العُمريّ: من سيرة الجامع في قصفه

للعمريّ سيرة طويلة ظلّت ملتحمة مع تاريخي المدينة الملحميّ، فالجامع كان أكثر من تكتّم على أسماء المجاهدين والثوّار والفدائيّين على مدار القرن العشرين من سيرة غزّة النضاليّة...

العُمريّ: من سيرة الجامع في قصفه

مئذنة الجامع العمري (أرشيف)

لم يكن العُمريّ مسجدًا، إنّما جامعًا، جمع الغزيّين للصلاة وصلتهم بحكاية الزمان والمكان على رمال ساحل المتوسّط. وللجامع حضور في غزّة إلى الحدّ الّذي ظلّ فيه سعر شراء البيت أو كريه في المدينة مشروطًا بمدى قربه من العُمريّ أو بعده عنه طوال التاريخ العثمانيّ، وحتّى مرحلة الاستعمار البريطانيّ على المدينة والبلاد.

هو أكبر معلّم معمّر من عمر غزّة هاشم، وقد نالت منه قنابل الصهاينة يوم الجمعة الماضي، لكنّها ليست المرّة الأولى الّتي تصلي فيها نار الغزاة الجامع العمريّ، فقد تجرّأت عليه قبل ذلك فوّهات مدافع الإنجليز من البرّ والبحر سنة 1917 في أثناء الحرب العموميّة الأولى (1914 – 1918)، وشيخه المرحوم عثمان الطباع، أحد أعمدة الجامع العريقة، قد نظم في يوم إتمام إعادة إعماره بعد الحرب، قصيدة تقول بعض أبياتها:

للّه جامعـنا السنى المعمـور

يبدو برونقه البهيج سرور

هو مسجد اللّه العتيق بغزّة

أثر قديم قـد تباعـد عهـده

وله بتاريخ العصور سطور

أفذوكسيا شادت كما قلاوون قد

عظمت إليه بذا البناء أجـور

همم الملوك تسابقت فيه وما

يعزى إليهم في التمـام قصور

مضت القرون عليه في أبهى حلى

وبذكر مـولانا العـلي معمور

حتّى بنار الحرب أمسى خاويًا

وجرت عليه من الأمور أمور

لكن بفضل اللّه أصبح عامرًا

يحكى سنـاه ويعتليـه النـور (1).

تؤرّخ هذه الأبيات للجامع منذ بنائه، وأسمائه كذلك، فهو العمريّ نسبة للخليفة عمر بن الخطّاب، حيث أنشأ الجامع باسمه تكريمًا له، عند فتح غزّة والبلاد في عهده، وهو أوّل وأقدم جامع في مدينة غزّة، لذا، يطلق عليه أيضًا اسم "الجامع العتيق" كما جاء في أبيات قصيدة الطباع، ومن أسمائه "الكبير" على طريقة تسمية المساجد الأقدم في مدن فلسطين، كما أطلق عليه الغزيّون تسمية "الأقصى الصغير"، إذ يعتبره أهالي المدينة ثاني أقدم وأعرق مسجد بعد المسجد الأقصى في القدس.

جانب من الجامع العمريّ (غيتي)

أمّا أفذوكسيا الّتي يشير إليها صاحب الأبيات، فهي الإمبراطورة البيزنطيّة، الّتي بنت على نفقتها أوّل كنيسة حملت اسمها في غزّة في نفس موقع الجامع العمريّ، إذ بني هذا الأخير على أنقاضها، فإذا كانت جدران الجامع العمريّ تحفظ ذاكرة غزّة العربيّة – الإسلاميّة، فإنّ حكاية تطاحن الجيوش والدول قبل ذلك على غزّة، مطمورة تحت الجامع العمريّ منذ كان موقعه معبّدًا لأكبر آلهة غزّة الوثنيّة، الإله "مارنا".

من مارنا إلى أفذوكسيا

حتّى أواخر القرن الرابع للميلاد، كانت فلسطين معقلًا لثلاثة أديان: اليهوديّة ومركزها في طبريّة، والمسيحيّة الّتي كانت قيساريّة معقلًا لها، بينما غزّة ظلّت أهمّ وآخر مركز للوثنيّة في البلاد، وقد أشار عارف العارف في كتابه "تاريخ غزّة" إلى الثمانية آلهة الّتي عرفتها المدينة في حينه، منها "مارنيون أو مارنا" والّذي يعني "معبد الربّ العظيم"، ومشتقًّا اسمه من الكلمة السريانيّة "ميرونا" ومعناها أميرنا أو سيّدنا ومولانا. ومعبد مارنا الّذي يعتقد أنّ موقعه في نفس مكان الجامع العمريّ الكبير، كان أكبر معابد الغزيّين الوثنيّين تعظيمًا وتقديسًا، فكانوا يلجؤون إليه في جميع الأحوال، ولا سيّما في أيّام الشدّة والقحط والجوع، كما وجدت صورة معبد الإله مارنا على بعض النقود الّتي سكت في عهد الإمبراطور هادريانوس مقترنًا باسم غزّة للحدّ الّذي كان فيه معبد الإله مارنا ينافس معبد هيكل الإسكندريّة الوثنيّ (2).

جانب من الجامع العمريّ (أرشيف)

كان انتشار المسيحيّة عند ظهورها في البلاد بطيئًا، ولكن مع تولّي "برفيريوس" الأسقفيّة سنة 395م في غزّة، بدأت تتصاعد حدّة المواجهة بين الوثنيّة والمسيحيّة في المدينة، خصوصًا بعد أن دعمت الإمبراطورة أفذوكسيا من القسطنطينيّة المسيحيّة والأسقفيّة في غزّة، وأمرت ببناء أوّل كنيسة فيها على نفقتها الخاصّة سنة 401م، وقد أنشأت الكنيسة سنة 406م، بعد مواجهة دامية بين المسيحيّين وآخر الوثنيّين في غزّة عند معبد الإله مارنا الّذي حاول أتباعه الدفاع عنه، إلّا أنّ أنصار المسيحيّة تمكّنوا من سحق الوثنيّين وحرق معبدهم، وأطلقوا على الكنيسة اسم أفذوكسيا نسبة لأفذوكسيا الإمبراطورة (3).

إلى العمريّ الكبير

فتح العرب المسلمون غزّة على يد قائد جيش الفتح في الشام عمرو بن العاص، ودخلوا المدينة في يوم 14 شباط 634م، بعد هزيمة قائد حامية المدينة "بطريقيوس" أكبر قادة هرقل العسكريّين في الجيش البيزنطيّ. وممّا يذكر، بأنّ بدخول غزّة دائرة الإسلام، قد دخل كثير من سكّانها المسيحيّين في دين الفتح الجديد الإسلام، وقد طالب أهالي المدينة باقتسام الكنائس في غزّة، فحكم عمرو بن العاص للّذين أسلموا وكانوا الأكثريّة بالكنيسة الكبرى "أفذوكسيا" فاتّخذوها مسجدًا والدير الّذي بجانبها رباطًا، وأطلقوا عليهما اسم الجامع العمريّ الكبير، بينما ظلّت الكنيسة الصغرى "الروم الكاثوليك" للأقلّيّة المسيحيّة في المدينة يمارسون شعائر دينهم فيها بحرّيّة (4).

بقي الجامع العمريّ على حالة بنائه الأصليّة بحسب صاحب كتاب "إتحاف الأعزّة" حتّى أواخر القرن السابع للهجرة/ الثالث عشر للميلاد، إلى أن تمّ بناء منارته المشهورة سنة 697هـ/ 1298م في زمن السلطان أبي الفتح لاجين المنصوري، ثمّ خضع الجامع العمريّ إلى عدّة إصلاحات وتجديدات معماريّة فيه على مدار التاريخ المملوكيّ وكذلك العثمانيّ للمدينة، منها هدم أبواب وجدران فيه وتوسيع إيواناته، ثمّ إنشاء أبواب ونوافذ منها ما صار رمزًا مثل "شبّاك النور" المبارك، كما جدّد فيه محرابه ومنبره غير مرّة، إضافة إلى إنشاء صهريجه المشهور في صحنه سنة 720هـ/ 1320م من أجل جمع ماء الشتاء للشرب والوضوء. وفي عهد عائلة آل رضوان الغزيّة المتنفّذة في متصرّفيّة المدينة زمن العثمانيّين، أنشأت في الجامع العمريّ عدّة إيوانات صغيرة عرفت بـ "إيوانات العشى" الّتي ارتبط إقامتها بـ "حسن باشا" من آل رضوان، متصرّف غزّة في حينه (5).

جانب من الجامع العمريّ بعد قصفه من قبل القوّات الإنجليزيّة (أرشيف)

إذا كان لذاكرة غزّة أن تشيخ، فإنّ ذاكرتها في العمريّ، في مأذنته المنارة، الّتي ظنّها عساكر الإنجليز برجًا يراقبهم، فقصفوها أيّام حرب الأتراك. وفي مصاطب قرّاء القرآن الكريم، ودكّة المؤذّنين المشهورة فيه. لم يكن العمريّ مجرّد مسجد يؤمّه أهالي غزّة وريفها لأداء الصلاة فيه فقط، إنّما سيرة غزّة العلميّة وعلماؤها كانت فيه ومنه، إذ ظلّ العمريّ معمورًا بالعلماء والطلّاب على مدار التاريخ، وفيه أكبر مكتبة عرفتها غزّة المدينة في القرن العشرين. وظلّ العمريّ دارًا تحفظ فيه سجلّات وقف الحوانيت والدور والأراضي في غزّة ومحيطها، كما كانت مياه صهاريجه وآباره ترفد سواقي الأسواق وحمّامات المدينة من حوله، وأيضًا بمثابة خان، إذا ما أقفل "خان الكتّان" أبوابه بوجه زوّار المدينة ليلًا، ليغدو العمريّ مقصدًا للقادمين وعابري السبيل، وملاذ المغلوبين على أمرهم، ومزار المارّين من برّ الشام عبر غزّة إلى مصر. ما كان ليحمل أهالي غزّة على مدار التاريخ العثمانيّ لقب " أحباب الحجّاج" (6) لولا الجامع العمريّ الّذي تعوّد حجّاج البلاد الحطّ فيه في أثناء مرورهم من المدينة قاصدين أرض الحجاز.

للعمريّ سيرة طويلة ظلّت ملتحمة مع تاريخي المدينة الملحميّ، فالجامع كان أكثر من تكتّم على أسماء المجاهدين والثوّار والفدائيّين على مدار القرن العشرين من سيرة غزّة النضاليّة. قصف الصهاينة في حربهم الدائرة على غزّة العمريّ، وقد يتذرّعون مثلما تذرع من قبلهم الإنجليز بأنّ العمريّ يأوي في داخله "جبخانة" (كتيبة عسكريّة تركيّة)...


الهوامش:

1 _ الطباع، الشيخ عثمان مصطفى الغزي، إتحاف الأعزّة في تاريخ غزّة، تحقيق: عبد اللطيف زكي أبو هاشم، مكتبة اليازجي، غزّة، 1999، ج 2، ص 114.

2 _ العارف، عارف، تاريخ غزّة، نفائس المطبوعات المنوّرة، ص 75.

3 _ المرجع السابق، ص 79.

4 _ الطباع، المرجع السابق، ج 2، ص 107.

5 _ المرجع السابق، ج 2، ص 110.

6 _ الطباع، المرجع السابق، ج 1، ص 90.

التعليقات