معركة الكرامة../ د. عبد الحفيظ محارب

في الحادي والعشرين من آذار 1968 قامت إسرائيل بعملية واسعة النطاق ضد قواعد المقاومة الفلسطينية في الأغوار، استهدفت بشكل خاص بلدة الكرامة حيث قيادة المقاومة، وقد تصدت قوى الثورة إلى جانب الجيش الأردني للقوات الغازية، وتمكنت خلال اليوم نفسه من إفشال العملية، وإلحاق الهزيمة بالقوات الغازية داخل الأراضي الأردنية، عقب إرغامها على الانسحاب، مخلفة وراءها أعدادا من الآليات العسكرية، يحتوي بعضها على جثامين جنود

معركة الكرامة../ د. عبد الحفيظ محارب

في الحادي والعشرين من آذار 1968 قامت إسرائيل بعملية واسعة النطاق ضد قواعد المقاومة الفلسطينية في الأغوار، استهدفت بشكل خاص بلدة الكرامة حيث قيادة المقاومة، وقد تصدت قوى الثورة إلى جانب الجيش الأردني للقوات الغازية، وتمكنت خلال اليوم نفسه من إفشال العملية، وإلحاق الهزيمة بالقوات الغازية داخل الأراضي الأردنية، عقب إرغامها على الانسحاب، مخلفة وراءها أعدادا من الآليات العسكرية، يحتوي بعضها على جثامين جنود.

لقد دارت المعركة في منطقة عرضها قرابة 15 كم وطولها قرابة 50 كلم. وتشكلت الوحدات الغازية من ثلاثة ألوية:
1. لواء الغور بقيادة رفائيل إيتان؛
2. لواء مظلات بقيادة داني مت، وعمل فيه شخصان كان لهما فيما بعد شأن في السياسة الاسرائيلية : متان فلنائي وأمنون ليبكين شاحاك؛
3. لواء دروع بقيادة شموئيل غونين.
فضلا عن قوات مساندة تتشكل من أسلحة مدفعية وهندسة وجو.

اعتمدت الخطة الإسرائيلية على التقدم صوب بلدة الكرامة بأرتال من الدبابات والآليات العسكرية، على شكل فكي كماشة، على محورين، محور جسر داميا من الشمال، ومحور جسر أللنبي من الجنوب، وذلك لعزلها من خلال السيطرة على طريق الأغوار الذي يجتاز البلدة شمالا وجنوبا، ومن ثم تمكين قوات المظليين التي من المقرر أن تصلها بواسطة الآليات شبه المجنزرة، وعن طريق الإنزال بالمروحيات على التلال الشرقية للبلدة، وذلك بهدف توجيه ضربة قاضية لقوات الثورة الفلسطينية، حديثة الولادة، والتي لا يزيد ظهورها في الأغوار على شهور معدودة.

حوالي الساعة الخامسة والنصف صباحا، شرعت القوات الإسرائيلية باجتياز خطوط وقت إطلاق النار على محور جسر داميا، حيث تقدم اللواء الإسرائيلي 80، ومحور جسر أللنبي حيث تقدم اللواء السابع. وفي الوقت نفسه تقدمت قوات جنوب البحر الميت في منطقة غور الصافي، بهدف صرف الأنظار عن الهدف المركزي، وتشتيت جهود التصدي للقوات الغازية. منذ اللحظة الأولى من تحركها على جسري داميا وأللنبي، ووجهت القوات الإسرائيلية، بمقاومة عنيدة من قبل المخافر الأردنية الأمامية التي تمكنت من عرقلة تقدم الآليات، وحالت كذلك دون تمكين سلاح الهندسة الإسرائيلي من إقامة جسر إلى جانب جسر أللنبي.

تمكنت الآليات الإسرائيلية بصعوبة بالغة من إحراز تقدم على المحورين، ففي محور جسر أللنبي، سارت القوات الإسرائيلية على شكل سهمين، الأول يتشكل من 11 دبابة توجه صوب الكفرين، حيث ما لبث أن توقف على اثر مواجهة مع القوات الأردنية التي دمرت له ثماني دبابات وعدد من المدرعات شبه المجنزرة. والثاني توقف عند تل نمرين بعد أن خاض مواجهة مع القوات الأردنية، وبخاصة اللواء الأردني المدرع 60 الذي نجح في إيقاع خسائر به في الأرواح والآليات.

أما محور جسر داميا، فلم يكن بأفضل من محور جسر أللنبي تل نمرين، فقد تمكنت القوات الأردنية من كسر شأفة الهجوم الإسرائيلي عند المثلث المصري، بعد أن أوقعت بالقوات الإسرائيلية التي كانت قد وصلته في الساعة الثامنة صباحا خسائر في الآليات والأفراد، ما اضطرها للتحول من حالة الهجوم إلى حالة الدفاع حتى انسحابها ليلا.

عند الساعة السابعة صباحا بدأت المعركة داخل بلدة الكرامة. فقد اقتحمت كتيبتان من لواء المظليين البلدة من محورين متوازيين، حيث دخلت كتيبة البلدة من جهتها الشرقية، وأخرى من جهتها الغربية. وسارتا في شارعين متوازيين متجهتين صوب شمال البلدة.

ووجهت القوتان بمقاومة عنيدة من جانب المقاومة الفلسطينية التي لم تتفاجأ بالهجوم، لعلمها بما يحدث على محاور القتال، فضلا عن قيام طائرة إسرائيلية بإلقاء مناشير فوق البلدة للنيل من الروح المعنوية للمقاتلين. بيد أن هؤلاء أعدوا العدة، وخاضوا معارك مواجهة بما يمتلكون من أسلحة رشاشة ومدافع هاون وأسلحة مضادة للدروع ار بي جي، فضلا عن القنابل اليدوية التي كانت تلقى، وفق المصادر الإسرائيلية، داخل المدرعات شبه المجنزرة.

كان من المقرر تعزيز هاتين الكتيبتين بقوات إنزال على السفوح الشرقية للبلدة. ولكن لسوء حظ تلك القوات، أنها وقعت عن هبوط المروحيات الحاملة لها في مصيدة كمين فلسطيني، ما لبث أن فاجأها بوابل من النيران، ملحقا بها إصابات عديدة، ما أدى ليس فقط إلى حرمان القوات العاملة داخل بلدة الكرامة من الدعم، وإنما أيضا انهماك القيادة الإسرائيلية بتخليص قوات الإنزال من نيران الكمين الفلسطيني، وإنقاذ المصابين داخل البلدة وخارجها، ما استدعى سلاح الجو تكثيف طلعاته التي بلغت حتى انتهاء العملية 360 طلعة، من بينها 19 طلعة لإخلاء المصابين في مختلف المحاور.

كان من نتيجة صمود المقاتلين داخل بلدة الكرامة، وعلى السفوح الشرقية لها حيث قوات الإنزال، وإلحاقهم خسائر بالقوات الغازية، أن اضطرت القيادة الإسرائيلية لإصدار تعليمات لقواتها بالانسحاب من البلدة في الساعة الحادية عشر قبل الظهر، ونسف أكبر عدد من المنازل أثناء عملية الانسحاب.

بذلك فشلت عملية احتلال بلدة الكرامة بعد مضي أربع ساعات من اقتحام أجزاء منها، في حين كانت القوات الإسرائيلية في المحاور الأخرى منهمكة بإخلاء المصابين والآليات المعطلة، وسط تبادل إطلاق النار مع القوات الأردنية، إلى أن استكملت انسحابها في الساعة الحادية عشر ليلا، لتجد أن حصاد خسائرها بلغ في الأفراد : 33 قتيلا و 161 جريحا. وفي الآليات تم تدمير 27 دبابة إلى جانب عدد من المدرعات شبه المجنزرة والشاحنات والرافعات، وسقوط طائرتين، إحداها سقطت قرب جنين، بينما أصيبت الأخرى من نوع "ميراج 3"، واضطرت للهبوط وتحطمت جراء ارتطامها بالأرض. وقد بقيت في ساحة المعركة، كغنيمة للجيش الأردني، أربع دبابات وثلاث شاحنات ومدرعتان.

يأتي هذا النصر بفضل التضحيات التي قدمها الطرفان، الفلسطيني والأردني، في معركة الصمود في بلدة الكرامة وعلى امتداد المحاور المؤدية إليها، إذ قدم كل منهما عشرات الشهداء في هذه المعركة التي جاءت نتيجتها عكس ما توخته إسرائيل، فقد أرادت منها القضاء على الحالة الوليدة ممثلة في فصائل المقاومة الفلسطينية في مهدها، وإظهار الجيش الإسرائيلي، بخاصة عشية الاستعدادات للاحتفال بـ "يوم الاستقلال" بصورة الجيش الذي لا يقهر، عن طريق تثبيت الصور التي بدا عليها في أعقاب تحقيقه انتصارا على ثلاثة جيوش عربية في حرب الخامس من حزيران، والذي تأتي في جزء منه بفضل عيوب من واجهتهم.

ومن ناحية أخرى عززت نتيجة المعركة مكانة المقاومة الفلسطينية في الساحتين الأردنية والعربية، ما أدى إلى تمكينها من توسيع نشاطها ضد قوات الاحتلال، فقد بلغت حصيلة عملياتها خلال العام 1969 حوالي مئتي عملية، وفي العام 1970 حتى أيلول 280 عملية.

من كتاب سيصدر قريبا للكاتب تحت عنوان: "الحملة" 

التعليقات