ورقة تقدير موقف: عمليّة الخليل والمصالحة والسلطة../ هاني المصري

إذا ثبت أن اختفاء المستعمرين المستوطنين الثلاثة قد تم أسرهم من قبل خليّة تابعة للجناح العسكري لـ "حماس"، وأن هذه العمليّة نُفِّذَت بقرار مركزي وليس بمبادرة فرديّة؛ فإن المصالحة الوطنيّة التي بدأت بتشكيل حكومة وفاق وطني أنهت وجود حكومتين واحدة في الضفة والأخرى في غزة ستتعرض إلى امتحان كبير، إذ إنها ستكون معرضة للانهيار؛ لأن إسرائيل تستهدف من العدوان الشامل الذي شنته بعد العمليّة عدة أهداف، وهي: إطلاق سراح المستوطنين الثلاثة، إذا ثبت صحة الادعاء الإسرائيلي بأنهم "مخطوفون" فعلًا؛ وتصفية البنية التحتيّة للمقاومة، وخصوصًا لحركة حماس خشية من تصاعدها بعد فشل مهمة جون كيري وتوقف المفاوضات، وجعل هناك ثمنًا باهظًا لأي عمليّة مقاومة؛ والتراجع عن صفقة تبادل الأسرى من خلال إعادة أسر عشرات الأسرى المحررين

ورقة تقدير موقف: عمليّة الخليل والمصالحة والسلطة../ هاني المصري

ملخّص تنفيذيّ

إذا ثبت أن اختفاء المستعمرين المستوطنين الثلاثة قد تم أسرهم من قبل خليّة تابعة للجناح العسكري لـ "حماس"، وأن هذه العمليّة نُفِّذَت بقرار مركزي وليس بمبادرة فرديّة؛ فإن المصالحة الوطنيّة التي بدأت بتشكيل حكومة وفاق وطني أنهت وجود حكومتين واحدة في الضفة والأخرى في غزة ستتعرض إلى امتحان كبير، إذ إنها ستكون معرضة للانهيار؛ لأن إسرائيل تستهدف من العدوان الشامل الذي شنته بعد العمليّة عدة أهداف، وهي: إطلاق سراح المستوطنين الثلاثة، إذا ثبت صحة الادعاء الإسرائيلي بأنهم "مخطوفون" فعلًا؛ وتصفية البنية التحتيّة للمقاومة، وخصوصًا لحركة حماس خشية من تصاعدها بعد فشل مهمة جون كيري وتوقف المفاوضات، وجعل هناك ثمنًا باهظًا لأي عمليّة مقاومة؛ والتراجع عن صفقة تبادل الأسرى من خلال إعادة أسر عشرات الأسرى المحررين. 

وكذلك يهدف العدوان إلى تمهيد الأرض الفلسطينيّة للخطوات الإسرائيليّة أحاديّة الجانب و"ليس الانسحاب أحادي الجانب" لقطع الطريق على أيّة حلول أو مبادرات يمكن أن تطرح خشية من تداعيات الفراغ الناجم عن فشل المفاوضات وعدم الاتفاق على استئنافها، وإلى إفشال المصالحة بإعادة الاستنزاف الداخلي بين "فتح" و"حماس" واستمرار فصل قطاع غزة عن الضفة الغربيّة، والمزيد من إضعاف السلطة بتحويلها أكثر وأكثر إلى وكيل أمني من دون صلاحيات، حتى تصبح قادرة على قبول الحل الإسرائيلي أو مستعدة للتعايش أكثر مع الأمر الواقع الذي يستكمل الاحتلال خلقه، ولو من خلال تنسيق غير رسمي أو رسمي عند تنفيذ الخطوات أحاديّة الجانب. 

****************

الرئيس أبو مازن و"فتح" سيعتبرون العمليّة إذا ثبتت مسؤوليّة "حماس" عنها طعنة للمصالحة، وتوفر فرصة لإسرائيل للانقضاض عليها، في حين أن المطلوب تحميل الاستعمار الاستيطاني الاحتلالي المسؤوليّة، لأنه أفشل جميع الجهود والمبادرات الرامية إلى التوصل إلى حل سياسي عن طريق المفاوضات، وواصل عمله بمصادرة الأرض الفلسطينيّة وتهويدها وطرد سكانها، وأسر حوالي ستة آلاف أسير، أكثر من 400 منهم تم أسرهم خلال الأسبوعين الماضيين، و200 منهم معتقلين اعتقالًا إداريًا يجدد إلى ما لا نهاية من دون توجيه أي تهم ولا تقديمهم إلى المحاكمة، ما يجعل اختطاف الجنود والمستعمرين المستوطنين يبدو كأنه الطريق الأكثر جدوى لإطلاق سراح الأسرى. 

لا يمكن أن يستقيم التحليل للموقف بعد اختفاء المستعمرين المستوطنين، دون رؤية أهداف توظيف هذا الأمر من الحكومة الإسرائيليّة من أجل تنفيذ مخططات موضوعة سابقًا لا علاقة لها بالعمليّة كما بيّنا آنفًا. 

لا يعرف أحد مدة الوقت الذي سيمر قبل فك ألغاز "عمليّة الخليل"، وفيما إذا نفذها فصيل فلسطيني، "حماس" أو الجهاد الإسلامي أو غيرهما من الفصائل المعروفة بقرار مركزي، أو عمل فردي، أو نفذتها خليّة تابعة لـ "داعش" أو غيرها من تنظيمات القاعدة، أو غيرها من التنظيمات التي تتكاثر كالفطر على امتداد المنطقة العربيّة.  

ولا أحد يعرف أيضًا كيف ستكون نهاية هذه العمليّة، هل بالنجاح بنقل المخطوفين إلى غزة أو سيناء أو مكان آخر؛ أو النجاح بالحفاظ على مكانهم سرًا في الضفة الغربيّة؛ أو حتى أن تكون العمليّة جنائيّة؛ أو مسرحيّة مفبركة مع استبعاد ذلك لتداعياته الوخيمة على الحكومة الإسرائيليّة؛ أو تنتهي العمليّة بقتل المخطوفين وخاطفيهم؛ أو بعودتهم أحياء مع أو من دون صفقة تبادل أسرى. 

إن السيناريوهات المحتملة مختلفة في كل حالة من الحالات المذكورة، ولكنّها جميعها تمثل ضربة موجعة لنظريّة الردع الإسرائيليّة، وتثبت أن هناك نقاط ضعف في سلسلة الإجراءات الأمنيّة الاحتلاليّة الرامية لمنع تنفيذ عمليات مقاومة ناجحة، وإذا نفذت فالمطلوب إحباطها فورًا، بينما مضى حتى الآن أكثر من عشرة أيام من دون الكشف عن هويّة الخاطفين ولا مكان الاختطاف؛ ما يدل على قدرات الجهة الخاطفة. 

سنركّز في هذه الورقة على فرضيّة أن "حماس" هي من قامت بتنفيذ العمليّة وبقرار مركزي؛ بهدف مبادلتهم بالأسرى، وإعادة الاعتبار لـ "حماس" التي تمر بأزمة شديدة ظهرت بتشكيل حكومة وفاق وطني بشروط الرئيس كاملة، ولخيار المقاومة الذي تعرض إلى تراجع، بعد أن طغى الصراع على السلطة والقيادة والقرار بعد توجه "حماس" للمشاركة في النظام السياسي الفلسطيني من بوابة السلطة، عبر الانتخابات المحليّة والتشريعيّة وتشكيل الحكومة، وصولًا إلى المشاركة في "الإطار القيادي المؤقت" الذي أصبح "لجنة تفعيل وتطوير المنظمة". 

دوافع "حماس" لإنجاح اتفاق المصالحة

بررت "حماس" التنازلات التي قدمتها من أجل إنجاح المصالحة بأن أبو مازن تراجع عن شرطه التعجيزي بإجراء الانتخابات بعد ثلاثة أشهر، كما كان يصر منذ توقيع "إعلان الدوحة"، في شباط 2012 وحتى عشيّة توقيع "إعلان الشاطئ"، وبأن الوحدة تستحق التنازل من أجلها، وأنها تنازلت عن الحكومة ولكنها لم تغادر الحكم، وكذلك من أجل أن تواصل بشكل أفضل خيار المقاومة، لا سيما أنها ستحتفظ بعناصر قوتها على الأرض، وخصوصًا كتائب القسام والقدرات التسليحيّة والصاروخيّة والبنية الإداريّة والخدماتيّة والاقتصاديّة. 

على أهميّة الأسباب المذكورة إلا أنها تغفل أسباب أخرى تتعلق بأن "حماس" أصبحت مضطرة لتقديم هذه التنازلات للاحتفاظ بما لديها كتنظيم بعد تزايد الخشية من مواجهة خطر أكبر، بعد المتغيرات الإقليميّة، وخصوصا سقوط حكم محمد مرسي في مصر، وفي ظل العداء المستمر بين النظام المصري وجماعة الإخوان المسلمين التي تعتبر "حماس" امتدادًا لهم.  

واتّضح أن المراهنة على تغيير الأوضاع في المنطقة بعد انهيار محور الممانعة، وما بعد تنصيب السيسي رئيسًا، واعتراف العالم كله تقريبًا به؛ مراهنة خاسرة أو غير مأمونة العواقب، ما يجعل تحرك "حماس" بمبادرة منها أقل ضررًا عليها من أن تُجبر على التخلي عن الحكومة جراء عدم القدرة على تحمل المسؤوليّة عنها، خصوصًا ماليًا في ظل تفاقم الحصار، وما أدى إليه من ازدياد حدة الأزمات المعيشيّة والمياه والصحة والكهرباء والوقود، ما ينذر باحتمال انفجار الموقف بصورة شاملة. 

في هذا السياق تهدف "حماس" من خلال اتفاق المصالحة التخلي عن عبء الحكومة، والحفاظ على قوتها في غزة، خصوصًا الأمنيّة والعسكريّة، وفتح معبر رفح، واستعادة العلاقات مع مصر، أو تخفيف حدة العداء، والتقدم على طريق الدخول إلى مؤسسات منظمة التحرير، وإحياء المجلس التشريعي الذي تتمتع فيه بالأغلبيّة، وإعادة تنظيم صفوفها في الضفة الغربيّة، والاستعداد لإجراء الانتخابات التي من المفضل أن يتم تأجيلها إلى أطول فترة ممكنة؛ لأن إجراءها بعد ستة أشهر على الأقل، كما نصّ "إعلان الشاطئ" سيجعلها، في أحسن الأحوال، لن تحصل على ما حصلت عليه من مقاعد في الانتخابات التشريعيّة 2006، كما أن نجاحها في الحصول على الأغلبيّة من دون حل مسألة الاعتراف الإسرائيلي والأميركي والأوروبي بها المتعذر من دون التزامها بشروط الرباعيّة لن يمكنها من الحكم، وسيعيد الأمور إلى نفس الدوامة التي شهدناها بعد فوزها في انتخابات 2006. 

الخلاصة أن "حماس" باتفاق المصالحة تحاول أن تبقي عناصر قوتها كتنظيم في غزة وإعادة تنظيم صفوفها في الضفة، وتشتري الوقت وتحمي نفسها من الأسوأ، وتنتظر تغيّر الظروف العربيّة والإقليميّة والدوليّة. وإذا وجدت أن المصالحة لن تزيح عن كاهلها عبء رواتب موظفي حكومتها السابقة، ولن تفتح معبر رفح، وستؤدي إلى إخراجها من السلطة، سواء عن طريق صناديق الاقتراع أو من دونها، وأنها مستهدفة بالإقصاء والهزيمة ولا فرصة لشراكة مع "فتح" لا في السلطة ولا في المنظمة؛ فإنها ستنقلب على المصالحة. 

ولكن "حماس" في هذه الحالة لا تدري ماذا تفعل: هل تشكل حكومة جديدة وهذا غير ممكن قانونيًا، فلم تعد عمليًا جزءًا من الحكومة القائمة التي تعتبر بحق حكومة الرئيس، إذ إن أي خلاف لن يؤدي على الأغلب إلى انهيار أو انشقاق الحكومة، خصوصًا إذا تم قبل تفعيل المجلس التشريعي الذي يملك قانونيًا حجب الثقة عنها، أو إذا تم في ظل اختطاف أكثر من عشرين نائبًا من "حماس" حتى الآن والحبل على الجرار، ما قد يفقد "حماس" الأغلبيّة التي تتمتع بها، وهذا يطرح مليون علامة سؤال حول جدوى التوجه لإجراء الانتخابات في ظل الاحتلال والعدوان والعنصريّة والحملة الإسرائيليّة الأكبر من أكثر من 12 عامًا، التي تستهدف "حماس" بصورة أساسيّة، ما يضرب شرط الحريّة الضروري لإجراء أي انتخابات. 

ولا يبقى أمام "حماس" سوى تفعيل ورقة المقاومة التي من شأنها خربطة كل الأوراق، وقد تلجأ إلى المقاومة، أي ما يفتح الطريق لاندلاع مواجهة كبيرة مع إسرائيل، لأنها قد تكون طوق النجاة كما كانت سابقًا، أو تكون مثل خيار "شمشون علي وعلى أعدائي يا رب".   فإذا لم تجد مخرجًا آخر فلا مفر من هدم المعبد على من فيه. 

المخرج موجود إذا تم تغليب المصالح الوطنيّة العليا، ومقاومة الضغوط الخارجيّة، والتخلي عن أوهام التسوية من خلال مفاوضات ثنائيّة برعاية أميركيّة، وعن الرهان عن الآخرين، وعلى المتغيرات العربيّة والإقليميّة والدوليّة، أو في إسرائيل، والتخلي عن عقليّة الإقصاء والميل إلى فرض الوقائع على الأرض من جانب واحد، والاحتكام إلى الحوار والطرق السياسيّة واحترام إرادة الشعب التي يعبر عنها ما دمنا في مرحلة التحرر الوطني وفلسطين تحت الاحتلال أساسًا، من خلال وفاق وطني تجسده جبهة وطنيّة عريضة، وتسعى إلى إجراء الانتخابات كشكل من أشكال الصراع ضد الاحتلال وليس كوسيلة لحسم الصراع الداخلي من خلال الانتخابات، ما يؤدي إلى تكريس الانقسام وتهميش القضيّة الفلسطينيّة أكثر وأكثر. 

لذلك يجب التحذير مما يجري ويظهر من خلال التعامل مع "إعلان الشاطئ" كاستمرار للصراع، سواء للانفراد بقيادة الفلسطينيين على نفس الأسس والسياسات التي أوصلت الفلسطينيين إلى ما هم فيه، الأمر الذي قادهم إلى تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان والانقسام وتهميش القضيّة الفلسطينيّة، لأن هذا لن يقود إلى إقصاء "حماس" أو القضاء عليها، وإنما إلى القضاء على القضيّة الفلسطينيّة.   وإذا هزمت حماس أو انهارت فالفراغ سيفتح الطريق للقاعدة و"داعش"، حيث بعدها سيندم حين لا ينفع الندم. أو كمخرج من الأزمة العميقة التي تعاني منها "حماس"، فالمطلوب مخرج وطني ينقذ القضيّة ويضع الشعب الفلسطيني على طريق تحقيق أهدافه الوطنيّة. 

دوافع الرئيس و"فتح" لتوقيع وتنفيذ "إعلان الشاطئ"

لقد وصل الوضع السياسي قبل توقيع "إعلان الشاطئ" ووصول المفاوضات مرة أخرى إلى طريق مسدود، إلى درجة أن الفلسطينيين ممثلين بقيادة الرئيس أبو مازن مستعدون لتوقيع "اتفاق سلام" يتضمن تنازلات جوهريّة عن الأرض، بما فيها عن جزء من أراضي 1967، بدليل موافقتهم على "مبدأ تبادل الأراضي" وضم الكتل الاستيطانيّة والأحياء "اليهوديّة" في القدس الشرقيّة إلى إسرائيل، وكذلك عن حق اللاجئين في العودة؛ بدليل الموافقة على حل متفق عليه كما جاء في "مبادرة السلام العربيّة"، والسيادة المنقوصة للدولة العتيدة، عبر الموافقة على تواجد القوات الإسرائيليّة المحتلة لمدة خمس سنوات بعد الاتفاق على الحدود والمعابر ومناطق إستراتيجيّة في الأراضي المحتلة العام 1967، على أن تحل محلها بعد ذلك قوات أميركيّة لا تختلف كثيرًا عنها من حيث الجوهر، بينما لا يوجد شريك إسرائيلي لشراء ذلك بالرغم من كل هذه التنازلات المجانيّة، لأن الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة يمينيّة ومتطرفة، ولا تقبل قيام حتى دولة فلسطينيّة على جزء من أراضي 67 منقوصة السيادة ومن دون حق العودة. 

بناء على ما سبق، يبدو الرئيس في وضع صعب جدًا لا يستطيع أن يقدم تنازلات أكثر مما قدم، ولا يريد أن يعود إلى الخلف، ولا أن يجابه حتى يتغير الواقع ويُخلق وضع جديد. لذا يفضل الانتظار إلى حين حدوث تطورات جديدة، مثل أن تقوم الإدارة الأميركيّة بالضغط على الحكومة الإسرائيليّة لتليين موقفها أو المساعدة على تشكيل حكومة جديدة في إسرائيل تقبل بقيام دولة فلسطينيّة وفق شروط تفقدها معظم مقومات الدول. 

وحتى يمكن الاستمرار في فترة الانتظار واللعب في الوقت الضائع وتحسين شروط المفاوض الفلسطيني، وفي ظل التصاعد المحموم في العدوان والاستيطان والضغط الشعبي للمصالحة، وتفاقم أزمة "حماس"، وليسمح بمصالحة تحت سقف "أوسلو" وتبقي خيار المفاوضات مفتوحًا، والحاجة إلى الشرعيّة بعد مرور حوالي ضعف الفترة القانونيّة لولاية الرئيس وسحب الذريعة من أيدي إسرائيل حول من يمثل الفلسطينيون وتوظيف المتغيرات العربيّة، خصوصًا دخول الإسلام السياسي مرحلة هبوط؛ لكل ذلك وفي هذه الظروف، وخصوصًا تراجع الأمل بقيام دولة فلسطينيّة في عهده؛ أعطى أبو مازن الضوء الأخضر لوفد المنظمة للتوقيع على "إعلان الشاطئ"، إذ إنه بذلك يضع وسامًا وطنيًا على صدره من خلال أنه أنهى الانقسام الذي حدث أثناء ولايته قبل أن يرحل، في نفس الوقت الذي حقق فيه نقاطًا كثيرة على حساب "حماس" حتى الآن على الأقل، حتى تسمح له باستئناف المفاوضات، والدخول في مغامرة عقيمة جديدة قد تكون أخيرة هذه المرة لجني حصاد الكفاح الفلسطيني بثماره، أو كما يقال بعجره وبجره. 

في هذا السياق، نستطيع أن نضع ردة فعل الرئيس على "عمليّة الخليل" لأنها يمكن أن تغير قواعد اللعبة كلها في اتجاه مخالف لما يأمل به، لذلك أدلى بخطاب في مؤتمر وزراء خارجيّة الدول الإسلاميّة في السعوديّة، تضمن تصريحات صادمة للرأي العام الفلسطيني، ما يفتح الباب لاحتمالات مرعبة على الوضع الداخلي الفلسطيني إذا لم يتم التراجع عن هذه التصريحات. 

إن الشعب الفلسطيني كله هو المستهدف من العدوان الإسرائيلي الذي يستخدم "حماس" كذريعة لأنها جزء من الإخوان المسلمين المعرضين لحملات ضدهم من أطراف متعددة في مرحلة هبوطهم في المنطقة، وهي معرضة للاستهداف أكثر إذا ثبت أنها تقف وراء العمليّة، لكن هذا سيجعلها تظهر أمام الفلسطينيين على أنها ضحيّة وفصيل مقاوم يستحق التضامن معه، بينما السلطة تظهر كطرف متعاون مع الاحتلال ومصرٍّ على التنسيق الأمني بالرغم من أن الاحتلال تجاوز كل الاتفاقات والتصنيفات للأرض، وجعل السلطة كما يقول رئيسها وقادتها "سلطة بلا سلطة"، و"مجرد وكيل أمني للاحتلال". 

فالسلطة أصبحت بلا سلطة، ومستباحة بالكامل من قوات الاحتلال منذ ما يسمى عمليّة "السور الواقي" في العام 2002 وحتى الآن، ما كان يفترض قبر ما يسمى "عمليّة السلام"؛ وبالتالي ما يجعل استمرار التنسيق الأمني غير المقدس لا يحقق أي مصلحة فلسطينيّة، ولا يحمي الشعب الفلسطيني، وإنما مصلحة لأفراد وجماعات وضد المصلحة الوطنيّة، ويشكل نوعًا من توفير الأمن الاحتلال في انتهاك للحقوق الفلسطينيّة والقانون الدولي، وما يحصل حاليًا ما لم تراجع السلطة نفسها ووظائفها والتزاماتها بحيث تصبح سلطة وطنيّة لخدمة الشعب والمصلحة الوطنيّة فإنها ستفقد ما تبقى من مصداقيّة وشرعيّة لها، وربما تنهار. 

السناريوهات المحتملة بعد "عمليّة الخليل":

السناريو الأول: صمود اتفاق المصالحة دون استكمال تطبيق بنوده
يقوم هذا السيناريو على صمود اتفاق المصالحة دون أن يستكمل تطبيق جميع بنوده، خصوصًا المتعلقة بالمنظمة والأمن والبرنامج السياسي، وحتى الانتخابات مشكوك بعقدها، بسبب احتمال عدم موافقة إسرائيل على إجرائها من دون أن تكون جزءًا من عمليّة سياسيّة تستفيد منها إسرائيل، أو طريقًا لتكريس الانقسام والاقتتال بين الفلسطينيين، أو لأن "فتح" و"حماس" غير جاهزتين لإجراء انتخابات خلال الفترة المحددة في الاتفاق. كما أن إجراءها من دون وحدة وطنيّة وشراكة سياسيّة حقيقيّة بين مختلف مكونات الحركة الفلسطينيّة، ومع استمرار العدوان الحالي أو على أساس الوقائع التي أقامها يعطي شرعيّة لاستمرار الاحتلال ويغطي على الجرائم التي يرتكبها، ويوفر غطاءً لعمليّة انتخابات ليست حرة ولا نزيهة، وإنما تستهدف توظيف وقائع العدوان الذي ركّز على استهداف حركة حماس المنافس الرئيسي لحركة فتح في أي انتخابات قادمة. 

وهنا يمكن الإشارة إلى أن هناك فكرة يجري تداولها على أعلى المستويات الفلسطينيّة لإجراء الانتخابات على أساس التمثيل النسبي الكامل، حيث يتم الاتفاق على قائمة واحدة تشارك فيها الفصائل التي تريد المشاركة في الانتخابات، ويترك عدد من المقاعد بما لا يزيد عن نسبة 30% لكي يتنافس عليها المستقلون والفصائل التي ترفض الانضمام للقائمة المشتركة، وذلك للالتفاف على أي محاولة إسرائيليّة لمنع الانتخابات من خلال رفض مشاركة القدس أو رفض مشاركة "حماس" أو غيرها، إذ يمكن في هذه الحالة السماح بالتصويت الإلكتروني لأهل القدس. 

هذه فكرة جديرة بالاهتمام شريطة أن تأتي بعد أو بالترافق مع الاتفاق على "ركائز المصلحة الوطنيّة العليا" وإستراتيجيات العمل وبرنامج القواسم المشتركة، فلا يعقل أن تكون وحدة وقائمة واحدة وانتخابات تحت الاحتلال من دون مضمون سياسي متفق عليه ومن دون اتفاقيّة شراكة سياسيّة حقيقيّة بعيدًا عن الهيمنة والتفرد والإقصاء. 

في هذا السيناريو يمكن أن تستمر السلطة في وضعها الراهن أقل أو أكثر قليلًا، ولكن الحاجة إلى تغيير المسار ستكبر أكثر وأكثر، فلم تعد السلطة قادرة على الاستمرار في وضعها الراهن بعد أن حوّلتها إسرائيل إلى "سلطة بلا سلطة" بعد استباحة مناطق سيطرتها بشكل دائم ومستمر.   ويمكن أن نشهد ضمن هذا السيناريو صيغة شبيهة بما يحدث في لبنان، ولكن بخصائص فلسطينيّة، حيث يحتفظ حزب الله بقوة مسلحة مستقلة، في نفس الوقت الذي يشارك فيه في مجلس النواب والحكومة. 

السناريو الثاني: فشل اتفاق المصالحة
يتمحور هذا السيناريو حول فشل اتفاق المصالحة فشلًا تامًا، من دون أن يعني بالضرورة تشكيل حكومة في غزة، إذ نشهد العودة إلى التراشق الإعلامي وحملات الاعتقال ومحاولات الإقصاء من كل طرف للطرف الآخر. وفي هذه الحالة سنشهد انتخاباتٍ مختلفًا عليها، ويمكن أن تجري في منطقة دون أخرى، وبالتالي يتأجج الصراع بين "حماس" ومصر، وسيبقى معبر رفح على حاله، وربما تصبح الأمور أسوأ على هذا الصعيد. إضافة إلى أننا سنشاهد اعتداءات إسرائيليّة، وربما، اجتياحا للقطاع لتوجيه ضربة قويّة للبنية التحتيّة، خصوصًا الصاروخيّة للمقاومة. وهذا الأمر - كما نلاحظ - تلجأ إليه إسرائيل بين الفينة والأخرى؛ حتى لا تصل المقاومة إلى نوع من توازن الردع، وإلى مرحلة تصبح فيها قادرة على إيقاع خسائر أكبر بإسرائيل. 

هذا السيناريو وارد إذا ثبت أن "حماس" بقرار مركزي هي من نفذت "عمليّة الخليل"، وما يعنيه ذلك من إمكانيّة تنفيذ خلاياها المسلحة عمليات أخرى، وإذا تأكدت إسرائيل بأن عدوانًا واسعًا على قطاع غزة لن يؤدي إلى انهيار السلطة أو تغيير موقفها والتزاماتها إزاء إسرائيل، وخصوصًا وقف التنسيق الأمني، ولن يؤدي إلى تداعيات كبيرة من خلال تضامن عربي، خاصة في مصر والأردن يمكن أن تؤثر على علاقاتهما بإسرائيل؛ فإنها في هذه الحالة ستشن عدوانًا على غزة، ما يعني أنها يمكن أن تقوم بعدوان متدحرج يمكن أن يصغر ويكبر في ضوء ردود الفعل المحتملة. 

أي عدوان إسرائيلي كبير غزة ومثل استمرار العدوان الحالي في الضفة الغربيّة سيضع مصير السلطة بوصفها سلطة تحظى بنوع من الشرعيّة الشعبيّة والوطنيّة على المحك، بحيث يمكن أن نشهد نوعًا من الاحتجاجات التي ربما تصل إلى انتفاضة ضد السلطة بسبب استمرار ارتهانها بالالتزامات السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة من دون أن تلتزم إسرائيل بأي شيء سوى مواصلة الاحتلال والاستيطان والعدوان والحصار. كما سيكون له تداعيات على حركة فتح في ظل أنها تستعد لعقد مؤتمرها السابع وسط صراعات بين الأجنحة المختلفة، وبين الرئيس ودحلان، وصراع مرشح للتفاقم على خلافة الرئيس والبرنامج الذي يجب أن يُعتَمَد بعد فشل خيار المفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة انفراديّة. 

في هذا السيناريو يمكن تجميد اتفاق المصالحة واستقالة حكومة الوفاق الوطني وتشكيل حكومة جديدة، أو تجميد اتفاق المصالحة مع الحفاظ على حكومة الوفاق الوطني من دون تشكيل حكومة جديدة، على اعتبار أن الحكومة الحاليّة هي حكومة الرئيس بامتياز قبل أن تكون حكومة وفاق وطني. 

كما ستبدو السلطة أكثر وأكثر بلا سلطة، وستفتقد للشرعيّة الفلسطينيّة، وستكون أكثر استعدادًا لقبول أو التعايش مع الحلول الإسرائيليّة، وسيتعمق الانفصال ما بين الضفة الغربيّة وقطاع غزة، وستتزايد الفروقات ما بين التجمعات الفلسطينيّة المختلفة في الضفة، خصوصًا بين القدس وبقيّة مناطق الضفة.  

السيناريو الثالث: حكومةُ الوفاق الوطني بداية لإنهاء الانقسام
يُبنى هذا السيناريو على فرض أن تشكل حكومة الوفاق الوطني بداية حقيقيّة لإنهاء الانقسام وإعادة بناء الحركة الوطنيّة والتمثيل على أسس تضمن قيام مصالحة تاريخيّة، وشراكة حقيقيّة بين التيارات الأساسيّة المكونة للحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. 

هذا الاحتمال مستبعد لأن القوى المؤثرة لا تتبناه، وهي على خلاف، ولا تغلب المصالح الوطنيّة والمشتركة على المصالح الفرديّة والأنانيّة والجهويّة والفصائليّة، إضافة إلى أنها ترهلت، وأصبح يؤثر فيها أفراد وجماعات لها مصالح متعارضة مع المصالح الوطنيّة، وكذلك فإن هناك حاجة لتجديد الحركة الفلسطينيّة في ضوء الخبرات والحقائق الجديدة والدروس المستفادة، وهذا ما تخشاه لأنه يتطلب إجراء تغييرات تمسّ الإستراتيجيات والسياسات والأشخاص والأدوات.  

إضافة إلى ما سبق، لم تُظهِر حتى الآن أحزاب أو حركات اجتماعيّة جديدة لديها قوة كافية لإزاحة القديم وتقدم الجديد، كما أن "اتفاق القاهرة" وما سبقه ولحقه من اتفاقات ينتمي إلى مرحلة تجاوزتها الأحداث إلى حد كبير، فما كان ممكنًا عند توقيع الاتفاق في أيار 2011 لم يعد ممكنًا بنفس الطريقة الآن. فالأحداث والتطورات تجاوزت العديد من نقاط الاتفاق، فهو تضمن نقاطًا لم يتم الاتفاق على تطبيقها، وتجاهل قضايا أساسيّة، التي من دون الاتفاق عليها لا يمكن توفير متطلبات كفاح فلسطيني يبدو أكثر وأكثر أنه لا غنى عنه من أجل تجسيد الحقوق والأهداف والمصالح الفلسطينيّة. 

لا بديلَ عن حوارٍ وطني واسع يشارك فيه ممثلون حقيقيون عن مختلف تجمعات وقطاعات وأحزاب وقوى الشعب الفلسطيني، لا سيما المرأة والشباب والشتات. حوار يهدف إلى تشخيص الواقع بعمق وموضوعيّة من أجل وضع العلاج المناسب من دون إعادة إنتاج وتكرار الأفكار والسياسات والتجارب والصيغ التي استخدمت سابقًا وفشلت فشلًا ذريعًا، أو ظهرت مستجدات جديدة لا بد من الانطلاق منها وأخذها بالحسبان. 

في هذا السيناريو يمكن أن يتم تغيير شكل السلطة ووظائفها والتزاماتها بحيث تخدم المصلحة الوطنيّة وتكون أداة من أدوات المنظمة وتنفيذ البرنامج السياسي الذي يجسد القواسم المشتركة. وإذا انهارت السلطة في غمرة المواجهة، التي ستحدث في ضوء ذلك، فستحل محلها قيادة وطنيّة موحدة تقود المؤسسات الوطنيّة التي ستسعى لتوفير مقومات الصمود والتواجد الفلسطيني والخدمات والصحة والتعليم ومكافحة الجريمة وتوفير الأمن الداخلي، مثل البلديات والمجالس القرويّة والنقابات والاتحادات واللجان الشعبيّة والأحزاب والقوى والحركات الاجتماعيّة والمؤسسات الوطنيّة على اختلاف أنواعها.  

يستهدف هذا الحوار التحضير لعقد مؤتمر وطني من أجل الاتفاق على ما يأتي:
• "ركائز المصلحة الوطنيّة العليا" التي تَجْمَعُ الفلسطينيين في جميع أماكن تواجدهم، وبما يلحظ الخصائص المميزة لكل تجمع، وبما يشمل الاتفاق على الأهداف الأساسيّة وقواعد العمل وأشكال النضال الرئيسيّة، وقيم الحريّة والمساواة والعدالة والتقدم والديمقراطيّة والمحاسبة؛
• إعادة بناء الحركة الوطنيّة والمنظمة والتمثيل على أساس هذه الركائز؛ 
• تشكيل إطار قيادي مؤقت للمنظمة، بما لا يتعارض مع مؤسسات منظمة التحرير، إلى حين إجراء انتخابات المجلس الوطني، أو تشكيل مجلس وطني جديد بالاستناد إلى معايير يحددها الوفاق الوطني المستند إلى الحقوق والأهداف الفلسطينيّة وإلى الشرعيّة التي توفرها المقاومة دون انفراد من أحد؛
• الاتفاق على برنامج سياسي يجسد القواسم المشتركة؛
• وضع إستراتيجيات جديدة تستوعب التجارب السابقة وقادرة على تحقيق الأهداف الوطنيّة.  

التعليقات