تأبين شهيد العودة ميلاد عياش في القدس: إصرار على درب الشهداء والمقاومة

من لحظة صادمة، موجعة، وُلد "ميلاد" مرة أُخرى بين الثالث عشر والرابع عشر من أيار 2011، قبل أن يُكمل ربيعه السابع عشر، من تلك اللحظة التي امتدت فيها يد أحد المستوطنين المدججين بالسلاح، أو أحد "حماتهم" في بلدة سلوان، بجوار بيت المقدس الرابض تحت الإحتلال، وأُطلقت من مسافة قصيرة جدا خمس رصاصات على شهيدنا البطل.

تأبين شهيد العودة ميلاد عياش في القدس: إصرار على درب الشهداء والمقاومة

من لحظة صادمة، موجعة، وُلد "ميلاد" مرة أُخرى بين الثالث عشر والرابع عشر من أيار 2011، قبل أن يُكمل ربيعه السابع عشر، من تلك اللحظة التي امتدت فيها يد أحد المستوطنين المدججين بالسلاح، أو أحد "حماتهم" في بلدة سلوان، بجوار بيت المقدس الرابض تحت الإحتلال، وأُطلقت من مسافة قصيرة جدا خمس رصاصات على شهيدنا البطل.

 نظمت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في القدس، وعائلة وأصدقاء الشهيد ميلاد عياش، يوم الجمعة الماضي، مهرجانا تأبينيا للشهيد ميلاد، بمرور أربعين يوما على استشهاده، في نادي "سلوان الرياضي" بمدينة القدس، والذي أاستشهد في تاريخ 15\5\2011، ذكرى النكبة، وقد حضر التأبين مئات المشاركين من عائلة الشهيد وأصدقائه، وممثلون عن القوى الوطنية والإسلامية في القدس، وعدد من أهالي الداخل الفلسطيني والجولان المحتل.

اافتتح المهرجان، الذي تولى عرافته منير الغول وشهد ياسين، بتلاوة آيات من القرآن الكريم، رتلها الشيخ إبراهيم عبيدي، ثم الوقوف دقيقة صمت وقراءة الفاتحة لروح الشهيد ميلاد، ولكافة شهداء فلسطين، وإنشاد النشيد الوطني الفلسطيني "فدائي".

وقد استشهد ميلاد (15 عاما)، خلال أحداث يوم النكبة، بعدما أطلق أحد المستوطنين النار عليه قرب سلوان، وذلك خلال المظاهرات والاحتجاجات التي دارت في ذلك اليوم في كل فلسطين، فجاء المهرجان تخليدا لذكراه، ومن أجل التأكيد على الثوابت الفلسطينية والوحدة الوطنية.

تحدث في المهرجان كل من عبد اللطيف غيث، عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وحاتم عبد القادر، ممثل القوى الوطنية والاسلامية في مدينة القدس، ومحمد وليد الغول عن أهالي سلوان، وكلمة لوفد الجولان السوري المحتل، وكلمة للكاتب والباحث أنطوان شلحت، وكلمة لأهل الشهيد، ألقاها شقيقه مجد عياش، كما شمل المهرجان إلقاء عدة قصائد وفقرات غناية ملتزمة، وعرض فيلم صور عن حياة الشهيد.

عبد اللطيف غيث: علينا تقديم خيار المقاومة بكل أشكالها المشروعة

كانت أولى الكلمات للسيد عبد اللطيف غيث، ممثلا عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الذي أكد على أن إعادة بناء البيت الفلسطيني هو الخيار الوحيد لإنهاء الازمة التي يمر بها الشعب الفلسطيني، وشق الدرب عبر استراتيجية واحدة وواضحة لتحقيق أماني الحرية، والعودة، وإقامة الدولة الفلسطينية.

وقال عبد اللطيف: "علينا استعادة الوحدة وإنهاء الانقسام، إذ لم يعد الإعلان من طرفي الانقسام كافيا، بل يجب توفير الإرادة السياسية للبدء فورا بتنفيذ ما وقع واتفق حوله من كافة القوى، بعيدا عن المحاصصة والاستئثار والمماطلة، فشعبنا مل الانتظار".

وأضاف: "نقطة البدء هي في إعادة الاعتبار للهوية الوطنية والإرادة الفلسطينية – منظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الكيان السياسي الفلسطيني، وذلك عبر انتخابات ديموقراطية، تشارك فيها كافة الألوان والأطياف، على قاعدة التمثيل النسبي الكامل، وحيثما كان ذلك ممكنا".

وشدد عبد اللطيف على "رفض كافة الضغوط بالعودة إلى المفاوضات المباشرة وغير المباشرة، وممارسة القطع مع النهج والأسس السابقة، التي أستنزفت الشعب الفلسطيني خلال عشرين سنة، والتي كرست الاحتلال وهددت المشروع الوطني بالتصفية، علينا وضع استراتيجية وطنية واحدة وواضحة، تقود إلى الاعتراف بكافة حقوقنا الوطنية الثابتة والمشروعة".

وختم بالقول: "كما علينا تقديم خيار المقاومة بكل أشكالها المشروعة، وهو الخيار المُجرب، على أي خيارات أُخرى تضع حقوق شعبنا أمام المساومة والمشاريع التآمرية والتصفوية".

حاتم عبد القادر: منا الوعد يا ميلاد بأن نحفظ العهد وأن نسير على الدرب حتى دحر الاحتلال

من بعدها تحدث حاتم عبد القادر، ممثل القوى الوطنية والاسلامية في مدينة القدس، فاعتبر أن ميلاد كان شهادة للحق والحرية، وللانعتاق من سلاسل السجان وثقل المحتل الجاثم بجسده الثقيل على عظام الأبطال والأطفال، وقال: "لم يفل من عضد ميلادنا بأن يكون سباقا للشهادة والتضحية والفداء، فهو سليل عائلة مناضلة قدمت للقدس وفلسطين كثيرا وبصمت مشهود، لأنها تعرف أن القدس وفلسطين أكبر منا جميعا"، وأضاف: "لقد سقطت سنبلتنا في رأس العامود، لكنها أنبتت سنابل كثيرة، يافعة يانعة تُحيط بالقدس سياجا وتحمل الراية ليتسلمها قائد عن قائد، وكابر عن كابر، إذ ما زالت شُعلتنا متقدة في القدس وحواريها وأزقتها".

وقال عبد القادر في ميلاد: "كان شهيدنا رُغم صغر سنه يعلم أن الحق يُنتزع ولا يُستجدى، فكان مثال الفارس المقدام فينيقيا فلسطينيا، موقنا بأن الحق عائد مهما طال ليل الفراق، ولكن صخرة الشهادة كانت الأقرب لميلاد، قبل أن تنجح سفينتنا إلى بر الأمان، وتكتحل عيناه بميلاد دولتنا المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.. فنقول يا كاتب التاريخ مهلا.. لا ينجو من الموت قاتل، وسنابك الخيل ستمر بطرقنا المُعبدة بجماجم الشهداء، وتفتح طريق النصر في أزقة القدس لتُشرق الشمس من جديد، وينبلج فجرنا، وتنشق الأرض عن حباتها، ويعود عصفور الشمس إلى موطنه، فيُغرد لحن الخلود في سيمفونية البحر التي إذا أصابها إعصار ضربت أمواجها بعنف كل من يعاديها".

وختم بالقول: "فلك منا الوعد يا ميلاد بأن نحفظ العهد، وأن نسير على الدرب حتى دحر الاحتلال وكسر شوكته، لنثبت فرحتنا بين ركام أحزاننا.. وتتفتح ورودنا في بستان الحرية بعد تنسم المعتقلين لنفحات الانعتاق من الأسر.. وعودة الغائب إلى أهله ووطنه.. فنم قرير العين يا ميلاد، ولك العهد أن نبقى الأوفياء للقدس ولثوابتنا الوطنية، حتى يندحر الاحتلال ونحقق نبوءة الشهيد ياسر عرفات، بأن يرفع شبل من أشبالنا، وزهرة من زهراتنا، علم فلسطين، فوق أسوار القدس ومساجد القدس وكنائس القدس".

كيف يرضى بالتهويد من كانت جذوره مغروسة في الأرض من لفتا إلى سلوان؟

كما تحدث وليد الغول فألقى كلمة عن "رابطة حمائل سلوان"، تساءل فيها: "كيف لميلاد العاشق أن يتعايش مع الاحتلال؟ وأن يتقبل الاستيطان؟ وأن يرضى بالتهويد؟ كيف وقد طوق الجدار العنصري رقبته؟ كيف وقد جثمت على صدره وأنفاسه صخورا وأسلاكا شائكة وحواجزا؟... كيف يرضى بالإذلال من شرب الحرية من ينابيع سلوان؟.. كيف يرضى بالاستيطان من تعلم في مدرسة أبو جمال وأبو داوود وسرحان؟.. كيف يرضى بالتهويد من كانت جذوره مغروسة في الأرض من لفتا إلى سلوان؟.. كيف لا يثور ولا يُقاوم من كانت دماؤه وعروقه وجيناته الوراثية تنتمي لهذا الأب ولهذه الأم ولهذا الخال؟.. إن المنبت، والجغرافيا، والتاريخ، والمعاناة، والاحتلال، صنعت هذه الطاقة الثائرة.. وجلبت هذه المادة المتفجرة".

 

أنطوان شلحت: إن ما أبقاه استشهاد ميلاد، فضلاً عن سيرته الحسنة وأخلاقه، هو كنوز، وأرصدة، لا يقدر حتى القتل عليها

تحدث أيضا الكاتب والباحث أنطوان شلحت، الذي يعرف عائلة الشهيد، فقال عن ميلاد قائلا: "إنّ التكلم عن الشهيد ميلاد عياش بلغة الماضي هو أمر شديد الوطأة على كل من عرفه وأحبه، وهو أشدّ مرارة على عائلته الصغرى المؤلفة من الأب سعيد، والأم سمـر، والشقيقين وعد ومجد... مع ذلك لا يظل سوى أن نذكرَه ونتذكره بما كانه وبما هو باق منه".

وأضاف شلحت: "كانت معرفتي بالشهيد عرضية من خلال زمالتي مع والده، غير أنها كانت كافية لتلمس أنه كان مثل شجـرة مغروسة في مجرى المياه، تعطي ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل، فقد لفتني أيضًا أنه تحلّى بقدر كبير من سمات التحدي، وهو أمر ليس بغريب على فتى لأب يفني حياته على جبهة الكفاح الوطني، وعلى جبهة الكفاح الحضاري- الثقافي، ولأم تتحدّر من بيت يتميز بالعزة والكرامة والحياة الحرّة، وبالتالي كان همهما كله هو البناء أولاً ودائمًا، وبلورة الشخصية الواثقة من نفسها، وصوغ الهوية الوطنية والحضارية".

ولفت شلحت إلى أنه "وبعد سقوطه شهيدًا، أتيحت لي الفرصة كي أطلع على ما كان يخطه ويزيّن جدران غرفته به، والذي يشف عن أفكاره وهواجسه وطموحاته وأحلامه، وكان أول ما أطلّ عليّ من بين ذلك عالم داخليّ غنيّ، يفصح عن مكنوناته من دون أي تكلف، وقلب كبير نابض بالحب للحياة والحرية والوطن، وربما تكون أسرته قد شعرت بهذا العالم من قبل، إلا أن استشهاده يمكننا نحن أيضًا من إدراك أنه كان عالمًا فياضًا في عمقه وحساسيته ورؤيته".

وختم بالقول: "فيا عائلة الشهيد العزيزة، أعرف أن أي كلمات لا تستطيع أن تهدهد حزنكم على الابن والشقيق، الذي اغتالته وحوش آدمية.. لكن لعلي أستطيع تخفيف هذا الحزن بالقول الصادق إن ما أبقاه استشهاد ميلاد، فضلاً عن سيرته الحسنة وأخلاقه، هو كنوز، أرصدة، لا يقدر حتى القتل عليها، وهي أكبر دليل على أنه سيظل برغم غيابه أكثرَ حياة من الموت".

مجد عياش: هناك كان ملاكًا يقف على حافة الزمان، يتزين لموته الفلسطيني بامتياز..

كانت كلمة الختام لعائلة الشهيد، ألقاها شقيقه مجد عياش بحزنٍ وفخر.. متذكرا أخاه الراحل، ومُعددا ميزاته، ومتحدثا عن شخصيته وروحه الجميليتين، إذ قال: " نتذكرك اليوم ولا نصدق.. كيف كنت بالأمس القريب بيننا ولا زلنا غير قادرين على تحمل واستساغة ما حصل.. دقيقة وستعود.. ساعة و نراك.. يوم أو شهر أو عام.. هذا ما نقوله في وجداننا للتحايل على هذا القدرالذي سرق منا فرحك وابتسامتك.. سرق منا ميلاد..

مثل كل مخاضات الولادة وبشائرها، كان ميلاد يضيء الليل بين الثالث عشر والرابع عشر من أيار. من فوق تلة تطل على ينابيع سلوان ودروبها وبيوتها القديمة. كان يقف شامخا  يشدو  بملء فمه: عاشت فلسطين.. عاشت الحرية.. يتزين لموته الفلسطيني بامتياز..  يشتم رائحة الدم والبارود، ويعرف أن خارطة الحرية لا تمر إلا عبر أجسادنا... ألم يقل كاتبنا الحبيب "لن أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي... أو أقتلع من السماء جنتها... أو أموت .. أو تموت، أو نموت معا"، ونحن أيها الأخوة والأخوات لا نموت لأننا نحب الموت، أو لأننا نحلم بجنات السماء، بل لأننا نرفض أن نعيش مثل الأموات.. ولا نرضى الذل والظلم.. وهل أظلمُ من أخذِ بيتنا والنوم في سريرنا وأكل طعامنا؟"

وتحدث مجد عن ميلاد أيضا، قال: "ولد ميلاد مرتين... وصرخ مرتين.. في المرة الأولى سمي ميلاد... ليس مصادفة.. وفي المرة الثانية سمي ميلاد وليس مصادفة أيضا..  ففي الأولى كان تخليد ميلاد الشهيد، وفي الثانية كان ميلاده إيذانا بميلاد فجر حرية جديد.. رأى "ميلاد" النور في السابع والعشرين من شهر آب 1993، وكان المولود الثالث والأخير لوالديه.. وكان لاختيار اسمه ذكرى رسخت في ذهني والديه، كما رسخت في أذهان الكثيرين، وهي ذكرى الشهيد الطفل ميلاد حنا شاهين، من مدينة المهد والميلاد بيت لحم، الذي أعدم في ربيعه الثالث عشر على يد قوات الاحتلال.. وقد استبشرنا في مولد ميلادنا بشرى بقرب بزوغ فجر الحرية علينا، وعلى شعبنا المنكوب، ووطننا المسلوب. لكن ولادته هذه المرة كانت مختلفة.. حزينة، وإن تغنينا بالوطن فاجعة، وإن تغنينا بالحرية... ولد ميلاد ثانية مثل الصبار ليغير شكل الصحراء ويرسم من جديد بدمه المضيء درب الأمل لغد أفضل... غد لا يكون الميلاد فيه مجازا ولا شعرًا، بل بيت ووطن حر، ونوم مليئ الجفون، وبراءة لا تحاصرها أشباح أغراب يتسللون في عتمة الليل لينقبوا عن عظام موتاهم  في أرضنا، وليقتلوا من عليها من أحياء".

وتطرق مجد إلى تسمية استشهاد ميلاد، قائلا: "لقد نال ميلاد لدى استشهاده لقب شهيد العودة، بسبب سقوطه في مستهل أحداث الذكرى الـ 63 للنكبة، ونال لقب الشهيد الأول في الانتفاضة الثالثة، بحسب ما دعاه أصدقاؤه على صفحة الانتفاضة الثالثة، والذين دشنوا صفحة خاصة به على شبكة "فيسبوك"، تحت اسم "كلنا ميلاد عياش".

كانت آخر عبارة كتبها "ميلاد" في فجر 13 أيار 2011 على صفحته في "فيسبوك" هي العبارة التالية: "سوف نشعل تحت أقدام الغزاة الصهاينة لهيبًا يخرج من وجوههم... سوف نحررها بإذن الله... بدنا نقلبها "دندرة" يا عالم... فإما الشهادة أو الحرية... هذا هو حلنا الوحيد يا عالم."

واختتم بالقول: "برسم هذا كله نقول من بعدك يا ميلاد: الحرية والحياة، فنحن نستحقهما بفضل أنداد مثلك.. وسيبقى يوم استشهادك يوم ميلاد يتجدد لك، ينير لنا الدرب الطويل، ويرشدنا إلى صراط الحرية والحياة والكرامة.. وليشهد العالم ميلاد المنتصرين".

 

ووُزع خلال حفل التأبين كتاب للشهيد عن ميلاد عياش، احتوى في صفحاته كلمات لكتاب، وأصدقاء، وشخصيات وطنية وعامة، تعدد مآثر الشهيد ميلاد، مساندة العائلة في حزنها، كما احتوى على كلمة لأسرة الشهيد، إذ كانت كلمة البداية لوالده والخاتمة لوالدته، وضم الكتاب ما نشر عن استشهاد ميلاد في وسائل الإعلام.

قصة استشهاد الميلاد..

في أيامه الأخيرة، قبل استشهاده، كان ميلاد مشاركا نشطا في صفحة "الانتفاضة الفلسطينية الثالثة" على شبكة التواصل الاجتماعي "الفيسبوك"، إذ دأب على حض أصدقائه على المشاركة والاستعداد لـ "يوم النفير" (يوم الجمعة 13 أيار)، الذي أُصيب فيه وهو يهاجم بالحجارة بؤرة المستوطنين في سلوان، بعد أن أطلق عليه أحد المستوطنين خمسة رصاصات، وقد تم نقله إلى مستشفى المقاصد في القدس في محاولة لإنقاذه، إلا أنه في صباح اليوم التالي توفي بسبب فقدانه كميات كبيرة من الدم.

التعليقات