القدس... من سيرة أبوابها في وداع شهرها

بدأ الصراع المقدسي المتصل بأبواب مدينتهم القديمة، في حركة الخروج منها، وليس الدخول إليها كما صار طابعه اليوم في ظل الاحتلال الإسرائيلي للمدينة.

القدس... من سيرة أبوابها في وداع شهرها

احتفالات المقدسيين الرمضانية في ساحة باب العامود (Getty Images)

"وإني آمرك أن تنفق الغنائم على تزيين مكة والمدينة وتحصين قلعة القدس لتصد عنها الكافرين عندما يحاولون الإستيلاء على القدس في عهود خلفائك. وعليك أن تُزين حرمها ببناء حوض للماء فيه وأن تمنح الدراويش فيه هبات المال السنوية وأن تُزين قبة الصخرة وتُعيد بناء القدس".

كان ذلك مناما للسلطان العثماني سليمان القانوني. وعلى ذمة أوليا جلبي، فإن النبي قد جاء السلطان في ذلك المنام حاثا إياه على تحصين مدينة القدس، كما يردف جلبي في روايته بالقول إن "سليمان نهض من نومه فأرسل من غنائمه ألف كيس إلى المدينة وألف كيس أخرى للقدس، ثم بعث المِعمار البارع الخوجا سنان مع المواد اللازمة إلى القدس". كانت هذه - بحسب الرحالة التركي أوليا جلبي - حكاية إقدام السلطان العثماني على بناء سور مدينة القدس القائم إلى هذا اليوم.

لطالما داوم السلاطين العثمانيون على شرّعنة سلطنتهم في البلاد منذ القرن السادس عشر للميلاد. كان بناء سور القدس واحدا من أضخم وأفخم أعمالهم العمرانية في القدس وفلسطين عموما. لم تكن القدس مُهددة في حينه من أعداء - كما تضمن الاقتباس عن منام السلطان - ليجري إحاطة المدينة بسورها. غير أن رواية أخرى ذات أبعاد اجتماعية عن الدافع لبناء السور مفادها أن "أهالي مدينة القدس قد طالبوا السلطان بإحاطة مدينتهم بسور، كي لا يظل يدخلها فلّاحون القرى المجاورة كيفما شاءوا!".

الاحتلال يغلق ساحة باب العامود (Getty Images)

على أي حال، وبصرف النظر عن أي الحكاتين هي الدافع وراء بناء السلطان سليمان القانوني للسور، فإن سور القدس بات وجه المدينة ليس العمراني فحسب، إنما الحضاري الذي يُحيل الرائي إلى هوية القدس العربية والإسلامية على مدار مئات السنين إلى يومنا.

أما عن المعماري الشهير الخوجا سنان، الذي ارتبطت أكبر مشاريع الدولة العثمانية العمرانية به، ومنها ما شاع على أنه هم من صمم وبنى سور القدس، ففي دراسة حديثة للباحث المقدسي يوسف النتشة عن باب العامود [1]، المتصل إنشاؤه ببناء السور، يفند النتشة الرواية الشائعة لدى بعض المهتمين والدارسين، عن بناء المعماري الموهوب للسلطان سليمان القانوني، الخوجا سنان باشا، لسور القدس، وتصميمه لباب العامود. بما يتضمنه هذا الباب من مكانة تذكارية - تاريخية ومعمارية وفنية الذي تتقزم فعلا جميع أبواب المدينة وفلسطين عموما أمام هيبته وسطوته، بحسب قول النتشة.

يميل النتشة في الإجابة عن سؤال: من صممَ باب العامود؟ إلى فرضية مختلفة يطرحها على محمل اعتقادٍ منه، بأن مصمم باب العامود هو معماري ينتمي إلى مدينة حلب في الشام، قَدِم للقدس واستقر بها، هو المعماري المعلم درويش الحلبي. يستند النتشة في اعتقاده هذا إلى ثلاثة أركان ترجح الحلبي على سنان باشا في تصميم وبناء باب العامود، وهي:

أن التراث العمراني - العثماني في القدس ينتمي إلى تقاليد وأساليب مملوكية استمر العثمانيون البناء وفقها.

واستنادا إلى ملاحظات ماينكة (Meinecke) الذي قام بدراسة عمارة القدس، فإن الفرق المعمارية التي اشتغلت على تصميم أبواب في مدن مثل حلب والقاهرة كانت من الحواضر العربية من حلب والقاهرة، وبالتالي هي ذات الفرق المعمارية التي قامت بالبناء في القدس، وذلك لتشابه أقبية أبواب العامود والسُباط (الأسباط) والخليل، مع تلك الأبواب في حلب والقاهرة من حيث التصميم والزخارف.

(Getty Images)

ثم يُشير النتشة إلى تأييد سجلات محكمة القدس جزئيا لاستنتاج ماينكة، إذ تبين السجلات أسماء وأصول سبعة عشر معماريا وافدين إلى القدس نشطوا في فترة حكم السلطان سليمان القانوني، منهم 12 من سورية وسبعة منهم من مدينة حلب، الذين حمل بعضهم ألقاب مثل " المعمار بسور القدس" و"معلم مولانا السلطان" وقد ورد اسم درويش الحلبي من ضمن أسماء المعماريين الحلبيين الذين وفدوا القدس في حينه، وحمل لقبا حساسا هو "معلم مولانا السلطان بالسور" [2].

وأخيرا يقارن النتشة في دراسته العناصر الزخرفية المُزخرفة في باب العامود، وخصوصا صنج عقد الباب، والتي لا تتطابق مع أية زخارف على أية أبواب أخرى في جميع بلاد الشام إلا على بعض أبواب مدينة حلب، فقد وجدت في حلب مثل هذه الزخرفة في كل من خان الصابون، وجامع الأطرش، وجامع الدرج وغيرها. مما يرجح، وإلى حد بعيد بالنسبة للنتشة، أن المعماري درويش الحلبي هو مصمم باب العامود وسور القدس وليس الخوجا سنان باشا.

عن صراع الأبواب

لكل باب في سور مدينة القدس اسم وحكاية، غير أن أبواب القدس موّلدةً للحكايات أيضا. فباب العامود يظل أبو الحكايات على عتبة مدخل البلدة القديمة، كان آخرها اندلاع شرارة هبة أيار الماضي، بعد أن حاولت قوات الاحتلال وضع سواتر حديدية تُعيق حركة المقدسيين والفلسطينيين عموما للدخول والوصول إلى الحرم. فضلا عن محاولتها فرض سيطرتها على الساحة المؤدية للباب وإخلائها لدرجاته من المقدسيين الذين اعتبروا الباب وساحته فضائهم الرمضاني - الاجتماعي للتجمهر والتواصل والاحتفال.

(Getty Images)

لقد بدأ الصراع المقدسي المتصل بأبواب مدينتهم القديمة، في حركة الخروج منها، وليس الدخول إليها كما صار طابعه اليوم في ظل الاحتلال الإسرائيلي للمدينة. ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ثابر المقدسيون من داخل السور على الخروج من أبواب المدينة والبناء خارجها، في ظل تحولات سياسية - اجتماعية ذات مسوح برجوازية - ليبرالية، من أجل التمرد على الرقابة الاجتماعية والأمنية التي تشترطها الحياة داخل السور، وقد تحدث عنها الموسيقي المقدسي واصف جوهرية في مذكراته.

بينما شَكل صراع المقدسيين على أبواب مدينتهم المُحتلة إسرائيليا منذ عقود، بات متصلا بالدخول إلى البلدة القديمة والبقاء فيها، في ظل محاولات الاحتلال الحثيثة على تهوديد البلدة القديمة وتفريغها من أهلها المقدسيين، وبالتالي إعاقته بأدوات وأساليب مختلفة حركة الدخول من أبوابها إليها وبالأخص باب العامود.

في دراسة عن صراع الأبواب المقدسية للباحث نظمي الجعبة [3]. يبين الجعبة شكل التحولات التي طرأت على علاقة المقدسيين بأبوابهم في غزوة الحداثة للمدينة، وتحديدا ما بين باب العامود وباب الخليل قبل إغلاق هذا الأخير.

ليس الباب مجرد منفذ من السور لدخول المدينة أو الخروج منها، إذ يشكل الباب شريانا لحياة المقدسيين، وبقاؤه مفتوحا يعني حياة اقتصادية واجتماعية مشرعة أبوابها ومفتوحة تدب فيها الحياة. فبقاء باب العامود مفتوحا إلى يومنا حافظ على ثبات أسواق المدينة المؤدي لها الباب مثل سوق باب العامود وسوق خان الزيت المتصل بسوق العطارين، فشريان حياة هذه الأسواق مستمدٌ إلى يومنا من فتحة باب العامود وحركة الدخول منه.

(Getty Images)

أما باب الخليل، والذي كان يُطلق عليه أيضا "باب يافا"، فقد احتل تاريخيا مكانة اجتماعية ودينية نظرا لموقعه في الشمال الغربي في سور المدينة، وارتباطه بمدينة يافا من جهة، ومدينتي بيت لحم والخليل من جهة أخرى. فمن هذا الباب خرجت المسيرات الدينية في أعياد ميلاد المسيح باتجاه بيت لحم في مواكب مهيبة، اختلط فيها الحجاج الأجانب بأهل القدس وبرجال الدين بحسب الجعبة. ومن باب الخليل كان يستقبل سكان القدس في كل عام موكب أهالي الخليل القادمين سيرا على الأقدام في موسم زيارة النبي موسى الشهير.

يقول الجعبة في دراسته، أن اختلالا في علاقة هيمنة الأبواب بدأ يطرأ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، اتخذ شكل تراجع في أهمية باب العامود، الباب الرئيس للمدينة، لصالح باب الخليل الذي بات أكثر اتصالا ببوابة الحداثة الوافدة للمدينة. وظل باب الخليل كذلك لمدة قرن من الزمن إلى أن حلت كارثة نكبة 1948، وانتكاب الباب بإغلاقه بالإسمنت المسلح لوقوعه على أثر النكبة على خط الهدنة. فبعد أن كان بابا مفتوحا ومنفتحا على بوابة الحداثة، أصبح باب الخليل المغلق، بمثابة حاجز، يُحيل المقدسيين إلى الهزيمة والعزل والتقسيم [4]. ليعود الثقل العملي والرمزي معا، لباب العامود حتى يومنا.

تظل حكايات أبواب مدينة القدس تتضمن جزءا أصيلا من حكاية عروبة مدينة القدس المحتلة، بين أبواب ظلت مفتوحة ومفتوحة شرايينها بعد عسكرتها من قبل الاحتلال مثل باب العامود، وأخرى جرى سدها بالإسمنت مثل باب الخليل، وأخرى تم تحريف أسمائها لتشبه مُحتليها لتغترب عن أهلها مثل باب السُباط أي الزقاق المسقوف، وليس الأسباط التي تُحيل إلى أساطير أسباط العبرانيين، ومن الأبواب من ظلت مفتوحة ومغلقة بوجه أهلها سادة عنهم جهاتهم التي عرفوها مثل باب المغاربة الذي بات بابا مؤديا إلى حارة اليهود المُقامة على أنقاض حي المغاربة المهدوم.


[1] دراسة للباحث يوسف النتشة، بعنوان : هل صمم المعماري سنان باب العامود؟ ضمن مجموعة دراسات في كتاب بعنوان: مدينة الحجاج والأعيان والمحاشي، دراسات في تاريخ القدس الاجتماعي والثقافي، مؤسسة الدراسات المقدسية، القدس - فلسطين، 2005.

[2]. المرجع السابق، ص 33.

[3] دراسة للباحث نظمي الجعبة، بعنوان: بين باب العامود وباب الخليل صراع الأبواب على الحداثة المقدسية، ضمن مجموعة دراسات في كتاب بعنوان: مدينة الحجاج والأعيان والمحاشي، دراسات في تاريخ القدس الاجتماعي والثقافي، مؤسسة الدراسات المقدسية، القدس-فلسطين، 2005.

[4] المرجع السابق، ص 83.

التعليقات