26/09/2010 - 11:09

جمال عبد الناصر: المحاولة الأخيرة لوقف المذبحة في عمان

كان محمد حسنين هيكل أفضل من استطاع أن يلخص الوضع في الأردن في أيلول 1970، وأفضل من راقب تفصيلات الأحداث خلال قربه من الرئيس جمال عبد الناصر، وأفضل من عرف مواقف الأطراف العربية، ولا سيما مواقف ياسر عرفات والملك حسين. وشهادته عن جمال عبد الناصر في ساعاته الأخيرة شديدة الدلالة والإحاطة.

جمال عبد الناصر: المحاولة الأخيرة لوقف المذبحة في عمان

كان محمد حسنين هيكل أفضل من استطاع أن يلخص الوضع في الأردن في أيلول 1970، وأفضل من راقب تفصيلات الأحداث خلال قربه من الرئيس جمال عبد الناصر، وأفضل من عرف مواقف الأطراف العربية، ولا سيما مواقف ياسر عرفات والملك حسين. وشهادته عن جمال عبد الناصر في ساعاته الأخيرة شديدة الدلالة والإحاطة.
كانت هناك جلسة بعد الظهر عاصفة، فقد حضرها الملك حسين لأول مرة. وكانت هذه الجلسة قد بدأت في الواحدة بعد الظهر، وانتهت في الثالثة والنصف. وكنت في قاعة الاجتماع قبل ان يدخل عبد الناصر، وكان جوها متوترا.
كان الملك حسين مع بعض ضباطه في ركن من القاعة. وكان ياسر عرفات على مقعد في صدرها يضبط أعصابه بالكاد. وكان الملك فيصل في مقعده التقليدي في هذه الاجتماعات وكان واضعا يده على خده يفكر.
تحدثت قليلا مع ياسر عرفات، وكان على وشك ان ينفجر. ودخل وقتها العقيد معمر القذافي ليجلس الى جوار ياسر عرفات.
وانتقلت الى حيث كان الملك فيصل جالسا، اقطع عليه تفكيره وأقول له: «ألا تريد جلالتك ان تقوم بعملية نزع سلاح في هذه القاعة؟» والتفت الملك فيصل إليّ يسألني عما اقصد، وقلت:
ـ ان الملك حسين يعلق مسدسا في وسطه، وياسر عرفات يعلق مسدسا في وسطه، ومعمر القذافي يعلق مسدسا في وسطه... والجو كله مشحون.
قلت ذلك وابتسمت. وقال الملك فيصل: «لا أعرف في الحقيقة... هل جئنا الى هنا لنتفاهم أم لنتقاتل؟».
ثم استطرد الملك: «لكني لا استطيع ان انزع سلاح احد... ربما يستطيع فخامة الرئيس... هو وحده الذي يستطيع».
وأشار الملك الى باب القاعة، وكان الرئيس عبد الناصر يدخل منها في تلك اللحظة ويتجه نحونا. وقال له الملك فيصل:
«فخامة الرئيس... لا أريد ان اجلس وسط كل هذه المسدسات».
وقال الرئيس ضاحكا من قلبه:
«لا عليك... سوف اجلس أنا وسط هذه المسدسات... وتفضل أنت فاجلس في مكاني».


وعندما انتهت الجلسة في الثالثة والنصف، كنت في انتظاره بجناحه في الدور الحادي عشر، وعرفت منه بعض التفاصيل عما حدث، وتركته ليستريح بعض الوقت، ودخل غرفة نومه وكانت الساعة الرابعة، وتوجهت أنا الى بيتي، أغير قميصي كما قلت له وأعود بعد قليل. وكان الموعد المحدد للجلسة الختامية هو الساعة السادسة مساء.
وفي الساعة الخامسة كنت ادخل على أطراف أصابعي مرة اخرى الى جناحه، وكان محمد داود الذي يقوم بخدمته الخاصة واقفا على باب حجرة النوم واقترب مني يقول:
ان الرئيس نائم، وقد طلب ايقاظه في الساعة الخامسة والنصف.
ودخلت غرفة الصالون، المواجهة لغرفة النوم، واتجهت الى الشرفة، اطل منها على النيل... وانتظر.
وبعد دقائق جاءني السيد محمد احمد السكرتير الخاص للرئيس يقول لي:
ـ ان الرئيس جعفر نميري، والسيد الباهي الادغم، في طريقهما الآن الى جناح الرئيس فهل نوقظه؟».
وقمت باستقبال الرئيس نميري والسيد الباهي الادغم. وقلت لهما همسا:
ـ ان الرئيس نائم... ولم نشأ إيقاظه... لكننا نوقظه إذا أرادا».
وقال الرئيس نميري:
« نتركه بعض الوقت... لقد جئنا بمشروع اتفاق كلفنا بإعداده على ضوء مناقشات جلسة بعد الظهر، ليكون أساسا لحديثنا في جلسة المساء».
وتناقشنا في بعض بنود المشروع... واتجه حديثنا الى بعض ما دار في جلسة بعد الظهر... ثم كان الوقت يقترب من الخامسة والنصف. وطلبت الى محمد داود ان يدخل لإيقاظ الرئيس.
وجاء محمد داود بعد دقيقة يطلبني الى غرفة نوم الرئيس وذهبت، وكان واقفا بجوار الفراش، واستمع إليّ في ثوان قليلة ثم قال:
«اجلس معهما... وسوف آخذ حماما سريعا والحق بكم».
واستطرد وهو يتنهد:
«لقد كنت في نوم عميق من شدة التعب».
ولحق بنا الى الصالون، وكانت الساعة الخامسة والنصف تماما.
وأمسك بيده مشروع الاتفاق، ولم يجد معه نظارته، وناولني الأوراق، وطلب مني ان اقرأه على مسمعه.
وكان تعليقه ان المشروع يمكن ان يكون أساسا مقبولا «إذا خلصت النيات».
وجاء السيد محمد احمد يسلمني رسالة بعث بها ياسر عرفات، الذي كان يقيم في الدور الرابع من الفندق.
وسألني الرئيس عما بها، وقلت:
«ان ياسر تلقى معلومات من عمان بأن الجيش الاردني يكثف هجماته، لتتم له السيطرة على عمان الليلة، وهو يريد تعليمات تصدر الى ضباط المراقبة هذا الصباح الى عمان، كي يباشروا عملهم، وبالذات في منطقة الاشرفية».
وقال الرئيس:
«فلنطلب ياسر عرفات نبحث معه مشروع الاتفاق قبل الجلسة... واسألوا ايضا إذا كان معمر القذافي قد وصل... وينضم إلينا هنا».
وجاء ياسر عرفات، وكان منفعلا، وبادر الى القول، موجها حديثه الى الرئيس:
«سيادة الرئيس... كيف نستطيع ان نأتمن هؤلاء الناس، وهم هناك مصرون على التصفية... بينما نحن هنا نتباحث... لا فائدة، وليس أمامنا إلا ان نهد الدنيا على رؤوسهم ورؤوسنا، ولتكن النتيجة ما تكون».
وقال الرئيس:
ـ «ياسر... يجب ألا يجعلنا أي شيء نفقد أعصابنا... لا بد من ان نسأل أنفسنا طوال الوقت: ما هو الهدف؟
الهدف كما اتفقنا هو وقف اطلاق النار بأسرع ما يمكن.
انني تحركت من اجل هذا الهدف، بناء على تقديري للظروف، وبناء على طلبك أنت لي من اول لحظة.
ان موقفكم في عمان مرهق... ورجالكم في اربد عرضة للحصار.
ولقد قلت لك من اول دقيقة اننا لا نستطيع مساعدتكم بتدخل عسكري مباشر من جانبنا، لان ذلك خطأ، لان معناه انني سأترك إسرائيل لأحارب في الأردن.
كما ان ذلك إذا حدث سوف يفتح الباب لتدخلات اجنبية تنتظر هذه اللحظة.
انني احاول ان اكسب وقتا كي استطيع زيادة قدرتكم على المقاومة، ولتصلوا الى حل معقول.
انني خلال الأيام الأخيرة فتحت لكم أبواب كل ما اردتموه من سلاح وذخيرة.
كما انني أرسلت لكم بالطائرات رجال الكتائب الفلسطينية الثلاث من جيش التحرير التي كانت موجودة على الجبهة المصرية كي تعزز موقفكم.
وأنت تعرف انني بعثت الى بريجنيف كي يضغط الاتحاد السوفياتي بكل قوته على الولايات المتحدة الأميركية حتى لا تتدخل... ولقد بعثت أنت لي تطلب مني ان افعل ذلك وقد فعلته.
كل ذلك في سبيل ان نكسب وقتا نحول فيه دون ضربة قاصمة توجه للمقاومة، وتعوق كذلك وحدة قوى النضال العربي».
واستطرد عبد الناصر:
«انني حرقت دمي خلال الأيام الأخيرة كي أحافظ عليكم: وكان اسهل الاشياء بالنسبة الي ان اصدر بيانا انشائيا قويا، اعلن فيه تأييدي لكم، ثم اعطيكم محطة إذاعة تقولون منها ما تشاؤون ضد الملك... ثم اريح نفسي واجلس لاتفرج. لكني، بضميري، وبالمسؤولية، لم أقبل ذلك .
واستطرد عبد الناصر:
«انني استطيع ان انهي المؤتمر هذه اللحظة... ان المؤتمر من وجهة النظر السياسية قد حقق كثيراً.
ذهب الأخ النميري أول مرة وعاد بأربعة من زعماء المقاومة استخلصهم بالضبط من السجن.
وذهب الأخ النميري مرة ثانية وعاد بك.
ثم صدر عنا بتقرير النميري والبعثة التي رافقته الى عمان، تقرير اوضح الحقيقة كلها، وشكل قوة ضغط سياسية هائلة.
استطيع ان أترك الامور على هذا الحد واستريح.
لكني اسأل نفسي وأسألك: ما هو الهدف؟ هذا هو السؤال الذي لا يجب ان ننساه.
هدفنا ما زال هو وقف اطلاق النار. لإعطائكم فرصة لإعادة تقدير موقفكم، واعادة تجميع قواكم.
ونحن الآن امام فرصة للاتفاق.
هل نحاول؟ او نسكت وننسى هدفنا.
لك القرار. لان موقفي منذ اللحظة الأولى كان من أجلكم، من اجل حمايتكم وحماية الناس الذين لا ذنب لهم، والذين هم الآن قتلى لا يجدون من يدفنهم... وجرحى لا يجدون من يعالجهم... وشاردون بين الانقاض، أطفالاً ونساء، يبحثون في يأس عن أبسط حق للإنسان، وهو حق الأمن على حياته!».
وسكت عبد الناصر... وساد الصمت لحظة.
ودخل العقيد معمر القذافي. وجاء بعده السيد محمد احمد يقول ان كل الملوك والرؤساء بدأوا يفدون على القاعة في انتظار بدء الاجتماع.
وقال الرئيس عبد الناصر:
ـ هل نذهب؟
وأردف:
ـ هل نذهب لنفض الاجتماع، او لنواصل الحديث، سعيا وراء هدفنا؟
وقال الرئيس نميري:
ـ على بركة الله نذهب.
وقام الجميع الى المصعد... نازلين الى قاعة الاجتماعات في الدور الثاني، وكان ياسر عرفات ممسكا بيدي يقول لي: «له الله... كتب عليه ان يحمل هموم العرب كلهم... وخطاياهم أيضا».
كان الاجتماع مقتصرا على الملوك والرؤساء، وعدت الى الدور الحادي عشر من فندق هيلتون، ادخل الغرفة التي كان يقيم فيها السيد أنور السادات. وكان جالسا في الشرفة وأمامه جهاز راديو يحاول ان يسمع منه احدى المحطات.
ووقفت معه بعض الوقت، نتحادث فيما هو جار، وفيما هو محتمل، ثم ذهبت اجري اتصالات تلفونيا مع «الأهرام»، وجاء من يطلبني بسرعة الى قاعة الاجتماعات، وكان السيد الباهي الادغم هو الذي يريدني، ووقف معي في مدخل القاعة يقول لي انه إذا انتهى الاجتماع الى اتفاق... وإذا أقر تكليفه برئاسة لجنة الرقابة على تنفيذه، فهو يريد ان يأخذ معه وفدا من الصحافيين يمثل الصحافة العربية والعالمية، ليكون الرأي العام نفسه رقيبا وشاهدا.
وحبذت الفكرة...
وعاد هو الى القاعة، وفكرت من جانبي ـ متوقعا ان يطول الاجتماع ـ في الذهاب الى «الأهرام» لاجد كبير الياوران على التلفون يطلبني ويقول لي:
ـ ان الريس يريدك في القاعة فوراً».
وعدت بسرعة الى فندق هيلتون، متوجها الى القاعة، ولمحني الرئيس عبد الناصر ادخل من بابها فأشار إليّ ان اجلس بجانبه.
وقال لي همسا:
«لقد تم الاتفاق... وهم الآن يكتبون صيغته النهائية على الآلة الكاتبة كي نوقع عليها جميعاً.
وكانت الدهشة من السرعة بادية في عيني.
وقال لي الرئيس ضاحكاً:
ـ مالك؟».
قلت:
ـ لم يتغير رأيي بعد الاتفاق، عما كان عليه وقت الصراع. ما زلت اقول كما كنت اقول لك: العقل العربي في حالة تراجع الى الغريزة... تفكيرنا رماد... وعواطفنا حريق».
قال:
«حتى بعد الاتفاق تقول ذلك؟»
قلت:
«نعم... واقول اننا كنا وما زلنا قبائل... نغضب في لحظة ونهدأ في لحظة... نشهر السلاح في وجوه بعضنا، وبعد قليل نتصافح ونتعانق، كأن لم يحدث شيء».
قال وهو لا يزال يضحك:
«دعك الآن من الفلسفة... ليس هناك وقت لها... هناك هدف نسعى إليه الليلة. أما الفلسفة فنستطيع تأجيلها الى الغد. وسيكون لديك كل الوقت لتغرق فيها!».
ثم راح يتحدث عن ترتيبات اعلان الاتفاق... ثم تنفيذه.
ثم طلب إليّ ان الحق به بعد الاجتماع في جناحه.
وجاء الى جناحه في الدور الحادي عشر. وكانت سعادته بالوصول الى اتفاق تغطي إحساسه بالإرهاق بعد كل ما عمل وبذل.
ووقف في الشرفة المطلة على النيل وقال:
«هذا اجمل منظر تراه العين».
وجاء أنور السادات وحسين الشافعي وعلي صبري، وراح يروي لهم بطريقته المرحة بعض ما دار في الاجتماع.
ثم سأل فجأة:
ـ أين معمر القذافي؟
وجاء السيد محمد أحمد بعد قليل يقول ان الرئيس معمر القذافي توجه من قاعة الاجتماع الى المطار ليعود الى بنغازي، وانه عندما صافح الرئيس بعد انتهاء الجلسة فعل ذلك مودعا. وهو لا يريد ان يثقل على الرئيس. ولهذا فهو يرجوه ان لا يذهب لوداعه في المطار.
وقال الرئيس على الفور:
ـ اتصلوا بالمطار وعطلوا الطائرة حتى اذهب... لا بد من ان اودعه بنفسي».
ثم قال على الفور:
«اظن انه لم يبق هناك داع الآن لبقائي في الفندق... اريد ان أبيت الليلة في بيتي... لقد أوحشني «الأولاد»، ولعلى استطيع ان أراهم قبل ان يناموا الليلة».
والتفت إليّ يقول:
ـ هل أنت متعب؟
قلت: أبداً.
قال: اذاً، ابق هنا، لقد كلفت الفريق صادق ان يقابل الباهي الادغم، وان يبحث معه ترتيبات سفر لجنة الرقابة...
ثم استطرد:
ـ ولعلك أيضا تقابل أخواننا من المقاومة.
وقلت: انني سأبقى.
ومشيت معه من جناحه الى المصعد، وسلمت عليه قبل قفل الباب... ولم يكن يخطر بخيالي انها آخر مرة اصافحه.
(.......)
في غرفة النوم، كان المشهد يتغير بسرعة لم تكن متوقعة. استمع الرئيس الى مقدمة نشرة الأخبار ثم قال: «لم أجد فيها الخبر الذي كنت أتوقع ان اسمعه». وتقدم منه الدكتور الصاوي وقال: «ألا تستريح سيادتك...». وعاد الرئيس يتمدد تماماً على فراشه، ويقول بالحرف: «لا يا صاوي... الحمد لله. دلوقت أنا استرحت». ولم يفرغ الصاوي من عبارة يقول فيها «الحمد لله يا فندم»، وكان نظره مركزاً على الرئيس، حتى وجده يغمض عينيه، ثم وجد يده تنزل من فوق صدره، حيث كان وضعها، وتستقر الى جواره.
بعدها لم يشعر عبد الناصر بشيء... لم يقل كلمة. وكانت ملامح وجهه تعكس نوعاً غريباً من الراحة المضيئة.

التعليقات