين بالدرب الذي سلكه، درب الحكيم وغسان كنفاني ووديع حداد، وفي يوم 17/10/2001 قامت مجموعة فلسطينية باغتيال الوزير الإسرائيلي، رحبعام زئيفي، اليميني ( ولن أقول المتطرف لزوال الاعتدال)، في فندق «حياة ريجنسي» في القدس. وزئيفي هو جنرال سابق وصاحب نظرية «الترانسفير» للعرب من فلسطين، التي رفعها حزبه «موليديت» الذي نشط في أوساط الحركة الاستيطانية واليمين الإسرائيلي. وأعلنت كتائب الشهيد أبو علي مصطفى، الجهاز العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مسؤوليتها عن عملية قتل زئيفي، رداً على اغتيال أمينها العام أبو علي مصطفى.

يوم الأربعاء 24/4/2002، كانت المقاطعة في رام الله محاصرة بالدبابات الإسرائيلية، وكانت كنيسة المهد محاصرة وبداخلها المئات. وتحت وطأة الضغط الأمريكي والتهديد الإسرائيلي تشكلت محكمة عسكرية فلسطينية بأمر من رئيس السلطة الفلسطينية، الراحل ياسر عرفات، بناء على مبادرة أمريكية، وأصدرت قراراً بسجن أربعة أعضاء من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بتهمة القتل والمشاركة في قتل وزير السياحة الإسرائيلي رحبعام زئيفي. وحكمت المحكمة على حمدي القرعان المتهم بإطلاق النار على زئيفي بالسجن لمدة ثمانية عشر عاما، وعلى باسل الأسمر بالسجن لمدة اثني عشر عاما بتهمة مساعدته في العملية، وعلى مجدي الريماوي بالسجن ثمانية أعوام بتهمة التخطيط للعملية، وعلى عاهد أبو غلمة مسؤول الجهاز العسكري للجبهة الشعبية في الضفة الغربية بالسجن لمدة عام.
وفي كانون ثاني 2002 اعتقلت السلطة الفلسطينية الأمين العام للجبهة الشعبية، أحمد سعدات، خليفة الشهيد أبو علي مصطفى، وأودعته السجن مع رفاقه، بضغط من إسرائيل والولايات المتحدة، بالرغم عن قرار محكمة العدل العليا الفلسطينية، التي أمرت في 3 حزيران 2002 بالإفراج عنه ، إلا أن القرار لم ينفذ كما حدث في قرار مماثل أصدره النائب العام قبله.

ويبدو أن عنوان الصفقة كان فك الحصار عن المقاطعة في رام الله، وصيغة ما لإنهاء حصار كنيسة المهد. وهذا ما حصل فقد وُضع سعدات ورفاقه في سجن المقاطعة في أريحا تحت إشراف أمريكي بريطاني، وأبعد مناضلو كنيسة المهد، وما زالوا مبعدين حتى يومنا هذا، إلا أن عرفات بقي أسير المقاطعة حتى يوم مماته.

في 25 يناير 2006 أجريت الانتخابات النيابية الفلسطينية وحصلت حركة حماس على أغلبية ساحقة تمكنها من تشكيل الحكومة، وكانت الجبهة الشعبية تطالب دوما رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، بالإفراج عن سعدات، وجاءت حماس كلاعب جديد على الساحة السياسية الفلسطينية وأعربت عن نيتها الإفراج عن سعدات، فقام وزير الأمن الإسرائيلي حينذاك، شاؤول موفاز، بتهديد السلطة الفلسطينية باغتيال سعدات إذا ما أفرج عنه. وانتخب سعدات عضوا في المجلس التشريعي الفلسطيني الجديد وهو داخل السجن في أريحا بالضفة الغربية.

في صبيحة يوم الثلاثاء 14/3/2006، أقدمت قوات الاحتلال المدججة بالدبابات والآليات المدرعة وطائرات الهيلوكبتر على محاصرة المقاطعة وسجن أريحا الذي يحتجز فيه الأمين العام للجبهة الشعبية، أحمد سعدات ورفاقه الأربعة والعميد فؤاد الشوبكي. وبدأت بهدم جدران المبني برويّة، وفي بث مباشر عبر الفضائيات، وصولا إلى غرفتهم، واعتقالهم واختطافهم على مرأى ومسمع العالم.

وحكمت محكمة إسرائيلية عام 2006 على محمد فهمي بالسجن المؤبد، وعلى صلاح علوي، بالسجن لمدة 12 عاما، وكانت قد اعتقلتهما فور عملية الاغتيال. وفي 3/12/2007 أصدرت محكمة إسرائيلية حكما بالسجن المؤبد على حمدي القرعان المتهم بإطلاق النار على زئيفي. وقال القرعان في رده على قرار المحكمة: أنا أُتهم لأنني مارست حقا أساسيا بالدفاع عن شعبي في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وهو نفس الحق الذي تمنحونه لأنفسكم بشكل يومي حينما تقتلون الفلسطينيين، أنا أتهمكم بجرائم ضد الإنسانية بأسرها".

وفي 5/2/ 2008 حكمت المحكمة ذاتها بالسجن المؤبد، و20 سنة أخرى على باسل أسمر، بتهمة المشاركة في قتل الوزير زئيفي. وفي 29/7/2008 أدانت المحكمة ذاتها مجدي الريماوي بالتخطيط لقتل زئيفي، ولم يحدد حكمه بعد. في حين ما زال الأمين العام للجبهة الشعبية أحمد سعدات يقبع في سجون الاحتلال، ولم يصدر حكم بعد بحق عاهد أبو غلمة مسؤول الجهاز العسكري للجبهة الشعبية في الضفة الغربية.

وما زال قتلة أبو علي مصطفى، أسياد الموقف؛ طلقاء يتفاخرون بجريمتهم! وما زال أحمد سعدات ورفاقه، ونحو أحد عشر ألف أسير فلسطيني في سجون الاحتلال.
من سيحاسب القتلة والسجانين ومتى؟


"أجزاء من التقرير وردت في تقرير للكاتب نشر عام 2006 على ضوء الكشف عن اعترافات خلية الجبهة الشعبية في قضية مقتل الوزير العنصري الجنرال رحبعام زئيفي"

التعليقات