غزّة: من موائد البحر وعوائده

كان البحر أساسًا، هو من حمل بدوره بعض النازحين - اللاجئين إلى شاطئ المدينة عبر قوارب وسفن خرج لها الغزيّون لاستقباله من فيها يوم أن سدّت الطرق البرّيّة خلال أحداث النكبة...

غزّة: من موائد البحر وعوائده

خيام النازحين على شاطئ البحر في غزّة (Getty)

"لولا البحر لمات اللاجئون جوعًا..." هذا ما يعرفه كلّ لاجئ في قطاع غزّة عايش أحوال النكبة عام 1948، وليس فقط لأنّ ما يقارب نحو 220 ألف لاجئ نزح من مدن وأرياف مختلفة من شمال وشرق غزّة المدينة إليها، والّتي لم يكن تعداد هذه الأخيرة يزيد عن 80 ألف نسمة، إنّما لأنّ غزّة ذاتها قد فقدت أريافها وأطرافها الّتي كانت مصدر غلال رزق أهالي المدينة، ممّا جعلهم بحال يصعب على اللاجئ إليها حتّى. الأمر الّذي كاد بأن يتسبّب بكارثة غذائيّة على كارثة الاقتلاع لولا البحر الّذي أطعم الناس في حينه. وفي ذلك السياق، أي اللجوء، اقتربت غزّة أكثر من البحر بعد أن توسّط مقام بعض مخيّمات اللاجئين بين المدينة وشاطئ البحر، لا بل بعضها حملت أسماء متّصلة بقربها من حرف البحر مثل مخيّمي الشاطئ والرمال.

كان البحر أساسًا، هو من حمل بدوره بعض النازحين - اللاجئين إلى شاطئ المدينة عبر قوارب وسفن خرج لها الغزيّون لاستقباله من فيها يوم أن سدّت الطرق البرّيّة خلال أحداث النكبة. في مذكّراته "السيرة والمسيرة" يتحدّث سليم الزعنون عن تلك الأيّام القيلة على غزّة والبحر، حيث أوكلت لأولاد المدارس الغزيّين، ومن بينهم الزعنون، مهمّة جمع الخبز من بيوت المدينة، ومدّ النازحين به لسدّ جوعهم. كما ظلّ شاطئ البحر دليل النازح – اللاجئ إلى بلده شمالًا، فعبد الرحمن عوض اللّه ابن بلدة أسدود المهجّرة في مذكّراته "من فيض الذاكرة" كان قد شهد التهجير من قريته عام النكبة واللجوء جنوبًا إلى غزّة، وقد أشار إلى ظاهرة تسلّل بعض اللاجئين من معسكرات لجوئهم إلى قراهم الّتي هجروا منها من أجل جلب قمح بيوتهم المخزون فيها إلى معسكر اللجوء.

كان ذلك في شتاء مطلع عام 1949، حين بدأ يحجب ضباب شتاء البحر الرؤية عن أبراج المراقبة الصهيونيّة، ليستغلّ اللاجئون – المتسلّلون فرصة التسلّل عبر شاطئ البحر إلى قراهم وبلداتهم شمالي القطاع، خصوصًا حين دبّ جوع اللجوء في الأشهر الأولى منه، ممّا اضطرّ كثيرون إلى العودة تسلّلا وفتح مطامر القمح في ساحات بيوتهم التي هجّروا منها. كان من عادة فلّاحي قرى السهل الساحليّ في فلسطين، وخصوصًا في الجنوب، خزن القمح في جورة كبيرة في الأرض تسمّى "مطمورة"، حيث يحفظ القمح فيها إلى فصل الشتاء مؤونة لأهل البيت. غير أنّ ذلك كان إذا ما تسنّى للمتسلّل النجاح في التسلّل، وجلب قمحه المسلوب لسدّ حاجيّات أهله في الأشهر الأولى من لجوئهم، بينما بعدها كان البحر بخيره هو من ساند لاجئي القطاع.

في مذكّراته "غزّاوي: سرديّة الشقاء والأمل" يتذكّر جمال زقوت فيها كيف مكّن البحر اللاجئين في مخيّم الشاطئ إعداد موائد طعام من ثروته السمكيّة المتاحة، فوحده البحر من كان يوفّر مائدة طعام حقيقيّة لسكّان المخيّم وباقي المخيّمات الّتي كانت ما تزال تسمّى في حينه "معسكرات". وممّا يذكره صاحب سرديّة الشقاء موائد شهر رمضان الفضيل والثقيل معًا، فالحمّص والمخلّلات كانت مقبّلات على هامش مائدة: "الأسماك المقليّة، أو كفتة السردين، أو الصيّاديّة، أو صينيّة السردين في الفرن بالطحينة أو بالبندورة والبصل"، حيث التنوّع في إطار المطبخ البحريّ؛ لأنّه المطبخ المتاح الوحيد الّذي كان يجود على لاجئي القطاع في سنوات لجوئهم الأولى، فضلًا عمّا تيسّر من مؤونة شهريّة بدأت تقدّمها منظّمة "الكويكرز" الأميركيّة، ثمّ منظّمة غوث اللاجئين بعد تأسيسها مطلع الخمسينيّات.

وفي ذلك السياق، بدأت تتوثّق علاقة الغزيّين بمطبخهم البحريّ – الغزيّ، أي في سياق اللجوء، كما توثّقت علاقة الأهالي بالصيّادين والبحّارة الّذين كثروا على شواطئ القطاع، فمنهم من كان صيّادًا أصلًا قبل لجوئه في قرى عسقلان المهجّرة مثل الجورة والمجدل وحمامة وغيرها، ومنهم من دفع به حال اللجوء والاقتلاع وافتقاد مصادر الرزق في الأرض إلى ركوب لجّة البحر وامتهان صيد السمك. فرش من السردين كما يقول الغزيّون في عامّيّتهم، وأسماء من قاموس السمك البحريّ – الغزيّ: المرمير، الأسكنبلة، الغبص، البوريّ، الذهبانيّ، المليطا، واللوكس... وغيرها من أسماك ما أنزل اللّه بها من أسماء، ومع ذلك "عرف كلّ من عاش في مخيّمات الساحل أنّ بحر غزّة وسردينه بالتحديد، أنقذا اللاجئين من مجاعة محقّقة" يقول صاحب مذكّرات سرديّة الشقاء.

كان السمك، يقدّم للمدرّسين المعلّمين في المخيّمات كأجر لهم مقابل تعليمهم أولاد المخيّم في سنوات اللجوء الأولى، بحسب ما يذكر معيّن بسيسو في مذكّراته "دفاتر فلسطين"، وكذلك عبد الرحمن عوض اللّه صاحب "من فيض الذاكرة" يقول إنّ راتب معلّم مدارس المخيّمات في مطلع خمسينيّات القرن الماضي كان "سمكًا معه كيسين من الزبيب وعلبة لحم". كمّا من عادة لاجئي المخيّمات الساحليّة في القطاع، كان النوم، وتحديدًا الرجال على رمال شاطئ البحر، وخصوصًا افتراشهم رمال المواقع التلية على البحر الّتي يسمّيها أهل غزّة بعامّيّتهم الساحليّة "سوافي"؛ سوافي الرمل، أي تلال الرمل. كان ضيق حال بيوت صفيح وخيام لجوء اللاجئين يجعل من شاطئ البحر متنفّسًا يخرج إليه الرجال ليلًا لحلّ أزمة الاكتظاظ في الخيام وبيوت الزينكو والصفيح في المعسكرات.

يقول جمال زقوت في أثر البحر: "كلّ شيء تغيّر ولم يعد كما كان، باستثناء لون البحر، وإيقاع موجه، ومزيج ألوان غروب الشمس المتغيّرة كبصمات بشريّة لا تكرار فيها، على صفحته الممتدّة نحو أفق بعيد". كانت هذه شذرات من ذاكرة لاجئ عايش لجوء نكبة 1948، من على شاطئ البحر في مخيّم حمل اسمه "الشاطئ". واليوم وغزّة مثقلة بجراح حرب إبادتها، قد تغيّر عليها لون كلّ شيء، أو رماديًّا بلون الحرب صار كلّ شيء، إلّا البحر ما يزال أزرقًا يعود الغزيّون إلى زرقته كلّما خذلوا.

التعليقات