البلدة القديمة في الخليل: الحصار أو التهجير

وسط هذا الصمت، وأمام ركام الخراب وتداعيات مجزرة الحرم الإبراهيمي، تعالى في مدينة الأشباح صدى صرخات جماعات المستوطنين وهتافاتهم ها هم "الأعداء" ها هم "الخونة" "أطردوهم من بلدنا وبيوتنا"، وكلما تقدمنا، جوقة جديدة من المستوطنين المحرضين تحاول محاصرة الكاميرات

البلدة القديمة في الخليل: الحصار أو التهجير

شارع الشهداء (أ ب أ)

في شارع الشهداء وسط البلدة القديمة في مدينة الخليل، حيث توقف شريان الحياة للفلسطينيين منذ ارتكاب الإرهابي المستوطن باروخ غولدشتاين، مجزرة الحرم الإبراهيمي، فجر 25 شباط/ فبراير من العام 1994، يُختزل جوهر الاحتلال ويَنكشف الوجه الحقيقي للمشروع الصهيوني الاستيطاني وسياسة الفصل العنصري، كما تُفضح النية الإسرائيلية المبيتة لما يسمى بـ"حل الدولتين" واستحالة تطبيقه على أرض الواقع، فيما تطفو على السطح هواجس التهجير والتشريد التي ما زالت تلاحق الفلسطينيين.

أسست مجزرة الإرهابي غولدشتاين الذي ما زال فكره متناقلا ومتوارثا بين المستوطنين، حيث بات ضريحه المقام بمستوطنة "كريات أربع" مزارًا، لمرحلة مفصلية في مستقبل مدينة الخليل التي حوصرت بالمستوطنات وأقيم بقلب البلدة القديمة بؤر استيطانية، لتكون الخليل المدينة الفلسطينية الوحيدة بالضفة الغربية المحتلة التي ينبض بداخلها "السرطان" الاستيطاني المستشري.

حفزت سياسية الفصل العنصري والتمييز التي انتهجها الحكومات الإسرائيلية بحق عشرات آلاف الفلسطينيين بالخليل القديمة، مجموعات المستوطنين، للتمادي بالعدوان واستباحة الدم الفلسطيني واستيطان البلدة القديمة بالاعتداءات المتواصلة وبقوة السلاح والبارود وتهجير أصحابها الأصلانيين.

تصوير عرب 48

وكانت مجزرة الحرم الإبراهيمي التي استشهد خلالها 29 فلسطينيا وجرح 120 آخرين، محطة مفصلية بالمشروع الاستيطاني الهادف لإعادة بناء "مدينة الخليل اليهودية - حبرون" بالبلدة القديمة التي سكنها نحو 40 ألف فلسطيني، إذ تم تقسيم الحرم بين الفلسطينيين واليهود، كما تم الاستيلاء على البلدة وتهويدها بتهجير وتشريد العائلات الفلسطينية ووضع اليد على عقاراتهم ومنازلهم وإحلالها للمستوطنين.

جرائم وصمت

صمت قاتل في الخليل القديمة، تبدد مع بدء الجولة الميدانية لصحافيين من المجتمع العربي نظمها مركز "إعلام"، بالتعاون مع منظمة "يكسرون الصمت" التي تنشط في تشجيع جنود الاحتلال بالكشف من خلال إفاداتهم عن جرائم الحرب التي ارتكبت أثناء خدمتهم العسكرية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ كان دليل الصحافيين بالإرشاد جندي الاحتياط عضو منظمة "يكسرون الصمت"، نداف هايمان.

لم يكن هايمان، كغيره من الناشطين في منظمة "يسكرون الصمت"، مرغوبا به في المستوطنات المقامة في الخليل، فمنذ انطلاق الجولة من المنطقة المجاورة لضريح الإرهابي غولدشتاين، بدأت مضايقات واستفزازات المستوطنين، لكن الصمت بقي سيد الموقف، وفي شارع الشهداء وبعض التدقيق في بطاقات الهوية الشخصية للصحافيين وتأكد جنود الاحتلال إننا من حملة "الهوية الزرقاء (الإسرائيلية)"، سُمح لنا بالدخول والتجوال، لكن شريطة أن ترافقنا مجموعة قوامها 12 جنديا بحجة "الحرص على سلامتنا" من اعتداء محتمل للمستوطنين.

وسط هذا الصمت، وأمام ركام الخراب وتداعيات مجزرة الحرم الإبراهيمي، تعالى في مدينة الأشباح صدى صرخات جماعات المستوطنين وهتافاتهم ها هم "الأعداء" ها هم "الخونة" "أطردوهم من بلدنا وبيوتنا"، وكلما تقدمنا في مسار الجولة بشارع الشهداء، جوقة جديدة من المستوطنين المحرضين تحاول محاصرة الكاميرات وإسكات صوت الناشط بـ"يكسرون الصمت"؛ عشرات المستوطنين اعترضوا طريق الصحافة والكاميرات رغم وجود 12 جنديا "لحمايتنا"، لم يحركوا ساكنا في مواجهة الإرهاب الكلامي والتحريض المتواصل للمستوطنين.

استيطان وتهويد

قرابة ساعة ونصف الساعة استمرت معركة المد والجزر مع مجموعة المستوطنين، وعند المقبرة الإسلامية على مفترق شارع الشهداء، تم استنفار عشرات الجنود الذين منعوا الصحافيين من مواصلة الجولة بموجب أمر عسكري صدر على الفور، في لحظتها، يحظر على كل من لا يسكن في البلدة القديمة من التواجد بالمكان، علما بأن الصحافيين دخلوا المنطقة بموجب تصاريح خاصة صادرة عن الجيش.

يتواصل مخطط التطهير العرقي والعزل والتشريد لمن تبقى من فلسطينيين في الخليل القديمة، يعيشون جحيم الاحتلال والمستوطنين في مستوطنة "كريات أربع" التي أقيمت بين الأعوام 1968 و1972 لاستيعاب 250 عائلة يهودية، على أراض بملكية خاصة لـ23 عائلة فلسطينية، ويسكنها اليوم 8000 مستوطن وتشكل الشريان الاستيطاني والتهويدي في محافظة الخليل.

وبذريعة الأمن ومنع الاحتكاك وتفادي المواجهات ومنع الفلسطينيين من الانتقام لشهداء مجزرة الحرم الإبراهيمي، تم الإبقاء على شارع الشهداء، الذي يعتبر الشريان الرئيسي وعصب الحياة للفلسطينيين، مغلقا وتقطنه اليوم فقط 4 عائلات فلسطينية وسط عشرات المستوطنين، ويحظر على الفلسطينيين دخوله سواء مشيا على الأقدام أو سفرا بالمركبات، فيما يسمح جيش الاحتلال فقط لسيارات جمع النفايات الفلسطينية بدخول المنطقة لجمع نفايات المستوطنين، في مشهد تتجلى فيه ملامح الأبرتهايد.

تهجير وتشريد

ووظفت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة "اتفاقية الخليل" الموقعة مع السلطة الفلسطينية عام 1997 من أجل تعزيز الاستيطان في البلدة القديمة التي سكنها نحو 40 ألف فلسطيني، وهي المصنفة بـ"H2" وتقع تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية ويستوطنها كذلك نحو 35 ألف مستوطن يتم توزيعهم على 27 مستوطنة وعشرات البؤر الاستيطانية والعسكرية في البلدة القديمة ومحيط محافظة الخليل التي يسكنها قرابة 500 ألف فلسطيني.

دفعت ممارسات جيش الاحتلال وعصابات المستوطنين بعد إغلاق شارع الشهداء والأسواق القديمة نحو 1400 عائلة فلسطينية على هجرة منازلها وعقاراتها خشية على حياة أفرادها من سهولة الضغط على الزناد لجنود الاحتلال واستباحة الدم الفلسطيني من قبل المستوطنين، فمنذ الانتفاضة الثانية حتى أيار/ مايو 2007 قتل 88 فلسطينيا برصاص الاحتلال والمستوطنين منهم 46 قتلوا بدم بارد تم إعدامهم ميدانيًا.

ولانعدام الجدوى التجارية والاقتصادية بعد عزل وسلخ البلدة القديمة عن الخليل وضواحيها، أغلقت جميع الأسواق في البلدة القديمة التي أضحت مدينة أشباح يقطنها نحو 850 مستوطنًا، يحرسهم نحو ألف جندي من لواء "غفعاتي" ووحدة المظليين، يتمركزون في أربعين بؤرة عسكرية وبرج مراقبة على أسطح منازل العائلات الفلسطينية، ويشكلون الدرع الواقي للمستوطنين والإطار الداعم لتوسع المشروع الاستيطاني.

سلب وطمس

تم هجر وترك 1014 منزلا بالبلدة القديمة التي تقدر بـ42% من العقارات والأملاك بالمنطقة، علما بأن 659 من العقارات التي تشكل 65% من العقارات والمنازل الفارغة والمتروكة، تم تركها تحت قوة السلاح وخوفا من إرهاب المستوطنين، هُجّرَ أصحابها ومالكيها خلال أحداث الانتفاضة الثانية، وإلى اليوم يمنعون من العودة إليها بذرائع الوضع الأمني.

لم يقتصر إخلاء وتفريغ البلدة القديمة على المنازل والعقارات، بل أيضا على الأسواق والمحال التجارية، حيث تم وبموجب أوامر عسكرية غلق 1829 محلا تجاريا تشكل 77% من المحال التجارية في أسواق الخضروات، والجملة، واللحوم والبهارات، فيما تسبب جيش الاحتلال خلال الانتفاضة الثانية بإغلاق 1141 محلا تجاريا منها 440 مغلقة بأوامر عسكرية، فيما يزعم المستوطنون ملكيتهم لهذه العقارات التي استباحوها بوضع اليد، واستوطنوا في عشرات المحال التجارية المملوكة للفلسطينيين.

وتحول شارع الشهداء من شريان للحياة إلى محاكمة ميدانية ومشنقة يستعملها الاحتلال والمستوطنين للتنغيص على حياة الفلسطينيين ودفعهم إلى هجرة المكان قسرا، إذ تأطر في قلب البلدة القديمة مشهد "مدينة الخليل اليهودية" التي أخذت تتوسع كالأخطبوط، على غرار مخطط تهويد القدس القديمة المحتلة وطمس معالمها التاريخية والآثار والحضارة الإسلامية والعربية.

حصار وصراع

بدت أزقة البلدة القديمة ساحة حرب ومعارك لم تحسم بعد، فأطلال التهجير والتشريد ما زالت ماثلة، ومخططات جيش الاحتلال متواصلة بالدفاع عن المستوطنين بتدعيم توطينهم في قلب الوجود الفلسطيني في خمس مستوطنات، هي "بيت إبراهيم" و"بيت هداسا" و"بيت رومانو" وتل رميدا"، والبؤرة الاستيطانية "رحيل" التي أقيمت بعقارات تابعة لعائلة زعتري عند الطريق المؤدي للحرم الإبراهيمي.

تتواصل معاناة أهالي الخليل القديمة منذ العام 1979 حين تم الشروع ببناء مستوطنة "بيت هداسا" بقلب البلدة القديمة، والإعلان رسميا من قبل المستوطنين في العام 1981، عن تنفيذ مخطط "مدينة الخليل اليهودية- حبرون"، وحاولوا إغراء الفلسطينيين بالأموال الطائلة لبيع عقاراتهم في البلدة القديمة وضمان الجنسية الأميركية لهم، لكنهم فشلوا في مخططهم وأتت رصاص الغدر ومجزرة الحرم لتنفيذ المخطط بقوة السلاح.

من بقي في الخليل القديمة من الفلسطينيين يعيش في معتقل سجانه المستوطن والجندي، وتنقله منوط بمرافقة فوهات البنادق وتفتيش مذل ومهين. ليتواصل إرهاب المستوطنين الذي لا يعرف الحدود ليدفع نحو المزيد من الهجرة القسرية للعائلات التي فقدت مصدر رزقها وأضحت رهينة عنف جنود الاحتلال، وحظر التجول المتواصل على مدار الساعة.

 

التعليقات