بين السنوات 1936-1939 اندلعت ثورة عارمة في فلسطين ضد بريطانيا. الجانب اليهودي في تلك الأيام أطلق على هذه الثورة اسم حوادث واضطرابات قامت بها عصابات مسلحة عربية خارجة على القانون(1). وقد استمر ذلك التوجه حتى سنة 1978 حين أصدر يهوشع فرات كتابًا بعنوان "من الاضطرابات إلى الثورة" فيه أكد على نشوء الحركة القومية العربية الفلسطينية(2). وأصدر تسفي ألبيلغ كتابه "حوادث 1936-1939: هل هي اضطرابات أم ثورة"(3). في سنة 1982 أطلق يوفال أرنون أوحنا على هذه الثورة ثورة الفلاحين عازفًا على وتر الاختلاف القائم بين سكان القرى والمدن وهذا ربما عكس بعضًا من الحقيقة في مرحلة متأخرة من الثورة(4). في سنة 1998م أطلق يجآل إيال على هذه الثورة اسم "الانتفاضة الأولى" باعتبارها الهبة الشاملة التي شارك فيها جميع أبناء فلسطين، وهو بذلك يستحضر واقع الانتفاضة التي وقعت في الثامن من ديسمبر/كانون الأول سنة 1987(5).
أما الجانب العربي فقد اضطر كُتاّبه وصحافته إلى استعمال مصطلح اضطرابات وقامت بنشر البلاغات الرسمية الصادرة عن حكومة الانتداب(6). في بيانات فوزي القاوقجي جرى استعمال اسم الثورة العربية في سورية الجنوبية(7). وبعد مغادرته استعملوا اسم الثورة العربية في فلسطين(8). في سنة 1961 أطلق صبحي ياسين على كتابه "الثورة العربية الكبرى في فلسطين 1936-1939"(9). واليوم يستعملون اسم الثورة الفلسطينية الكبرى(10).
بينما سماها الجانب البريطاني في البداية اضطرابات ثم اضطر إلى الاعتراف بأنها ثورة(11).
بدأت الثورة قبل إعلان الإضراب العام في فلسطين:
في مساء يوم الأربعاء 15 نيسان 1936 خرجت مجموعة مسلحة يقدر عدد أفرادها بثلاثة أشخاص إلى الطريق العام بين عنبتا وطولكرم بجوار سجن نور شمس، وأوقفت نحو 15 سيارة، فأطلقت النار على الركاب فأصابت تاجر دجاج يهودي اسمه يسرائيل حازان فقتل، وجرحت يهوديًا آخر جراحًا خطرة توفي إثرها بعد خمسة أيام، وبعد أن أخذت المجموعة من الركاب مبلغًا من المال فرت إلى الجبال معلنة أن ما فعلته هو ردّ على استشهاد الشيخ عز الدين القسام(12). كانت تلك الشرارة الأولى لاشتعال الثورة الفلسطينية(13).
وفي مساء يوم الخميس 16 نيسان 1936 قتل عربيان في كوخهما على طريق ملبس-كفر سابا بالقرب من جسر العوجا. أحدهما يدعى حسن أبو راس وهو من قرية صبارين والآخر يدعى سليم المصري. الأول منهما ناطور في بيارة أحد اليهود في مستعمرة راماتيم اليهودية، والثاني كان ضيفًا نازلاً عنده في تلك الليلة. كل الدلائل أشارت إلى أن الفاعلين لهذه الجريمة كانوا من اليهود(14).
في صباح يوم الجمعة 17 أبريل/ نيسان 1936 شيعت جنازة القتيل اليهودي يسرائيل حازان في تل أبيب بمظاهرة صاخبة، هتفت فيها الجماهير المشيعة هتافات عدائية لحكومة الانتداب والعرب. وكانوا كلما وجدوا عربًا مارين في الطريق ضربوهم واعتدوا عليهم. ولما بدأ البوليس في تفريق المتظاهرين هجم قسم منهم على البوليس ورموه بالحجارة. وبعد أن أطلق البوليس النار تفرق المتظاهرون بعد سقوط جرحى كثيرين بينهم 15 جريحًا من رجال البوليس. وبعد ظهر ذلك اليوم تجمهر عدد كبير من اليهود حول حوانيت باعة الخضر العرب في المركز التجاري بتل أبيب وأخذوا يهتفون وينادون بمقاطعة العرب واعتدوا على كثيرين منهم، وأعملوا فيهم ضربًا ولكمًا. وقد أحدث ذلك أثرًا سيئًا جدًّا في نفوس العرب(15).
في صباح يوم الأحد 19 نيسان 1936 أُشيع أن اليهود قتلوا ثلاثة رجال عرب وامرأة عربية في تل أبيب. فتجمهر العرب في ساحة السرايا بيافا يستوضحون الخبر، فأكدت لهم السلطات كذب الإشاعة، وقد كادوا يصدقون وينصرفون، لولا أن وصل في تلك الساعة عرب مصابون بجروح من تعديات اليهود عليهم في تل أبيب فثار الجمهور من جديد، ووقعت الواقعة. حيث أخذ أصحاب المحلات يغلقون متاجرهم ومخازنهم من عرب ويهود وساد الأسواق اضطراب كبير من جراء ذلك. وتعطلت جميع الأعمال في الميناء. وكانت الحوادث تسبق البرق في انتشارها، وبدأ التصادم بين العرب واليهود في كثير من المحلات وخصوصًا المحلات الكائنة في ضواحي يافا وتل أبيب. وقد أسفرت هذه الصدامات عن مقتل 9 أشخاص من اليهود وجرح نحو 60، وقتل عربيين وإصابة واحد بجروح خطيرة و14 بإصابات خفيفة. وقد فرض نظام منع التجوال في يافا وتل أبيب ليلاً(16).
ما إن انتشرت أنباء الصدامات في يافا حتى التهبت المشاعر في عدد من المدن الفلسطينية. في مساء يوم 19 نيسان 1936 جرى اجتماع حاشد في نابلس تقرر فيه القيام بمظاهرات وإعلان الإضراب العام لعدة أيام. في نفس اليوم تم اجتماع للشباب برئاسة عارف الجاعوني في نادي "جمعية العمال العرب" في القدس الذين قرروا إعلان الإضراب، وإجبار أصحاب الحوانيت والتجار على الانصياع للقرار. في الساعة التاسعة إلا الربع مساء جرت المظاهرة الأولى في طولكرم، وقد رجم المتظاهرون السيارات المارة في المكان بالحجارة فأرسل جيشاً بريطانياً إلى المدينة(17).
في 20 نيسان 1936 تجددت الصدامات التي تمحورت في الحارات المحيطة بتل أبيب. فقد أطلقت النيران من قرية سلمة تجاه حارة هاتكفا، ومن المنشية باتجاه كيرم هاتيمنيم. في ذلك النهار نزح من تلك المدينة المئات وقتل سبعة. عمّ الإضراب الشامل في المدن الفلسطينية: القدس، يافا، نابلس وطولكرم. في يافا ونابلس جرت اجتماعات تقرر فيها الاستمرار في الإضراب في البر والبحر وتأسيس لجان قومية للإشراف على هذا الإضراب(18).
أصيب اليهود والإنجليز بالدهشة والذهول إزاء الحوادث التي أدت إلى إعلان الإضراب العام، ويبدو أن الزعامة العربية لم تكن تتوقع أن تصل الأمور إلى هذا الحد وتفاجأت. فالأحداث في القدس سيرها الشباب والطلبة وليس الزعامة التقليدية(19).
في 25 نيسان 1936 انضمت الزعامة الدينية برئاسة محمد الحاج أمين الحسيني إلى الدعوة للإضراب وأقامت اللجنة العربية العليا التي طالبت بحظر الهجرة اليهودية وتحريم نقل ملكية الأراضي لليهود، وتشكيل حكومة وطنية(20).
استمر الإضراب العام نحو ستة أشهر. خلالها استعرت الثورة الفلسطينية وبلغت أوجها. وانتهى بصدور نداء من زعماء الدول العربية في 10 تشرين الأول/أكتوبر 1936 بإنهاء الإضراب والخلود إلى السكينة معتمدين على نوايا بريطانيا الحسنة(21).
إحالات:
1. دانين، عزرا، شهادات وشخصيات من أرشيف العصابات العربية في حوادث 19936-1939، إصدار ماغنس، الجامعة العبرية، الطبعة الأولى 1944م، الطبعة الثانية 1981م.
2. فورات، يهوشع، من اضطرابات لثورة-الحركة القومية العربية الفلسطينية 11929-1939، إصدار عام عوبيد، تل-أبيب، 1978م.
3. وقد ترجم كتابه إلى العربية تحت عنوان الثورة العربية الفلسطينية 1936-1939، ونشر في مركز الدراسات العربية والإفريقية الآسيوية في جبعات حبيبه، 1978
4. أرنون-أوحنا، يوفال، فلاحون في الثورة العربية في فلسطين 1936-1939، إصدار لجنة الطلاب في جامعة تل أبيب، 1982م.
5. إيال، يجآل، الانتفاضة الأولى -قمع الثورة العربية على يد الجيش البريطاني في فلسطين 1936-1939/ إصدار معراخوت، وزارة الدفاع، تل أبيب، 1998م.
6. السفري، عيسى، فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية، ج2، ص
7. عقل، محمد، فوزي القاوقجي القائد العام لثورة 1936، رابطة أدباء الشام، وأُعيد نشره في موقع كنوز بتاريخ 8/9/2019
8. عقل، محمد، عبد الرحيم الحاج محمد القائد الأعلى للثورة في فلسطين، حوليات القدس، العدد 18، خريف-شتاء 2014، ص 80-88
9. ياسين، صبحي، الثورة العربية الكبرى في فلسطين 1936-1939، القاهرة، 1961
10. اشتية، محمد، موسوعة المصطلحات والمفاهيم الفلسطينية، دار الجليل، عمان، 2011م، ص 158
11. إيال، يجآل، مصدر سبق ذكره، ص ص15
12. السفري، عيسى، مصدر سبق ذكره، ج2، ص 10. أرنون أوحنا، مصدر سبق ذكره، ص 21. جريدة فلسطين بتاريخ 17 نيسان 1936، ص 7. جريدة الدفاع بتاريخ 17 نيسان 1936، ص 1، 4. جريدة دافار بالعبرية، بتاريخ17 نيسان 1936، ص 1.
13. قاد المجموعة الشيخ فرحان السعدي انظر: فورات، يهوشع، من اضطرابات إلى ثورة (بالعبرية)، ص 195
14. أرنون أوحنا، مصدر سبق ذكره، نفس الصفحة. السفري، عيسى، مصدر سبق ذكره، نفس الصفحة.
15. السفري، عيسى، فلسطين بين الانتداب والصهيونية، ج2، ص 10-11.
16. السفري، عيسى، مصدر سبق ذكره، ج2، ص 11-12. أرنون أوحنا، فلاحون في الثورة العربية في فلسطين (بالعبرية)، ص 21-22
17. أرنون أوحنا، مصدر سبق ذكره. فورات، يهوشع، من اضطرابات إلى ثورة، ص 195
18. أرنون أوحناـ مصدر سبق ذكره، ص 22
19. أرنون أوحنا، مصدر سبق ذكره، ص 22
20. فورات يهوشع، من اضطرابات إلى ثورة، ص 199
21. السفري، عيسى، فلسطين العربية بين الانتداب والصهيونية، ج2، ص 140.
التعليقات