صيّادو غزّة: الاحتلال يحاصر "أبناء البحر"

يسبقون الشمس إلى البحر بحثًا عن رزقٍ قيل لهم إنه لا ينضب،  قبل أن يقرر الاحتلال خلاف ذلك، وتحاصر البحر كما الجو والأرض وتقرّ هامشًا ضيّقًا للصيد للصيادين في شاطئ بحر قطاع غزة للبحث عن الأسماك فيه، فهم ضحايا سياسات

صيّادو غزّة: الاحتلال يحاصر

(أ ب أ)

يسبقون الشمس إلى البحر بحثًا عن رزقٍ قيل لهم إنه لا ينضب، قبل أن يقرر الاحتلال خلاف ذلك، ويحاصر البحر كما الجو والأرض ويقرّ هامشًا ضيّقًا للصيد للصيادين في شاطئ بحر قطاع غزة للبحث عن الأسماك فيه، فهم ضحايا سياسات دولة الاحتلال والتطورات الميدانية على الأرض.

على مدار سنوات العدوان الإسرائيلي طويل المدى يعتبر ملف صيادي القطاع مكونًا أساسيًّا لأي اتفاق بين المقاومة والاحتلال عبر الوساطات المختلفة، فأصبح خبر توسيع مساحة الصيد أو تقليصها خبرًا عاجلًا للغزّين حاله كحال معبر رفح، فلا يكفي الصيادين أن يُمنعوا من تحديث قواربهم التي عفا عليها الزمن وعدم قدرتهم على تطويرها وأن يُحرموا من استيراد الماكينات الحديثة والأدوات التي تستخدم في الجر تحت بند المواد مزدوجة الاستخدام، بل يمنعون من أن يُبحروا بحرية في بحرهم الذي ترعرعوا على شواطئه وبين أمواجه.  

أبناء البحر

في الماضي، كانت تصدح من مراكب الصيادين في غزة أغنيات للبحر يغنيها أبناءه مثل "عندك بحرية يا ريّس، والبحر كويس.." و "يا بحر غزة وبموجٍ عالي، ردد ترنيمة لأغلى الغوالي"، ويبحرون في بحرٍ يشكل لهم مساحة أمان قبل أن يكون مصدر رزق، لكن كحال الغزيين جميعًا يرفض الاحتلال الإسرائيلي أن يترك لهم مساحة آمنة، فيلاحقهم في مصادر رزقهم ويحولها إلى كابوس لا ينتهي.

الصياد محمد بكر

منذ أن كان طفلًا يسكن قرب البحر، كان ينظر الصياد محمد بكر (56 عامًا) إلى البحر آملًا أن يجد فيه مهنة كما غالبية عائلته، والذي يعرف غزة يعرف أن عائلة بكر هي أحد أهم العائلات التي تحترف صيد السمك كمهنة يتوارثها أبناء العائلة تباعًا؛ ويتحدث بكر إلى "عرب 48" عن حياة الصياد الغزّي ويقول: "نحن أبناء البحر، ولدنا فيه وعانينا كثيرًا بسبب هذه ‘التهمة‘ وندفع فاتورتها باستمرار، كان الاحتلال يسمح لنا سابقًا بالإبحار عشرين ميلَا داخل شاطئ بحر غزة، ثم تقلصت المساحة تباعًا لتصل إلى ثلاثة أميال في غالبية الأوقات، وهذا جزء من حصار كبير يفرضه الاحتلال على غزة بأكملها، وهذا نصيب الصيادين منه".

لبكر الصياد طفل صغير اسمه إسماعيل كان يبلغ من العمر تسع سنوات عندما قتلته زوارق الاحتلال الإسرائيلي مع أبناء عمه الثلاثة عاهد، زكريا، ومحمد على شاطئ بحر غزة خلال عدوانها على غزة عام 2014، كان محمد ينظر إلى والده بفخر ويأمل أن يصبح صيادًا مثله عندما يكبر وكثيرًا ما ذهب مع والده إلى البحر الذي اختلطت رمال شاطئه بدمائه البريئة.

الصياد محمد بكر يوم استشهاد ابنه

بحسرة كبيرة في القلب، يُكمل بكر حديثه عن ما يعانيه الصيادون يوميًا من الاحتلال في البحر، ويقول: "لا يتوقف عداء الاحتلال للصيادين على تقليص مساحة الصيد فقط، بل يطلق النار علينا مرارًا في البحر، ويسرق مستلزمات الصيد إذا هاجم مراكبنا وتقدر قيمتها بمبالغ عالية جدًا، وحتى عندما يُعلن عن توسيع مساحة الصيد يكون ذلك إعلاميًا دون تطبيق على الواقع، وأحيانًا تسحبنا المياه دون قدرة لنا على  السيطرة ونتجاوز المساحة المحددة ويعرضنا ذلك لإطلاق نار وملاحقات خاصة أننا لا نمتلك جهاز تحديد المساحة المعروف باسم "سونار".

وأشار بكر في حديثه إلى نقطة لا يعرفها البعض، وهي أن الاحتلال غالبًا ما يقرر تقليص مساحة الصيد أثناء تواجد الصيّادين داخل البحر، وأثناء انقطاعهم عن متابعة الأخبار مما يعرضهم للمداهمة وإجبارهم على ترك شِباكهم في البحر تحت ضغط إطلاق الرصاص وضخهم بالمياه العادمة.

إغلاق البحر

ضجت مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأسبوع الماضي بالاستهزاء من المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي باللغة العربية أفيخاي أدرعي، الذي استغل صورة اللاعب الدولي المصري محمد صلاح ممسكاُ سمكة، وعلق عليها، بطريقة مثيرة للسخرية ومحاولة لتزييف الوعي: بدكم تصيدوا مثل هاي السمكة بغزة؟ أكيد بتقدروا، بس بدون "إرهاب"، في محاولة لتبرير إغلاق البحر.

 منذ انطلاق مسيرات العودة وكسر الحصار في بداية العام 2018، يتم الحديث عن توسيع مساحة الصيد، لكن الاحتلال يراوغ في المساحة المقررة بـ15 ميلًا بحريًّا، ولا يلتزم بها ويقوم بمطاردة واعتقال الصيادين ومصادرة مراكبهم. تستخدم إسرائيل المساحة الممنوحة للصيادين في قطاع غزة، كأداة ووسيلة لابتزاز الفصائل الفلسطينية والضغط عليها لإيقاف إطلاق البالونات الحارقة، وأعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي إثر الحرائق الّتي وقعت في مناطق الداخل المحتل، بإغلاق البحر حتى إشعار آخر.

وفي حديثه لموقع "عرب 48" أكد نقيب الصيادين  نزار عياش، أنه لا يوجد معلومات، حتى هذه اللحظة، بقرار من سلطات الاحتلال الإسرائيلي لفتح بحر غزة أمام الصيادين الفلسطينيين، كما أن تقليص مساحة الصيد وإغلاق البحر، يعود بالسلب على الصيادين، ويشير إلى أن نحو 4000 صياد يعملون في مهنة الصيد ويعيلون نحو 70 ألف شخص،  يعانون من شح كمية الصيد، وباتوا في ظروف معيشية وحياتية صعبة للغاية.

ووفقًا لدراسة تقوم بإعدادها شبكة المنظمات الأهلية في قطاع غزة لم يتجاوز مستوى الفرد 2 كغم سنويًّا من الأسماك الطازجة منذ العام 2015.

حبسٌ وموت

في بيت صغير يبعد أمتارًا قليلة عن شاطئ البحر في مخيم الشاطئ للاجئين غرب غزة يجلس الصياد صالح أبو ريالة (49 عامًا) والشِّباك محيطة به وأولاده الذين يساعدونه في عمله، مازح زوجته وبناته في محاولة لكسر حالة الصمت في البيت أمامنا وقال: قالت والدتهم بسخرية حزينة، "يلا بدل الصيد بنعمل لكم ذرة وترمس تبيعوهم".

"استشهد ابني إسماعيل العام الماضي وسط بحر غزة برصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي وهو يقوم بعمله دون أن يتجاوز مساحة الأربعة أميال المُقررة من الاحتلال، ودون أن يكون هناك سبب لقتله، واحتجز جثمانه ثمانية عشر يومًا، وابني الآخر مسجون لدى الاحتلال وحكم عليه بـ23 شهرًا قضى منها سبعة أشهر، بسبب تجاوزه ميلًا واحدًا فقط"، قال أبو ريالة متحدّثًا عن تأثر أسرته بمهنة الصيد ومعاناتهم في البحر المُحتل والمحاصر، وشارحًا صراعهم مع الموت بسبب لقمة العيش.

الصياد صالح أبو ريالة

واستذكر أبو ريالة إحدى مغامراته والصيادين في البحر يوم تعطل المحرّك "الماتور"، وتعذّر عليهم تصليحه بشكل سريع، ليهاجمهم جنود الاحتلال في عرض البحر ويطلقوا عليهم النار دون إنذار، وصادروا مراكبهم الصغيرة؛ ويشرح: "خسرت مبالغ كبيرة، إذا تجاوزنا الحدود بغير قصد نخسر حياتنا وأموالنا، هذه هي القاعدة"، إذ يبلغ ثمن المركب الواحد عشرة آلاف دولار. وأشار الصيّاد إلى أن جميع الاعتداءات جرت في المناطق التي يسمح الصيد فيها، مضيفًا أنه حين يتم الإعلان عن مساحة صيد أكثر من 6 أميال، يتمكنون من اصطياد كميات أكبر من الأسماك وأنواعٍ مختلفة، وأوضاعهم تتحسن نوعًا ما.

وسط الأوضاع غير المستقرة التي ترمي الصيادين بسهامها، لم تتوقف معاناة الصيادين في غزة الذين يحاولون توفير قوت يومهم كونهم لا يملكون مهنة أخرى، سيبقى شاطئ بحر غزة شاهدًا على عذابات الصيادين، قهر لا يشعر به إلا الصياد الفلسطيني الذي لا يزال يعاني من حصار بحر غزة، ويتساءلون عن اليوم الذي يعودون فيه أسيادًا للبحر.

التعليقات