شهادة مصور من انتفاضة الحجارة.. مشاهد حيّة وفيلم لم يُعرض

خلف طفل يرشق قوات الاحتلال الإسرائيلي بالحجارة وآخر يرفع العلم الفلسطيني في ساحة المسجد الأقصى وامرأة تدفع الجنود، كانت عدسة المصور المقدسي محفوظ أبو تُرك، تعمل جاهدة على توثيق مشاهد الانتفاضة الأولى (1987-1994).

شهادة مصور من انتفاضة الحجارة.. مشاهد حيّة وفيلم لم يُعرض

جانب من توثيق مشاهد الانتفاضة الأولى

خلف طفل يرشق قوات الاحتلال الإسرائيلي بالحجارة وآخر يرفع العلم الفلسطيني في ساحة المسجد الأقصى وامرأة تدفع الجنود، كانت عدسة المصور المقدسي محفوظ أبو تُرك، تعمل جاهدة على توثيق مشاهد الانتفاضة الأولى (1987-1994).

وقال المصور الصحافي أبو ترك (73 عاما) وهو محاط بآلاف الصور في منزله بمدينة القدس المحتلة "كنت تقريبا المصور الوحيد بالقدس".

ويستذكر أنه في تلك الأيام، كان ينتقل في اليوم الواحد ما بين عدة مدن فلسطينية، لالتقاط الصور التي تُبرز معالم انتفاضة الحجارة.

أبو ترك يحتفظ بآلاف الصور في منزله

وكان أبو ترك، الذي يُطلق عليه الصحفيون الفلسطينيون لقب "شيخ المصورين"، يتحدث عن فترة نهاية الثمانينات حينما اندلعت الانتفاضة على نحو فاجأ إسرائيل والعالم.

واندلعت شرارة الانتفاضة الأولى مساء 8 كانون الأول/ ديسمبر 1987، إثر حادثة دهس سائق شاحنة إسرائيلي لمجموعة من العمّال الفلسطينيين (استشهد 4 منهم آنذاك)، على حاجز بيت حانون "إيرز"، شمال قطاع غزة.

وفي اليوم التالي (9 كانون الأول/ ديسمبر) نظّم الفلسطينيون مظاهرات غاضبة ضد الاحتلال الإسرائيلي في مخيم جباليا للاجئين، شمال القطاع، وعقب ذلك انتقلت الانتفاضة إلى كافة المدن الأخرى، واستمرت نحو 6 سنوات.


الإعلامي الفدائي

حاليا، لا تكاد مدينة فلسطينية تخلو من عشرات المصورين الصحفيين الذين يعملون لصالح الإعلام المحلي أو وكالات الأنباء ومحطات التلفزة العربية والدولية.

ولكن في حينه، كان يتعين على أبو ترك أن يعمل ضمن ظروف أصعب بكثير، مما هي عليه الآن.

وما زال أبو ترك يحتفظ بعدد لا بأس به من الكاميرات غير الإلكترونية، ومعها فيلم وحيد، لم يستخدمه حتى الآن.

وأشار إلى أنه في حينه، كان يتعيّن تحميض الأفلام وطباعتها لبيع الصور لوسائل الإعلام المحلية وأفلام الصور السالبة لوكالات الأنباء الدولية.

ويستذكر أنه كان يبيع الصور لجميع وكالات الأنباء الدولية، لأنه لم يكن هناك مصورين في ذلك الوقت.

ولكن بالنسبة لأبو ترك، مواليد عام 1948، والذي يُطلق على نفسه "الإعلامي الفدائي"، فإن التصوير بالنسبة له ليس مهنة.

آلاف الصور في حقائب كبيرة وخزانة خشبية

وقال في هذا الصدد "التصوير الصحفي في العالم مهنة، ولكن في فلسطين هو رسالة، ومن لا يحمل رسالة لا يبدع".

ويحتفظ أبو ترك بآلاف الصور، في حقائب كبيرة وخزانة خشبية، يبدأ تأريخها منذ ما قبل الانتفاضة وحتى أيامنا هذه، حيث ما زال يمارس مهنة التصوير.

"يطلقون عليَّ: أرشيف يمشي على الأرض"، قال أبو ترك موضحا "لدي صور توثق ممارسات الاحتلال في القدس وغزة والضفة الغربية".

وكشف أبو تُرك، أنه يعمل حاليا على تحويل الصور الورقية التي بحوزته إلى "صور إلكترونية"، بغرض حفظها، وكي تكون متاحة للجميع.

وقال "أمتلك مخزونا كبيرا من الصور التي جزء منها تم نشره، وقسم كبير منها لم يغطّه أحد غيري، وأمتلك حاليًا أمانة وأحب أن أوصلها إلى العالم من خلال توثيق جميع الصور الكترونيا لتكون متاحة للجميع".


أطفال الحجارة

وحينما كان أبو تُرك يقلّب الصور، كانت تظهر شخصيات فلسطينية بعضها ما زال على قيد الحياة، والبعض الآخر غادرها، ولكنّ الأحب على قلبه كانت صورة رفع العلم الفلسطيني في ساحات المسجد الأقصى، وصورة لأطفال يلهون عبر محاكاة المواجهات ويقسمون الأدوار بينهم، فبعضهم يلعب دور جنود الاحتلال والبعض الآخر يتقمص دور المتظاهرين.

وعن الصورة الأخيرة قال أبو ترك "يا الله... كانوا يطلقون عليها لعبة الانتفاضة".

ومن خلال معايشته اللصيقة لأحداث الانتفاضة، ذكر أبو تُرك، أن الجنود الإسرائيليين كانوا يتعمدون إصابة الأطفال، مضيفا "لذلك فإن عدد كبير من الأطفال استشهدوا وأصيبوا".

وأطلق الفلسطينيون اسم "انتفاضة الحجارة"، على هذه الانتفاضة لأن الحجارة كانت الأداة الرئيسية فيها للتصدي للآليات العسكرية والبنادق الإسرائيلية.

"توثيق جميع الصور الكترونيا لتكون متاحة للجميع"

إلى جانب الحجارة، استخدم الفلسطينيون أدوات بسيطة في التصّدي للاحتلال، مثل الزجاجات الحارقة المعروفة باسم "مولوتوف"، ولأن الأطفال شاركوا بفاعلية فيها فقد كان يُطلق عليهم "أطفال الحجارة".

وكان يتعين على أبو تُرك التواجد ما بين الفلسطينيين من أجل التقاط الصور للجنود الإسرائيليين، وهم يطلقون النار، وثمّة أحداث لا ينساها.

وقال بهذا الصدد "أذكر أنه في العام 1996 كنت بالمسجد الأقصى، ووثقت بالصور، إصابة أحد الأشخاص خلال وجوده في ساحات المسجد حتى استشهاده".

وأضاف "حينها، كان كل ما أتمناه، هو أن أتمكن من نشر هذه الصور، كيف أكشف للعالم جرائم الاحتلال، وتمنيت أنه في حال استهدافي أن تُصيبني الرصاصة أنا وليس كاميرتي".

واستدرك "في اليوم التالي تم نشر الصورة في كل أنحاء العالم، وأعتقد أنني بذلك نقلت رسالة هذا الشهيد إلى العالم أجمع".

وأضاف "الهدف من تصويري هو أن أُسهم في رفع المعاناة عن شعبي وأن أساهم في إنهاء الهمجية وجرائم الحرب".


وسائل التواصل الاجتماعي

لم يكن في تلك الفترة وسائل تواصل اجتماعي أو هواتف ذكية، ومحطات التلفزة تكاد تكون شحيحة.

ولكنّ أبو تُرك أشار إلى أنه في حينه كان يعلم عن نشاطات الانتفاضة من خلال بيانات القيادة الوطنية الموحدة (تحالف فصائل منظمة التحرير الفلسطينية) أو النشاطات التي يتم الإعلان عنها من خلال الشعارات على الجدران.

رويدا رويدا، حصل أبو تُرك على جهاز النداء الآلي المعروف باسم "Pager" (جهاز استقبال موجات لاسلكية) الذي كان يتلقى من خلاله المعلومات عن أماكن المواجهات، ولاحقا الهواتف النقالة.

وفي حينه كان النشطاء يوزعون بيانات مكتوبة تتضمن فعاليات الانتفاضة لأيام أو أسابيع، وفي حال الطوارئ يعلنون عن الفعاليات من خلال خطّها على الجدران مثل "اليوم إضراب شامل" أو "يوم الخميس القادم إضراب تجاري" أو "يوم السبت يوم غضب" وغيرها من التوجيهات.

وأشار أبو تُرك إلى أنه كان عُرضة للكثير من الاعتداءات من قبل الجنود الإسرائيليين، أثناء تغطيته للفعاليات، لكنه لفت إلى أن اللحظة الأصعب بالنسبة له، كانت عند محاولة الجنود مصادرة الفيلم منه.

وقال بحزم "لا نقاش في هذا الأمر، إذا ما حاولوا مصادرة الفيلم فإن الإجراء الفوري هو حرقه من خلال إخراجه من الكاميرا، فلا أسمح بأن يتم استخدام صوري لإدانة نشطاء، كنت أدرك أنني سأدفع الثمن ولكن الأهم بالنسبة لي ألا أكون سببا للتنكيل أو اعتقال نشطاء".

"تمنيت أنه في حال استهدافي أن تُصيبني الرصاصة أنا وليس كاميرتي"

واستذكر أبو ترك أنه كان يتنقل ما بين المدن وهو يحمل الحقيبة التي تشمل الكاميرا والأفلام.

وقال "كان الناس يوجهونني إلى أماكن ستنظم فيها فعاليات، كما أنه بالعادة كانت تجري فعاليات بعد صلاة الجمعة، وفي حال ارتقى شهيد فإن المواجهات تكون مؤكدة وكذلك الإضراب التجاري".

واستذكر أن الفعاليات في مدينة القدس الشرقية، كانت تحدث بالمسجد الأقصى أو انطلاقا من "الفندق الوطني" في "شارع الزهراء" وكذلك "شارع صلاح الدين".

وقال أبو تُرك "كثيرا ما كان النشطاء يفرضون منع دخول السيارات الإسرائيلية إلى المدينة وحال وجودها مركونة كان يتم قلبها أو حرقها".

وبحسب بيانات رسمية، تقدّر حصيلة الضحايا الفلسطينيين الذين استشهدوا بفعل الاعتداءات الإسرائيلية خلال انتفاضة الحجارة، بحوالي 1162 فلسطينيا، بينهم حوالي 241 طفلا، فيما أصيب نحو 90 ألفا آخرين.

أما عن الجانب الإسرائيلي، بحسب بيانات سابقة صادرة عن مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة "بتسيلم"، فقد قتل نحو 160 شخصا.

التعليقات