بير نبالا "تحتضر" خلف الجدار!/ كتب: عمران الرشق

-

بير نبالا
بتثاقل وساقين مرتجفتين من التعب والمرض، ينزل واد وعرا يوصله إلى شوارع خلفية تقوده إلى مشفى بالقدس للعلاج، بعد أن بات الجدار الفاصل يسد الطرق العادية في وجهه.

يونس مليحات (25 عاما)، من قرية بيرنبالا (شمال غرب القدس)، يحاول في المرات الثلاث التي يتوجه فيها كل أسبوع لغسيل كليتيه، التخفي وراء الأسوار الحجرية والأشجار، بعيدا عن أعين جنود الاحتلال الذين يمنعون أحدا من عبور المنطقة، بعد أن أغلقوا الطريق الرئيسي الذي يربطها بالقدس بالتراب والصخور، وضربوا حولها سياجا يتواجدون بجانبه باستمرار، تمهيدا لإقامة الجدار.

يونس ذو الوجه الأصفر الشاحب، يقول انه ابتدأ غسيل الكلى قبل ثلاثة سنوات، وانه كان يصل إلى القدس بالالتفاف على الحاجز العسكري الوحيد الموجود في طريقه، إلا أن الأمور تعقدت الآن، فجنود الاحتلال لا يسمحون لأحد بالمرور إلا عبر حاجز "قلنديا"، الذي بات يبعد قرابة الساعة بالسيارة، ومثلها للوصول إلى المشفى، إضافة إلى ضرورة حصوله على تصريح من الإسرائيليين لا يتوفر دوما.

ويونس هو واحد من سبعة آلاف فلسطيني يقطنون "بيرنبالا"، باتوا يرون أن الجدار الفاصل يحولها إلى "سجن صغير" يفتقر إلى الخدمات، فمثلا لا يوجد بالقرية إلا مركز طبي واحد لا يقدم إلا خدمات أساسية.

وشرعت إسرائيل في عام 2004، ببناء جدار فاصل يحاصر بيرنبالا وقرى مجاورة لها هي الجيب (خمسة آلاف نسمة)، والجديرة (2.100 نسمة)، وبيت حنينا البلد (3 آلاف نسمة)، في "كانتون" يعزلهم عن القدس والقرى الفلسطينية المجاورة، ولا منفذ له إلا إلى مدينة رام الله عبر حاجز عسكري دائم يوقف الداخلين والخارجين.

ويبدي يونس خشيته من عدم تمكنه من العلاج بالقدس بعد نصب الجدار، ويقول "ابتدأت العلاج في القدس... ملفاتي كلها هناك.... والخدمات أفضل بكثير من رام الله (اقرب المدن إليه بعد القدس)".

نترك يونس، متوجهين إلى وسط القرية، لا يخرق الهدوء شبه التام هناك سوى ضجيج جرافات وشاحنات إسرائيلية تحفر الاسس لكتل الجدار الإسمنتية، ناثرة غبارا ابيض ثقيلا في كل مكان.

القرية التي كانت "مركزا تجاريا واحد الضواحي الراقية" كما يقول سكانها، تبدو شبه خالية، فمحلاتها وورشها الصناعية معظمها مغلق، وشققها السكنية المتعددة الطوابق موصدة الأبواب ومسدلة النوافذ أو متروكة دونما "تشطيب".

ويقدر مجلس قروي البلدة عدد السكان الذين غادروا بقرابة النصف، معظمهم من المقدسيين الذين "فروا" خشية مصادرة "بطاقات هويتهم الزرقاء"، أو من أبناء القرية المغتربين بالخارج، الذين لم يعودوا يزورونها نظرا لسوء أوضاعها.

أما الشارع الرئيسي الذي كان يربط القدس وبلدات كثيفة السكان كالرام وضاحية البريد بالقرى الواقعة إلى الشمال الغربي منها، فلا يمر به إلا سيارات معدودة، وهو ما دفع احد المارة لان يضحك بأسى مستذكرا "أيام كنت اضطر للانتظار طويلا ومن ثم الركض بسرعة حتى أستطيع العبور".

وقريب من السياج الحديدي الذي يغلق مدخل القرية، يجلس سعدي سالم (50 عاما)، بجوار متجره يدخن "الارجيلة" مع صديق له، فيما يغلب الحديث عن الجدار جلستهما.

متجر سعدي الضخم، يبدو خاليا إلا من أكياس طحين وأرز قليلة العدد، ورفوف تناثرت عليها بعض المعلبات ومساحيق التنظيف، فيما لا يتجول بالساحة الكبيرة "التي كانت تعج بالشاحنات والزبائن" كما يقول، إلا قطة وصغارها، اطمئنوا إلى خلو المكان، فخرجوا بحثا عن الطعام.

سعدي الذي يبدو وكأنه لم يستفق من الصدمة، يوضح أن متجره كان في أول القرية، ولكن الجدار وضعه في أخرها، عازلا إياه عن المشترين الذين كان يأتونه من القدس والقرى المجاورة، وبل وحتى من داخل إسرائيل.

ويشير متحسرا بينما يضرب كفا بكف، أن البيع قل عنده بنسبة 90 بالمائة، مؤكدا أنه لا يستطيع الاعتماد على سكان "بيرنبالا" لوحدهم، فهم قليلو العدد، ناهيك أن سير الحركة انتقل إلى مدينة رام الله، حيث بالامكان شراء كل ما يلزم دفعة واحدة.

وبعد مكالمة تلفونية، ونظرات حريصة للتأكد من خلو المنطقة من الجنود، يجمع بعض البضائع بأكياس، ويهربها بسرعة ويدين مرتعشتين من فتحة يحدثها بالسياج الحديدي بعد دفعه بقوه، ليتولى ابنه الذي يتسلل بذات الطريقة، من إيصالها للمتصل، بواسطة سيارة يركنها في الناحية الأخرى من الجدار. سعدي الذي يتصبب العرق من جبينه يقول:"عندما ينصبون الكتل الإسمنتية لن يعود بمقدوري حتى فعل ذلك".

ويؤكد سعدي، الذي يحمل بطاقة هوية مقدسية، انه قريبا ما سيهجر البلدة إلى القدس، للسكن والعمل هناك، خاصة مع اقتراب العام الدراسي الجديد وصعوبة توجه أبناءه وأحفاده إلى المدارس والجامعات ورياض الأطفال الواقعة في الجهة الأخرى من الجدار.

مع اقتراب المساء، نودع القرية كحال الجبال والشمس الغاربة خلفها، فالكتل الإسمنتية الرمادية ستغدو كل ما يشاهده السكان قريبا!

التعليقات