د. نسيبة: تهويد الجغرافيا والتاريخ في القدس جارٍ فوق الأرض وتحتها

إسرائيل تقوم بتغيير ديمغرافية وتاريخ ومعالم القدس | المخططات في الشيخ جراح وسلوان تهدف لإقامة حزام استيطاني حول البلدة القديمة | هناك خطر من الـ"تخلص" من الأحياء الواقعة خارج الجدار لـ"تعديل" الديمغرافيا

د. نسيبة: تهويد الجغرافيا والتاريخ في القدس جارٍ فوق الأرض وتحتها

تهويد الاحتلال للقدس مستمرّ (أ ب)

* إسرائيل تقوم بتغيير ديمغرافية وتاريخ ومعالم القدس

* المخططات في الشيخ جراح وسلوان تهدف لإقامة حزام استيطاني حول البلدة القديمة

* هناك خطر من الـ"تخلص" من الأحياء الواقعة خارج الجدار لـ"تعديل" الديمغرافيا


في إطار سياسة التطهير العرقي التي تمارسها إسرائيل في القدس المحتلة، بغرض إحكام مخططاتها الرامية لاستكمال الحزام الاستيطاني حول البلدة القديمة والمسجد الأقصى المبارك من جهتي الجنوب والشمال، صادقت المحكمة العليا الإسرائيلية، مؤخرًا، على مشروع الاستيطان في الشيخ جراح بالقدس، من خلال رفض الاستئناف الذي تقدّمت به عائلات فلسطينية على قرار مصادرة أراضيهم.

نسيبة
د. نسيبة

وسوغت المحكمة رفضها الاستئناف على قرار المحكمة المركزية الذي رفض دعوتهم للنظر بملكية الأرض بدعوى التقادم، ولجأت إلى قانون "أملاك الغائبين" لتعطي بذلك شرعية لبناء حي استيطاني مكون من 8 مبانٍ، في كل منها 12 طابقا في أكبر عملية اقتلاع وتهجير تشهدها المدينة المقدسة منذ النكبة.

كما رفضت المحكمة ذاتها الالتماس المقدم من أهالي حي بطن الهوى في بلدة سلوان، وسمحت لجمعية "عطيرت كوهنيم" الاستيطانية ومنحتها الغطاء القانوني اللازم للاستمرار في طرد 700 فلسطيني، بزعم أن منازلهم بنيت على أرض امتلكها يهود قبل نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948.

وفي السياق، صادق الكنيست على مشروع قانون يسمح ببناء وحدات استيطانية في منطقة "الحديقة الوطنية" في سلوان، وذلك خدمة لجمعية "إلعاد" الاستيطانية التي تسعى لتوسيع مستوطنة "عير دافيد" في بلدة سلوان، الواقعة جنوب المسجد الأقصى المبارك.

وكان وزير السياحة الإسرائيلي قد أعلن، مؤخرًا، عن قرار وزارته تخصيص مبلغ مليوني شيكل لدعم مشاريع استيطانية يهودية في بلدة سلوان في ما يسمى "عير دافيد"، إضافة إلى مبلغ مليون ونصف المليون شيكل للبؤر الاستيطانية في ما يسمى "مغارة الصديق شمعون" في حي الشيخ جراح، ومبلغ مماثل لمشاريع استيطانية يهودية داخل البلدة القديمة من القدس.
وأفاد تقرير لمركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، بأنّ إسرائيل ترصد الميزانيات لتعزيز وجود نحو 40 بؤرة استيطانية في سلوان، في إطار مخطط شامل يرمي إلى تهويد البلدة، تزامنًا مع ما يجري من حفر للأنفاق في محيط المسجد الأقصى وأسفله ، وما ينفذ من أعمال توسعة تتم على مدار الساعة في باحة البراق، والتخطيط لبناء مبنى ضخم بمساحة تزيد عن 600 متر مربع، وربط تلك المنطقة بمركز القدس الغربية عبر نفقين جاري العمل بهما في هذه المرحلة.

حول سياسة التطهير العرقي في القدس والمخططات الاستيطانية المتسارعة التي تطبق على المدينة وتسعى لتغيير ديمغرافيتها ومعالمها العربية الإسلامية – المسيحية، وخلق وقائع سياسية جديدة، كان هذا الحوار مع أستاذ القانون في جامعة القدس ومدير مركز العمل المجتمعي في البلدة القديمة بالقدس، د. منير نسيبة.

عرب 48: تواجه القدس ما يمكن تسميته بـ"مخطط شامل" يتعدى مسالة التغيير الديمغرافي إلى تغيير الجغرافيا والتاريخ ووجه المدينة ومعالمها، وهو مخطط جارٍ العمل عليه فوق الأرض وتحت الأرض؟

نسيبة: في النهاية، إسرائيل تسعى إلى تغيير الواقع الديمغرافي في القدس لتبرير وتخليد قرارها بـ"توحيد المدينة" واعتبارها "عاصمة أبدية" لها، ومن ثم منع تقسيمها وإقامة عاصمة للدولة الفلسطينية في شطرها الشرقي.

للوصول إلى هذا الهدف، تعمل منذ إتمام احتلالها عام 1967 إلى تكثيف الاستيطان بدوائر متعددة وبوتائر سريعة، وضمن تلك الدوائر تولي إسرائيل أهمية خاصة للبلدة القديمة ومحيطها وهي تسعى في هذا الإطار، بالإضافة إلى اختراق البلدة القديمة من الداخل، إلى إقامة حزام استيطاني حول أسوارها. وبعد أن أمّنت الجهة الغربية، من الطبيعي أن تقوم باستهداف الجهتين الجنوبية، حيث تقع سلوان والشمالية حيث يقع حي الشيخ جراح وهي المناطق التي يستهدفها التهجير والاستيطان في الفترة الأخيرة، في إطار عمليّة تضييق الخناق الاستيطاني بعد أن كانت قد أحاطت القدس بحدود مسطحها الأصلي بحزام استيطاني أوسع.

عرب 48: ولكن ما يحدث في تلك الأحياء هو عملية اقتلاع لفلسطينيين من بيوتهم وإحلال مستوطنين يهود مكانهم، وفي وضح النهار وبغطاء قانوني من المحكمة العليا الإسرائيلية.

نسيبة: المشترك للشيخ جراح وسلوان هو ادّعاء ملكية الأرض من قبل جهات يهودية قبل 1948، ومن ثم سيطرة ما يسمى بالقيّم على أملاك الغائبين على هذه البيوت، حيث قام بنقلها، بدوره، إلى جمعيات استيطانية يهودية.

أمّا خلاصة الموضوع، فهو أنّ الجمعيات الاستيطانية التي أوكلت لها عملية تهويد القدس هي التي تقف وراء العملية برمتها من ادعاء أو فبركة ملكية الأرض لجهات يهودية قبل 1948، إلى نقلها لوصاية القيّم على أملاك الغائبين، إلى الحصول على ملكية الأرض وما عليها من بيوت ومن ثم استصدار أوامر من المحكمة الإسرائيلية بإخراج أصحاب البيوت الفلسطينيين منها.

وقبل أن نقول لماذا لا يسمح القضاء الإسرائيلي للفلسطينيين الذي تركوا بيوتهم في يافا وحيفا ويسكنون في القدس أو غيرها، بالعودة إليها أو للمقدسيين بالعودة إلى بيوتهم في الطالبية والقطمون، وبذلك نوازي بينهم وبين جهات يهودية تتمتع وفق هذا القضاء بأفضلية لأنها يهودية. قبل ذلك، نشير إلى أنّ هذا القضاء رفض بحث ادّعاءات الملكية تلك والتأكد من صحتها بادعاء التقادم، وهو ما يفضح زيف هذه الادعاءات وفساد الصفقة كلها.

عرب 48: في الأيام الأخيرة نسمع عن حرب باردة بين السلطة وإسرائيل تشمل اعتقالات، محورها تسريب عقارات فلسطينية في القدس.

نسيبة: إسرائيل اعتقلت 32 شخصا بينهم محافظ القدس، في حين تعتقل السلطة سماسرة يعتقد أنهم سرّبوا عقارات في القدس لصالح مستوطنين يهود، علمًا بأنّ هناك إجراءً فلسطينيًا معمولًا به في القدس يشترط الحصول على موافقة خطية من محافظ القدس على كل عملية بيع وشراء تخص عقارات في المدينة.

عرب 48: إسرائيل تخترق البلدة القديمة، أيضًا، ليس بواسطة الحفريات أو الحي اليهودي فقط، بل عبر شراء الجمعيات الاستيطانية لبيوت وعقارات داخل الأسوار وهو نشاط لقي وما زال شرعية رسمية، حيث نذكر جميعنا أن أريئيل شارون كان أول من اشترى بيتا في البلدة القديمة.

نسيبة: لا أعتقد أنّ هناك نجاحات استيطانية داخل الأسوار فهناك 30 ألف فلسطيني مقابل ثلاثة آلاف مستوطن، ولكن إسرائيل تحاول من خلال التخطيط والشوارع والمنشآت عزل البلدة القديمة عن محيطها الفلسطيني وربطها بالشطر الغربي للمدينة، حيث يجري التخطيط حاليا لإقامة "تلفريك" من غربي المدينة إلى ساحة حائط البراق، بعد أن سيّرت "القطار الخفيف" إضافة إلى شبكة الأنفاق، وأقامت مستوطنة كاملة في الشيخ جراح وتعمل على توطيد مستوطنة "عير دافيد" في سلوان.

عرب 48: في شعفاط قامت إسرائيل بعملية هدم واسعة لمحلات تجارية، وهي عمليات تطال بين فترة وأخرى الكثير من الأحياء الفلسطينية في المدينة.

نسيبة: في إطار تضييق الخناق على المقدسيين، لم يسمح المخطط الهيكلي لما يسمى ببلدية القدس بالبناء للفلسطينيين في المدينة، فقد توزعت الأراضي وفقه إلى أراض تمت مصادرتها لإقامة مستوطنات وأراض خضراء مخصصة للحدائق والمنتزهات وأراضٍ صنفت على أنّها لم تخطط بعد ولذلك لا يجوز البناء فيها.

هذا الوضع لا يترك مجالا للمقدسيين سوى البناء بدون ترخيص، وهو ما يتسبب بظاهرة البناء العشوائي وغير المنظم والذي يتسبب في بعض الأحيان حتى إلى مشاكل بين الجيران أنفسهم وإلى ضيق الشوارع والطرقات، ولكنه يبقى الطريق الوحيد للمقدسيين للتطور وتلبية احتياجات التكاثر السكّاني، وبهذا المعنى، فإنّ الحرب على البيت معركة مفتوحة مع الاحتلال.

عرب 48: الجدار وسحب الهويات هي وسائل ابتدعنها إسرائيل في الحرب الديمغرافية، فالمقدسي بحاجة دائمة إلى إثبات مقدسيته بل إن عليه أن يبقى حارسا لبيته كي لا "يطير" منه؟

نسيبة: قضية الهويات أو سحب الهويات هي وسيلة يستعملها الاحتلال لتقليص أعداد الفلسطينيين داخل حدود القدس، فكما هو معروف، فإنّ المقدسيين لا يتمتعون بمواطنة بل بصفة "مقيم دائم"، وهي صفة تعطى عادة لمن هاجروا هم إلى دولة أخرى. والمفارقة، فإنّ إسرائيل هي التي أتت إلينا من خلال قرار ضم القدس الشرقية وليس العكس.

وقد اخترعت إسرائيل على مدى سنوات وسائل لإلغاء الإقامة وسحب الهوية المقدسية بدءًا بخروج الفلسطيني خارج البلاد، مرورًا بما يسمى بمركز الحياة داخل القدس أو داخل السيادة الإسرائيلية، وانتهاء بالولاء لدولة إسرائيل وفق القانون الجديد الذي سنّه الكنيست لسحب هويات نواب حركة حماس. ووفق هذا القانون، فإن الفلسطيني الذي يدان بتنفيذ أعمال تصنفها إسرائيل إرهابية قد يجد نفسه بعد أن يخرج من السجن بدون بيت، أيضًا، وخارج حدود القدس.

كما أنّ الطفل المقدسي عندما يخلق لا يحمل هوية القدس بالوراثة، كما هو متبع، بل يرافق ذلك اشتراطات منها أن يكون قد ولد في القدس أو في منطقة ذات سيادة إسرائيلية، وأن يكون أبواه الاثنان من ذوي هوية القدس، فإذا كان أحد الوالدين من أصحاب هوية الضفة أو أجنبيا أو إنّ الولادة تمت خارج القدس أو حدود السيادة الإسرائيلية فهناك مشكلة.

عرب 48: الجدار، أيضًا، زاد الطين بلة، فقد عزل القدس عن الضفة وعزل أحياء مقدسية عن المدينة؟يضاأيض

نسيبة: الجدار عزل القدس عن محيطها الفلسطيني بالكامل وخلق حالة فيها أحياءً كاملة هي سمير أميس، راس خميس، كفر عقب ومخيم شعفاط، وهي أحياءٌ يسكنها 120 ألف فلسطيني وتقع خارج الجدار.

هذه الأحياء استقطبت الكثير من المقدسيين لسهولة الحركة بينها وبين سائر أرجاء الضفة الغربية، وهي في ذات الوقت، يمكن فيها الحفاظ على الهوية المقدسية، ولكن الخطورة تكمن في أن تقوم إسرائيل بـ"التخلص" منها عبر إخراجها من مسطح بلدية القدس، الأمر الذي يؤثر على التوازن الديمغرافي في المدينة، وهناك مخطط لتخفيض نسبة الفلسطينيين إلى 22% بعد التخلص من هذه الأحياء أو حتى إلى 12% بعد الـ"تخلص" من مزيد من الأحياء.


د. منير نسيبة هو أكاديمي حقوقي من جامعة القدس في فلسطين، وهو أستاذ مساعد في كلية الحقوق في جامعة القدس، بالإضافة إلى شغله منصب مدير (وأحد مؤسسي) عيادة القدس لحقوق الإنسان في كلية الحقوق في جامعة القدس، وهو مدير مركز العمل المجتمعي في البلدة القديمة في القدس.

يحمل درجة البكالوريوس في القانون من كلية الحقوق في جامعة القدس، والماجستير في القانون الدولي من كلية واشنطن للقانون في الجامعة الأميركيّة في واشنطن، ودرجة الدكتوراه من جامعة وستمنستر في لندن، حيث ركزت رسالته على التهجير القسري في الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والقانون الدولي والعدالة الانتقالية.

التعليقات