من الياجور إلى لبنان إلى الإمارات: لجوء، واغتراب، وحنين

تغزل حكاياتنا الشخصية نسيجا متكاملا لحكاية وطن، وتتشابك خيوطها لترسم صورا لمعاناة شعب، وتجتمع أحاسيس وذاكرة الفرد لتشكل ذاكرة وطن.

من الياجور إلى لبنان  إلى الإمارات: لجوء، واغتراب، وحنين

تصوير مقبولة نصار

  تغزل حكاياتنا الشخصية نسيجا متكاملا لحكاية وطن، وتتشابك خيوطها لترسم صورا لمعاناة شعب، وتجتمع أحاسيس وذاكرة الفرد لتشكل ذاكرة وطن.
ذات يوم، من عام النكبة، نزحت عائلة فلسطينية إلى المجهول، معتقدة أنها أيام وتعود، فتقطعت بها السبل وتقاذفتها أمواج التيه، وما لبثت الأيام أن اصبحت سنين طويلة وثقيلة، يتصارع فيها الواقع مع الأمل والحلم. توفي رب الأسرة وبقلبه غصة، مورثا لأبنائه وأحفاده عشق وطن سليب، وتفاصيل بلاد خطها لهم من ذاكرة رسمت فلسطين أجمل لوحة في الوجود.

نزح شقيق أمي، اي خالي، مصطفى مراد، عن الياجور قرب حيفا إلى مخيم شاتيلا في بيروت، وتوفي في الإمارات العربية المتحدة بعيدا عن أهله ووطنه. عاش حياة زاخرة بالتفاصيل المثقلة بالمشاعر والانفعالات والآلام والأمال..مسيرة انتهت برحيله، لكنها متواصلة بالنسبة لمن تركهم خلفه.
شاءت الصدف أن أتعرف على ابنة خالي، ماجدة، التي لم أكن أعلم بوجودها، عن طريق شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، هذه الشبكة التي تتيح لنا التواصل واللقاء دون جواز سفر ودون قيود أو حواجز أو نقاط حدودية. طلبت ماجدة إضافتي إلى قائمة الأصدقاء، فحاولت مليًا أن أنبش ذاكرتي بحثا عن هذا الاسم دون فائدة، دخلت إلى صفحتها لمعرفة المزيد عنها، وبعد أن قبلتها صديقة، بادرت إلى محادثتي عبر شباك الدردشة وطرحت السلام، وحين سألتها من تكون أجابت: أنا ماجدة مصطفى مراد ويفترض أنني ابنة خالك!

كانت هذه الجملة كافية لإثارة شحنة من الانفعالات، ولإعادة ربط خيوط تقطعت أوصالها.

بدأ التواصل بيننا منذ تلك اللحظة، وفي إحدى جلسات الحوار طلبت منها أن تسرد لي كل ما تعرفه عن الظروف التي فرقت خالي عن اشقائه، وعن شقيقته الوحيدة التي رباها، وهي أمي.
ذرفت ماجدة الدموع الغزيرة حين أتينا على ذكر والدها. أتبكينه أم تبكين فلسطين أم كليهما، سألتها، فأجابت: كلاهما ويضاف إليهما واقعنا وانتكاسة حلمنا.

كان خالي حسبما قالت ماجدة، مقلا في الكلام عن التهجير والنزوح ويتجنب الخوض فيهما، ويحتفظ بالكثير من التفاصيل لنفسه.. تسكنه غصّة ثقيلة رافقته حتى يوم مماته، وشديد الانفعال حين تذكر فلسطين أمامه.

تعرف ماجدة نفسها بأنها "مهجرة من الياجور".. رغم أن والدها، من قرية كفرمندا التي ولد وترعرع فيها، لكنه كان يقيم في الياجور مع زوجته حين داهمت النكبة فلسطين.

لم يدفن خالي في الياجور، التي لم تعد موجودة إلا في ذاكرة مهجريها وكتب التاريخ، ولا ببلده الأصلي كفر مندا، بل دفن في الإمارات العربية المتحدة التي انتقل إليها في الثمانينات من القرن الماضي بعد أن ضاقت فيه السبل في بيروت.
النزوح
ما تعرفه ماجدة عن النكبة هو ما سمعته من والدتها وجدتها، والقليل مما أضافه والدها: "كنا نسمع الكثير من جدتي وأمي، لدرجة أننا حفظنا، من كثرة التكرار، أن جدتي اصطحبت خالي وأمي معها وأغلقت باب المنزل، ووضعت طعاما للدجاجات يكفي لعدة أيام، على اعتبار أنها ستعود قبل نفاذه".

"كان والدي منشغلا بأحداث فلسطين، حين قررت جدتي بعد تفاقم الأوضاع، النزوح إلى لبنان بشكل مؤقت مصطحبة أمي وخالي، وكانت محطتهم الاولى بلدة عيثرون في الجنوب اللبناني".
"بعد أيام تبعهم والدي إلى البلدة لتأمين إقامة مؤقتة لهم، وحين وصل إلى هناك عرض عليه مختار القرية البقاء في لبنان وتأمين الإقامة الدائمة للعائلة نظرا لوجود عائلة كبيرة تحمل نفس اسم عائلة والدي (مراد)، ويرجح أنّ هناك صلة قرابة بينهما، غير أن والدي رفض، وبعد أن أطمأن على العائلة عاد لفلسطين".

"بعد فترة قصيرة توجّه والدي مجدداً إلى لبنان من اجل إعادة العائلة إلى فلسطين لكن الأمور سارت بتسارع غير متوقع وسقطت فلسطين سقوطا مدويًا وأغلقت منافذها ولم يتسن لهم العودة".

"أقامت العائلة في بلدة عيثرون لعدة أيام لحين تأمين انتقالهم بالتعاون مع الجهات الرسمية الى مناطق أخرى، ومن ثم كان اللجوء الثاني الى الشمال وتحديدا مدينة بعلبك (في مخيم يعرف حالياً بمخيم الجليل)، ومن ثم كان الاستقرار النهائي في مخيم صبرا وشاتيلا في قلب العاصمة بيروت".
شاتيلا؛ صورة مصغّرة لفلسطين
تصف ماجدة مخيم شاتيلا الذي عاشت فيه طفولتها، بأنه أشبه ببؤرة منعزلة عن العالم الخارجي، أو كوكب قائم بذاته، منبوذ من الخارج ولكنه يعج بالحياة في الداخل.

أكثر ما تذكره من طفولتها: قصف الطائرات الإسرائيلية للمخيم، وسقوط الشهداء بشكل شبه يومي، واضطرار الأهالي في كثير من الاحيان للهروب إلى مناطق أخرى قريبة حين يتعرض المخيم للقصف او حين تصل أنباء عن إنزال بحري إسرائيلي.

تحمل ماجدة ذكريات جميلة من المخيم، عوضتها عن ذكريات طفولة كان يفترض أن تكون في الياجور، وتصف المخيم  بالقول: "ضمّ المخيم أناسا من كل أنحاء فلسطين، هو بمثابة صورة مصغرة لها، تعلقت فيه أنا واخوتي لدرجة جعلتنا نعتبر يوم مغادرته إلى الإمارات العربية المتحدة يومًا مشؤوما.

كنت في سنوات طفولتي الأولى، اعتبر جميع أهالي المخيم أقاربي، لأنني لم أدرك حينها ماذا كان يعني اللجوء والتهجير والانقطاع عن الوطن والأهل، لكنني بعد سنوات بدأت أدرك حقيقة الأمر، وبدأت أرسم لفلسطين صورة التقطت معالمها من أحاديث عائلتي وأهالي المخيم والمدرسة...وبدأت أعي حجم الكارثة التي عصفت بنا".

كانت الصلات الاجتماعية بين أهالي المخيم وثيقة للغاية، وسادت روح التكافل الاجتماعي والتعاون والتآخي بينهم، كانوا كأنهم أسرة واحدة فقد حملوا الهم والوجع والمعاناة ذاتها...، وكانت فلسطين محور حياتهم، وكنا جزء من هذا النسيج الاجتماعي".

قسوة الحياة
"
كانت الأوضاع المعيشية صعبة للغاية، ومع ازدياد عدد أفراد العائلة ازدادت أعباء ومسؤوليات والدي، المعيل الوحيد للعائلة، والذي عمل لفترة طويلة في مجال البناء. كانت عائلتنا مكونة من والد ووالدة و7 أخوات وأخوين، ومرت العائلة بأسوأ الأوضاع حينما لم يجد والدي عملا طوال عام كامل، مما اضطر والدتي وشقيقاي للعمل باعمال بسيطة مع مواظبتهما على الدراسة".
 
قبل المجزرة بشهور

"وفي أواخر السبعينات، وبعد أن ضاقت سبل العيش، أستطاع والدي تأمين عقد عمل في دولة الإمارات العربية المتحدة، وقرّر الانتقال بنا للعيش هناك، إلا أن ذلك وقع علينا كالصاعقة. لقد أحسسنا حينها أن هذه الخطوة تبعدنا عن فلسطين وتفاعلاتها..
كنت طفلة لكنني أدركت أن هذا القرار يبعدنا عن بيئتنا...عن فلسطين والفلسطينيين، فلسطين الجغرافية وفلسطين نمط الحياة اليومي المتمثل في المخيم. كنت أحبّ المخيم رغم ظروف الحياة القاسية، شدّني تفاعل الناس مع بعضهم بأحزانهم وأفراحهم الصغيرة، اجتماعهم حول القضايا الوطنية، وتضحياتهم وتضامنهم. فلسطين هناك.. الأغاني الثورية والمناسبات الوطنية، وروح الانتماء والتمسك بالوطن، فلسطين في المخيم والمخيم كله فلسطين صغيرة".

حسم الوالدان أمرهما وانتقلت العائلة عام 81 إلى الإمارات وسط حالة من الحزن لدى جميع أفراد العائلة. لكن بعد عدة شهور حصل الاجتياح، وارتكبت أبشع مجازر التاريخ، مجزرة صبرا وشاتيلا، المخيم الذي غادرته العائلة وبقي فيه الكثير من الأقارب والأصدقاء والمعارف ورفاق الدرب، وتلقت العائلة نبأ استشهاد أعزّ صديق للعائلة بالحزن والبكاء وقلة الحيلة... كانت الصدمة كبيرة، وأبدى عدد من أفراد العائلة إصرارًا على العودة لبيروت تحت أي ظرف.. وتقول ماجدة بلهجة عامية بلكنة بيروتية: "بتعرف وقت المجزرة عملنا اضراب بالبيت وما بدنا نبقى هون وبدنا ننزل للمخيم حتى لو بدنا نموت".

الغربة في الإمارات
لم تكن العائلة قادرة على التأقلم مع الواقع الجديد، ولم تكن قادرة عن الانفصال عن بيروت والمخيم والثورة. أحست العائلة بالغربة والاغتراب في الإمارات..
وتقول ماجدة: "جئنا إلى بلد أحسسنا أنه غريب عنا ونحن غرباء فيه، كأننا انسلخنا تماما عن بيئتنا، لغة مختلفة وأناس مختلفون، كنا نشعر بالوحدة".
وتضيف، مقارنة بين المخيم وبين الإقامة في الفجيرة: "في المخيم كانت البيوت مفتوحة والناس يعرفون بعضهم بعضا، لكننا هنا وحيدون. أحسسنا مع الوقت باننا نفقد شيئا من هويتنا الفلسطينية في بيئة مختلفة ومجتمع له اهتمامات لا تمت لقضيتنا بشيء. لم ننسجم مع المجتمع الجديد، لم نختلط بالناس، كنت أذهب للمدرسة وأعود للبيت وأبقى فيه، لم يكن لنا اية علاقات اجتماعية، باستثناء بعض العلاقات مع عائلات فلسطينية قادمة من لبنان مثلنا في مرحلة متأخرة".
لكن رغم عدم القدرة على الاندماج تصف ماجدة أهالي الفجيرة خصوصًا واهالي الامارات بصفة عامة بأنهم أناس طيبون وكرماء وأخلاقهم عالية ويتمتعون بروح الأصالة والشهامة لكن العلاقات معهم بقيت محدودة ولم تتطور لعلاقات إجتماعية.

معنى فلسطين
تعني فلسطين الكثير بالنسبة لماجدة مصطفى مراد التي ما زالت تحمل بطاقة لاجئة، وتعريفها لفلسطين يجمع الكثير من التناقضات والمشاعر المختلطة، وتقول: أنتم الذين بقيتم في فلسطين قد لا تحسون بها كما نحسها نحن، ما أصعب أن تكون محرومًا من وطنك، من أرضك، ما أصعب ألاّ تجد مكانا تنتمي إليه سوى وطن سليب. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن أتخلى عن حقي في العودة إلى وطني..فلسطين بالنسبة لي هي الأمل والألم، الحقيقة والحلم، هي تاريخي، هويتي، ثقافتي، حضارتي، فلسطين هي أنا بكل كينونتي".

 

التعليقات